عند اندلاع الانتفاضة والمواجهات في خريف عام 2000، كنت أودّع مدينة القدس بعد عدّة سنوات أمضيتها هناك في الدّراسة والعمل، وكان أكثر ما يشغلني هو موضوع نقل مركز حياتي وعائلتي من القدس إلى قرية واحة السلام المجاورة للّطرون. كنتُ أخشى من تكرار نهاية تراجيدية لجنين أحمله كما حدث سابقًا، الأمر الّذي سيُحطّمني نفسيًّا إن حدث، ناهيك عن الضّغوطات الّتي كنت أواجهها في عمليّة نقل مسكني من بلد إلى آخر، عملي كمديرة المركز الجماهيري في العيساوية وزيارات متكررة أجريتها للمتابعة والعلاج في مشفى هداسا بجبل سكوبس.

وكانت آخر مرّة حضرت بها إلى المشفى أواخر أيلول من ذلك العام، وكانت زيارة لَم أستطع الخروج بعدها، فقد قرّر الأطباء أن هذا الحمل يجب ان ينتهي قبل أوانه.

خلال مكوثي في المستشفى تغير من حولي كل شيء، ولم افهم لماذا انقلب المشفى وطواقمه وتحولوا لمجموعات من الأطباء والممرضين السّاخطين والمتوتّرين، فتساءلت عمّا يجري في الخارج مع توافد المصابين على المستشفى، وكنت قد سمعت أنّ هنالك مناوشات وتظاهرات في البلد القديمة وفِي العيساوية، ولكنّني لم أولِ ذلك اهتمامًا أكثر من ما معتاد، إذ هذه هي القدس وهذا جزء من طبيعتها، وسينتهي الأمر قريباً. لم أكترث بالموضوع خصوصًا وأنّ ما كان يهمّني تلك اللّحظة هو أن يخرج طفلي سليماً لعالمنا السّقيم وأن احتضنه وأعود به إلى بيتي.

مرت عليّ احداث اكتوبر متأخرة بأسابيع، فعقب انشغالي بالمولود الجديد شعرت إزاء الأحداث وكأنّني أشاهد فيلماً قديمًا او كأنّني كنت في سفر بعيد وقد عدتُ إلى دياري ليحدّثوني عمّا حصل أثناء غيابي. فخبر من هنا وآخر من هناك، إلى أن تلتصق قطع البازل المبعثرة ببعضها البعض علّ الصّورة تتّضح.

بعد اسبوعين من ولادة ابني محمد كنت على موعد جديد مع المستشفى هذه المرّة من أجل المراجعة، وعند الانتهاء منها توجّهت نحو سيّارتي القديمة الّتي تركتها في المستشفى منذ وصلت بها إليه في المرّة الأخيرة. وضعت طفلي في سلته وشغّلت السيارة الصغيرة وكنت مسرورة ان المحرك اعطاني علامات حياة بعد سبات عميق، وكأنه يرحّب بالمولود الجديد.

قررت تلقائيا وبمنتهى السذاجة ان اقود سيارتي من القدس الى واحة السلام وأن أسلك الطريق المختصرة من الرام الى بيتونيا، بيت سيرا بيت نقوبا وصولا للجبل الموصل لواحة السلام، فقد كنت على دراية تامّة كمن كانت تعمل في العيساويّة في المركز الجماهيري وتسكن في ضاحية الرّام في القدس.

كنت أتنقّل من حاجز الى آخر، ومن جندي إلى اخر على تلك الحواجز، وخلال سفري لم اتعرف على المكان الّذي تغيرت ملامحه وقد امتلأ الشّارع بالإطارات وحاويات النّفايات المشتعلة إلى جانب أزيز الرّصاص. أغلقت المحال التّجاريّة عقب الإضراب العام الّي أعلن عنه آنذاك، تغيّرت الطّريق وعمّت الفوضى في كلّ الأرجاء، وكان من أكثر المشاهد حضورًا أمامي هو أنّ الجيش الإسرائيلي والشّرطة قد استجلبا حواجز من مكعبات إسمنتيّة قطت السّبل ومعلنو عن تحوّل الشّارع إلى ساحة معركة.

شعرت بالتّوتّر ولم افهم ما الّذي يحدث، وشئت ام ابيت، فانا موجودة في قلب عاصفة سوداء وحدي مع طفلي حديث الولادة، أقود سيارتي بيد واحدة ويدي الاخرى تحاول أن تتمسك بمحمد وهو في سلته. لا طريق للرجوع، كان يجب أن أستمرّ بشكل من الأشكال وبأعجوبة وصلت إلى بيت سيرا، حيث كانت مجموعة من الشباب الملثمين يقفون خلف جدار من دخان داكن خانق، يرشقون الحجارة على مركبات الجيش في مداخل القرية ومجدّدًا هي معركة أخرى وأنا في قلبها.

مذعورة ومرتبكة، تخيلت انها ستكون النهاية إذا ما مس حجر او رصاصة ابني الرضيع. فجأة اقترب شاب من السيارة وأخذ يضرب بعنف على سقفها، ففتحت الشباك وصرخت “أنا عربية، عربية، لا تؤذني، هل هذه بيت سيرا؟ اين انا؟” فصرخ الشاب في وجهي “ماذا تفعلين هنا؟ ومعك سيارة اسرائيلية وعلامة صفراء..هل جننت؟ هل معك حطة؟ او علم فلسطين؟ ليعرفوا أنك عربية ولست مستوطنة؟”

فقلت أنّي لا أملك سوى غطاء الطفل، وعندها راح الشّاب يلوح لرفاقه من بعيد مؤشرًا بعلامات لم افمهما، وقال لي أنّ أضغط على زمور السيارة بشكل متقطع حتى أخرج من الجهة الثّانية للقرية وهي إشارة ستحول دون أن يرجمني الشّبان بالحجارة وطلب منّي المغادرة فورًا.

تملّكني الرّعب والخوف وكنت أرتجف دون توقّف، وفي الوقت ذاته ضغطت بقوة على الزمور ضربة تلو الأخرى: بيب. بيب. بيب.  بيب.

وفعلا قطعت القرية بسرعة البرق بين الحجارة والزجاج المحطم وطفلي يحلم بعوالم اخرى لا يشعر بأنّ أمه تفرّ به من ساحة المعركة كمصفحات الجنود في أفلام الحروب.

عجب الجنود الإسرائيليون من الجهة الاخرى من هذه المرأة المجنونة التي تسلك هذا الطريق الوعر ولا تترك يدها زمور السيارة ومعهم تحدثت بالعبرية شارحة لهم أني ضللت الطريق وأني من سكان مدينة موديعين.

خرجت من منطقة المواجهات وكانت يدي ما زالت متشنجة من شدّة الضّغط على الزمور. وتوجهت صوب بيتي وعندما وصلت ودخلت القرية كنت ما زلت على نفس الوتيرة “بيب بيب بيب”، وقفت أمام البيت وجلست بالسيارة لاستوعب ما حصل وماذا كاد ان يحصل لي ولطفلي.

بعد ذلك فقط شرح لي أقاربي ان الطرق أغلقت وان الانتفاضة رجعت بقوة وأنّ الضفة وغزّة مشتعلتان والبلدات العربية في الدّاخل تتظاهر وتعمها الاحتجاجات وان الشرطة قتلت مجموعة من شباب الدّاخل الفلسطيني في بلدات مختلفة.

بعد ايام، فُجعت بمقتل أحد طلابي السّابقين وهو الشّهيد أحمد صيام من قرية معاوية. وكانت أمه تحمل شهادة تفوق كتبتها انا له حينها في احد التقارير التلفزيونية على قناة اسرائيلية، كانت هذه اللحظة المتأخرة جداً التي جعلتني أفهم هول ما حدث أثناء غيبوبتي الامومية.

أكتوبر احضرني لبيتي المتواضع الحالي تاركة القدس وضواحيها المشتعلة خلفي واعتقدت واهية مثل مليون ونصف مليون من الفلسطينيين في الدّاخل أن واقع الانسان العربي تحت حكم الدولة اليهوديّة أقل تعقيداً كمواطنين “كاملي الحقوق”، وان نضالنا المستمر لحصد المزيد من الحقوق من شعب الله المختار قد يقربنا اكثر للديمقراطية المنشودة، وان نضالنا يختلف عن سكان القدس، بيت لحم ورام الله وغزّة التي يحتلها الجيش بقوة السلاح، جدار الفصل والحواجز العسكرية. ولكن أكتوبر 2000, سل سلاح الشرطة ذاته وقنص حياة 13 شابًا من مواطني إسرائيل، كما يفعل قناصة الجيش اليوم على حدود غزة المحاصرة تمامًا. ما زالت القدس مهددة محتلة يحتفل بتوحيدها المستوطنون، ويقتلعون أهلها منها كما اقتلعوا العراقيب وأمّ الحيران في النّقب، وكما اقتلعوا إقرث وبرعم وقريتي السّجرة عام 1948.

 

أكتوبر رزقني بطفلي الثاني الذي قررنا أن نسميه محمد إذا نجا وعاش. ولكنه وُلد وعاش في بلاد أخرى، فيها اسمه تهمة، ولون بشرته تهمة، وعليه تقع مهمة إثبات الولاء والاندماج ومهما فعل وعمل فهو لن يجتاز قانون القومية الذي صمم خصيصًا لكي لا نمر بأكتوبر آخر. أكتوبر فتح جرحًا في نفس كل فلسطيني في الداخل وإصاباتنا تختلف فكل منا لاقى أكتوبر في مكان وزمان آخر، ولكننا كمجتمع واحد استطعنا لملمة الاحداث لذاكرة واحدة وقصه موحدة تشكل علامة فارقة في تاريخنا وعلاقتنا بهذه الدولة تذكرنا بأصل الحكاية ومصدر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وكيف بدأ. فبعد أن توالت التقارير، أقيمت لجان التحقيق وأجريت الملاحقات القضائية عقب أحداث اكتوبر 2000، لم يُعاقب أيّ من القتلة في صفوف عناصر الشرطة.

 

أدخلني تشرين ذاته بعد عام واحد إلى مدينة اللد، ضمن مشروع “ردئ الصدع”، الّذي يهدف لسد الفجوات وتقليص التمييز ضد العرب في وزارة التعليم التي قررت فتح مراكز جماهيرية في المجتمع العربي، سعيًا منها لاحتواء مصطنع لأزمة صعبة ومتجذرة تعود أصولها إلى عقود من التّمييز والعنصريّة.

انه أكتوبر الذي غير حياتي، ولكنّ الطريق لرام الله عبر بيت سيرا ما زالت مغلقة، إذ تعالى جدار الفصل وأصبح الحاجز أكبر وأضخم، كما انتشرت خلايا الاستيطان في كل اتجاه. زاد هدوء الاحتلال وقلّما تحصل مواجهات تذكر، تُسرق الأرض وتُسلب لصالح اليهود مع فرض القوانين العنصرية وقمع اي حراك تحرّري من قبل الفلسطينيين الّذين باتوا منشغلين الآن بلقمة العيش، عالقين أمام جنود حاجز الأبارتهايد، متى يفتح ومتى يُغلق.

 

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *