هبة القدس وسيفها: تحطم “جدار الحديد”، والاستقرار الوهمي، والأسرلة، والتطبيع
هبة القدس وسيفها أنجزت وتنجز الكثير على طريق التحرير، برغم الاكلاف الهائلة ودماء الشهداء ومرارات الفقد والتيتم والدمار الذي أحله العدو المجرم على قطاع غزة. أعادت هذه الهبة تعريف الصراع تبعاً للمفردات الأولى من دون تلعثم ومن دون دبلوماسيات سمجة. وحدت فلسطين كما لم تتوحد في العقود الاخيرة، وعلى رافعة المقاومة والرفض الجذري للمشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري. لا يزعم أحد بأن هذه الهبة ستحرر فلسطين، لكنها تقع في قلب الفعل التراكمي التاريخي وتشطب كثيراً من اكراهات المعادلات السابقة، وتدفع معالم الكفاح الى الامام. وفي قلب فعلها التراكمي يكمن في نقضها وتقويضها لنظرية “جدار الحديد” التي يقوم عليها الكيان الاستعماري برمته. لنتأمل هذه النظرية ولو بتوسع، ثم نستنج في ضوئها إنجازات جولة القدس المجيدة هذه.
زئيف جابوتنسكي كان احد غلاة المنظرين الصهاينة في عشرينات وثلاثينيات القرن الماضي، وقاد ما سُمي آنذاك ب “الحركة التصحيحية الصهيونية” قبل قيام الدولة العبرية. حركته “التصحيحية” كانت معارضة لفكرة هرتسل ومنهج “الصهيونية السياسية” التي كانت خطتها تقوم على انتزاع فلسطين عبر الدبلوماسية وإقناع الدول الكبرى بدعم الصهيونية وتشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين وفكرة إقامة دولة لهم في فلسطين، لأن هذه الدولة سوف تكون قاعدة للحضارة الاوروبية ضد “الهمجية الآسيوية”. جابوتنسكي لم يقتنع بالأساليب الدبلوماسية بل بالعنف والاقتلاع والاستيلاء وقتل او طرد سكان البلاد الأصليين، واراد ان “يصحح” الحركة الصهيونية تبعا لتلك الفكرة. عملياً، تطورت الصهيونية وفق خليط من النظريتين وجمعت بين دعم الدول الكبرى وسياسات البطش والاقتلاع. بعد نشوء الدولة انحاز الفكر والممارسة الصهيونية لنظرية جابوتنسكي والتي شرحها بإسهاب تحت عنون “جدار الحديد” في مقالة شهيرة له نشرها سنة 1923. في تلك المقالة كتب ما يلي:
“إن كل شعب اصيل سوف يقاوم أي مستوطنين أغراب طالما يرى فسحة أمل في انهاء الخطر القادم مع الاستيطان الأجنبي. وهذا ما يفعله عرب فلسطين وما سوف يواصلون فعله طالما بقي لهم أي بصيص أمل في الحيلولة دون تحويل “فلسطين” الى “أرض إسرائيل”. ثم يتابع في نفس المقالة الطافحة بالعنصرية وتبني سياسة التطهير العربي قائلا “… لا نستطيع أن نعد عرب إسرائيل او في البلدان العربية بأي شيء، ذلك ان موافقتهم الطوعية (على المشروع الصهيوني) غير واردة. لذلك فعلى الذين يحملون فكرة ان اتفاقا مع السكان الأصليين هو شرط جوهري للصهيونية ان يقولوا “لا” ثم يتركوا الصهيونية. الاستعمار الصهيوني، حتى في أكثر صوره محدودية، يجب إما ان ينتهي وإما ان يتواصل على الضد من رغبة السكان المحليين. ولهذا فليس ثمة طريقة لهذا الاستعمار كي يتواصل ويتحقق الا بالقوة –عبر جدار حديدي لا يتمكن السكان المحليين من اختراقه. وهذه سياستنا تجاه العرب أيضا. … بعضنا يفضل ان يقوم هذا الجدار بحراب يهودية، وبعضنا الاخر يقترح حراباً بريطانية، وبعض ثالث يقترح ان يكون عبر حراب اتفاق مع بغداد … لكن المهم اننا جمعياً نريد جداراً حديدياً.” يفصل جابوتنسكي في نظريته ويقول بضرورة اغلاق باب الامل نهائياً امام الفلسطينيين وتحطيم ارادتهم كلياً بحيث لا يجدون بديلا عن الاستسلام والرضوخ لواقع “الجدار الحديدي” الصلب الذي لا يستطيعون هدمه. آنذاك، أي عندما يتأكد للفلسطينيين والعرب ان لا طريق أمامهم سوى الاستسلام يمكن الوصول الى توقيع اتفاق معهم، يكون عمليا صك استسلام وبحسب الشروط والإملاءات الصهيونية. لذلك فإن أي شكل من أشكال مقاومة المشروع الصهيوني ورفضه والوقوف في وجهه يجب ان تُضرب بكل قسوة ممكنة ويتم تسويتها بالأرض، لأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يمهد لظافرية فكرة واستراتيجية “الجدار الحديد”.
وعلى أفكار جابوتنسكي هذه تربى والد بنيامين نتنياهو الذي عمل سكرتيراً خاصاً له واصبح لاحقاً من عتاة مؤرخي اليمين العنصريين، ومن مدرسة جابوتنسكي تخرج أهم القادة الإسرائيليين من اليمين إلى اليسار، من مناحيم بيغن وشارون إلى اسحق رابين وايهود باراك، وقادة الجيش وقادة المستوطنين وغيرهم. نتنياهو والمؤسسة الإسرائيلية والاستيطانية الحاكمة اليوم هي أفضل تجسيد لنظرية جدار الحديد التي تقول بأن العرب والفلسطينيين لن يخضعوا إلا عبر القوة، وعندما تُدمى رؤوسهم وهو يضربون بها جدار الحديد ويصلون الى نقطة الاستسلام، عندها فقط يمكن عمل سلام معهم حسب شروطنا. هذا ما قاله نتنياهو عشية وبعد توقيع اتفاقات “السلام الابراهيمي” مع الامارات والبحرين والسودان والمغرب، وشدد على أنه يوقعون معنا اتفاقيات لأننا أقوياء وفرضنا انفسنا بالقوة.
التذكير بهذه النظرية الجامعة للفكر والممارسة الصهيونية مهم في هذه اللحظة الراهنة، ويساعدنا في موضعة هبة القدس وسيفها ضمن السياق التاريخي العريض لها ولنظرتها للمقاومة الفلسطينية. هذه المقاومة هي التي استهدفها على الدوام جدار الحديد واراد كسرها منذ سنوات الاستعمار البريطاني حتى الانتفاضتين والحروب على غزة. والحنق الشديد الذي يُترجم في التدمير الجنوني الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي ضد أي مظهر من مظاهر المقاومة، كما نرى حالياً في نازيته ضد قطاع غزة كما في مدن الداخل، يعود جذره الى فكرة التركيع التي تنطوي عليها نظرية جدار الحديد وضرورة كسر إرادة الفلسطينيين للأبد. على ذلك فإن أول وأهم انجاز لهبة القدس وسيفها يكمن في تحطم جدار الحديد هذا ونظريته، وإعادة اثبات ان الفلسطينيين لم يركعوا ولن يركعوا. هذا في حد ذاته يمثل الكابوس الأكبر ويلطم المشروع الصهيوني في وجهه بعد 73عاما من محاولات التركيع التي ناصرته فيها وايدته كل القوى الاستعمارية من بريطانيا وفرنسا الى روسيا وامريكا.
الإنجاز الثاني لهبة القدس هو تقويض وهم الاستقرار في كل فلسطين، سواء في الداخل او في القدس او الضفة الغربية او قطاع غزة. استراتيجية إسرائيل في إخضاع الفلسطينين تقوم في احد مرتكزاتها على فرض استقرار سطحي في كل منطقة من تلك المناطق، بينما تستكمل تحت السطح مواصلة مشروعها الاستعماري. في الداخل تواصل محاولة اسرلة الفلسطينيين بكل السبل وتدمير بنياتهم الاجتماعية والثقافية والهوياتية، في الضفة الغربية تدمر روحهم الثورية عبر تثبيت نظام أوسلو وبموازاة ذلك الاستقرار الخادع توسع المستوطنات وتلتهم الأرض، في القدس تضاعف من وتيرة التهويد والاستيطان، وفي قطاع غزة تفرض معادلة “الهدوء مقابل الهدوء” لتعزز تقسيم الأرض والديموغرافيا الفلسطينية وتخرج القطاع ومليونيه من الصراع. كل هذه الخديعة التي تقوم على “وضع قائم” مستقر وغير منتفض تم نقضها من الأساس، وكشفت كل ما يحدث تحت السطح من جرائم استعمارية وعنصرية.
الإنجاز الثالث تمثل في تقويض مشروع الأسرلة لفلسطيني الداخل، وإعادة التوحد معهم، ومحو حدود التفريق بين ما يواجهونه وما يواجهه الفلسطينيون في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. اللحظة المقدسية الراهنة كشفت عن عمق العنصرية والابارتايد المختزن ضد فلسطيني الداخل، وكيف أصبحت مدنهم وقراهم أهدافا ليس فقط لوحشية الشرطة والجيش بل وأيضا للمستوطنين الذي قدموا الى المدن والبلدات الفلسطينية من كل مكان للإنتقام والبطش. ظهرت الدولة الديموقراطية العتيدة على بشاعتها الحقيقية وبوجهها العنصري والحقيقي، وانمحت المناطق الرمادية المضللة التي كانت تروج للتعايش بين المُستعِمر والشعب والواقع تحت الاستعمار.
الإنجاز الرابع تجسد في لجم موجة التطبيع الاستسلامية التي عصفت بنا في السنة الأخيرة. انخرس المطبوعون الجدد وغرقوا في خزيهم، وتراجع ربما كثير من المطبعين الذين اصطفوا على الدور علنا او سراً. واثبت الفلسطينيون لأنفسهم اولاً وللجميع ثانيا ان الفعل النضالي والكفاحي في فلسطين هو وحده البوصلة التي تحدد مسيرة السياسة، فإن بهت هذا الكفاح استبيحت قضية فلسطين حتى على مستوى الرسميات العربية، وإن اشتعل هذا الكفاح فإن تلك الرسميات لا تملك الا ان تحاول الظهور بمظهر التأييد وتخشى على شرعياتها.
الإنجاز الخامس نراه في كثافة التأييد الدولي لفلسطين وقضيتها وفي كل القارات. وبرغم تواطؤ كثير من الاعلام الدولي وخضوع منابر الاعلام الاجتماعي لضغط اللوبيات الصهيونية إلا ان نصاعة عدالة قضية فلسطين تحقق انتصارات إعلامية وشعبية متواصلة، وتكسب ارضا جديدة. يعزز ذلك مسار العمل التراكمي القائم على معاداة الظلم وكشف الوجه البشع للاستعمار الاستيطاني العنصري ومؤيديه من حكومات العالم.
اما الدرس الأهم والأصلب الذي تقدمه لنا الهبة المقدسية وسيفها فهو ان المقاومة هي هوية وعنوان وآلية ومعنى وجودنا الراهن ونحن في مرحلة التحرير. هي التي وحدت الفلسطينيين حيثما وجدوا والهبت روحهم الجمعية، وهي التي في لحظة واحدة بخرت الإحباط والسلبية واللامبالاة. وان هذه المقاومة تحتاج دوماً قيادات ميدانية وسياسية وعسكرية لا ترتجف ركبها وتدخل معاركها بكل عناد وتنقل الحرب الى ساحة العدو. هناك اكلاف كثيرة وشهداء وخسارات تدمي القلب، لكن هي هكذا مسيرة الشعوب التي تريد ان تتحرر، وهذا هو الثمن الباهظ للحرية. لا يغزل هذا الكلام حروفه من عاطفة عابرة، بل من تواريخ الشعوب الراسخة وتجارب الحرية والكفاح الغنية.