قبل الديموقراطية الحديثة بخمسة عشر قرنا كان ثمة حوار عبقري بين حاكم وشعب، يرجو فيه الحاكم شعبه ان يقوموه إن رأوا فيه اعوجاجاً، فيرد الناس “لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا”. حدث هذا في قلب جزيرة العرب وحدث هذا وسط ناس وقبائل كانت ترضع الفروسية والمروءة والتمرد وترفض الانصياع للظلم. انحدر العرب والمسلمون كما نعرف من تلك الإلماعة التاريخية الكبرى، وظلوا ينحدرون الى ان وصلنا اللحظة الراهنة التي تأله فيها الحاكم وصار فوق أي نقد، وصار الناس فيها قطيعا من الخراف. حيثما كان الناس جحافل من الاحرار، في أي بقعة على الأرض، فإن الاعوجاج والاستبداد ينحسران. وحيثما يتحولون الى قطعان عبيد تركع عند اقدام الحكام فإن اوطانهم هي اول ما يُستباح.
فلسطينيا، كلما انتقد أحدنا الرئيس محمود عباس ينبري في وجهه كثيرون يدافعون عنه بمسوغات عديدة. يُقال لنا ان الرئيس أفضل من منافسيه ومن قوى المعارضة السياسية التي تنازعه موقعه، او مواقعه العديدة. يُقال لنا ان الرئيس وقف في وجه صفقة القرن وصمد امام ضغوط كبيرة من دول عربية وغير عربية كانت تدفع به للموافقة على الصفقة. يُقال لنا ان إنجازات الرئيس العديدة تفوق اخفاقاته وتستوجب الشكر والامتنان. ويُقال ويُقال الكثير!
عربيا، نجد ذات الخطاب التبريري في كل حالة من حالات الحكام العرب. فالحاكم المعني هنا او هناك أفضل من معارضيه أيا ما كانوا، وهو هبة الله التي على الشعب ان يشكر لها ويحمد. والحاكم العتيد وقف في وجه التحديات التي يواجهها البلد رغم كل الصعوبات والضغوطات، وبطولاته تفرض على شعبه ليس فقط الطاعة والانصياع بل وجوب الامتنان الدائم.
في بيئة الاستبداد وثقافة الطغيان يتحول الحاكم او المسؤول الى اشباه آلهة. ترفعهم آليات القمع وآليات النفاق والمنافقين الى مرتبة ما فوق النقد. في العالم العربي اليوم (بما في ذلك فلسطين)، وفيما عدا حالات استثنائية قليلة، يتبختر الحكام والمسؤولون فوق ظهور شعوبهم، يحتمون بأجهزة الامن من الداخل وبدعم الأجنبي من الخارج، وبدعاية بطانات السوء التي تغني لهم قصائد مدح صباح مساء. أي قرار او سياسة او قول يأتي من الحاكم يصبح عين الحكمة، ويستوجب التطبيل الفوري له. من ينتقد الحاكم او المسؤول يُتهم بالمروق عن الوطن، ويُتهم بالعمالة للخارج، ويُسأل فورا “ماذا فعلت انت أصلا وبأي حق تنتقد؟”. في بيئات انتشار الرثاثة والاستبداد وثقافة الهزيمة والتبعية ولعق اقدام الحكام والمسؤولين يصير من الضروري التأكيد على بديهيات في السياسة العامة وتعريف موقع الحاكم وموقع الشعب وموقع المثقف:
اولاً: الحاكم او المسؤول وظيفته خدمة الشعب والناس وليس الركوب على ظهورهم وسرقة ثرواتهم والاستبداد بهم. الحاكم ليس هو الوطن، والحاكم ليس هو الشعب، بل هو خادم للإثنين. والحاكم والمسؤول، وبناء على خبرة إنسانية عميقة، يجب ان يظلا مُتهمين حتى تثبت براءتهم، لأن السلطة مفسدة، ولأن السلطة غير المقيدة تقود الى دمار الأوطان والشعوب. هذا هو ديدن تواريخ الشعوب والسياسة إذ تشير كلها الى مسار انساني عام ومرير جثم في قلبه استبداد الحكام وفسادهم، وتمثل الاستثناء فيه بوجود حكام عادلين وغير فاسدين. على الحاكم والمسؤول ان يثبتوا لنا انهم ضمن الاستثناء، والى ان يحدث ذلك فهم في موضع الإتهام.
ثانيا: الحاكم او المسؤول لا يستحق الشكر على قيامه بوظيفته الموكل بإنجازها، او خدمته للوطن، لكنه يستحق النقد على فشله بالقيام فيها. صحيح ان مقولة “لا شكر على واجب” مكرورة وفاقدة لأي جاذبية، الا ان جوهرها يظل متماسكا ويجب ان يكون منهج التعامل مع أي حاكم او مسؤول. عندما يتخذ حاكم او مسؤول قرارا صائبا، او يتبنى سياسة مفيدة لشعبه ووطنه، فهو يقوم بما يجب ان يقوم به وينفذ مسؤوليته الحقيقية والمطلوبة، ولا يستحق الشكر عليها. لكن عندما يفشل في ذلك فإن تقويمه ونقده، وأحيانا الإطاحة به، تصبح واجبا وطنيا على الجميع. لا يُشكر الحكام والمسؤولون على ما يجب ان يقوموا به لشعوبهم، هذه هي القاعدة الذهبية التي ما ان يتنازل عنها شعب حتى يبدأ بالإنحدار نحو مهاوي الاستبداد والهزيمة والتآكل.
ثالثا: اذا كانت مهمة الحاكم او المسؤول إنجاز المهمات الملقاة عليهم، فإن مهمتنا كأفراد من الشعب، اياً ما كانت مسمياتنا، هي النقد وتقويم الاعوجاج. نعم النقد! نعم، هم يعملون ونحن ننقد، وليس بيدنا غير النقد. أصوات المنافقين التي تتعالي في وجه كل ناقد وتقول: “وماذا فعلت حضرتك؟” تتسم بالغباء فضلاً عن تفاهة تبعيتها وخنوعها للمسؤول. غباؤها في عدم ادراكها وتفريقها بين موقع الحاكم وموقع المواطن، حيث تتوفر للأول القدرة والامكانيات التي يفتقدها الثاني. كل ما يملكه الشعب والافراد والمثقفون هو النقد لتصويب السياسات. اذا أُحبطت القدرة على النقد يتمادى الحاكم والمسؤول في سياساته واستبداداته التي تقوض اساسات الوطن والشعب تدريجيا.
رابعا: إذا فشل الحاكم او المسؤول في أداء وظيفته، عليه ان يتنحى او يُنحى. وإذا لم يحدث ذلك فإن عملية تقويض الوطن والشعب وكل شيء له علاقة بهما تستمر سنوات وربما عقود، والشواهد على هذه السيرورة كبيرة وعديدة ومريرة. هذا ما شهدناه عربيا في حقبة ما بعد الاستقلالات وعلى مدار عقود طويلة شائهة، وهذا ما شهدناه فلسطينيا على الأقل في الحقبة العباسية المُخجلة والمدمرة وبالغة البشاعة.