نقاش مقدسي معمّق في الانتخابات البلدية

لأول مرّة منذ احتلال إسرائيل القدس وباقي فلسطين التاريخية، يجري في مؤسّسات فكرية مقدسية محترمة نقاش بشأن ما إذا أصبحت المشاركة في انتخابات ما تسمّى بلدية القدس الموحّدة أكثر فائدة وطنية من الاستمرار في المقاطعة؟
يقول مؤيدو المقاطعة إن ضم القدس الشرقية لإسرائيل، وإلغاء أمانة القدس التي كانت تعمل ما بين عام 1948 ويونيو/ حزيران 1967 لا يزال يعتبر شرعنة قرار إسرائيلي أحاديّ الجانب عارضته غالبية الدول. فيما يقول المؤيدون إن اتفاقية أوسلو بقرار فلسطيني أخرجت القدس الشرقية من اتفاق أوسلو، الأمر الذي تتمسّك فيه إسرائيل بعزل القدس عن باقي الأراضي المحتلة، ومنع أي تواصلٍ ذي مغزى مع القيادة الفلسطينية في رام الله.
وعلى الرغم من تمسّك كل طرف برأيه، إلا أن السؤال الأكثر أهمية على ألسنة الجميع يتلخص بضرورة إجراء حساب الفائدة والخسارة، وأهمية أن يقدّم المؤيدون لاستمرار المقاطعة خطة عمل بديلة تشمل الثمن المالي للصمود والدفاع عن مصالح المقدسيين، فليس من المنطق أن يستمر أهل القدس في دفع ثمن المقاطعة السياسية في الوقت الذي يعانون فيه من كونهم أيتاما سياسيين لا قيادة فعّالة لهم تضع برامج حقيقية للدفاع عن مصالحهم ودعم صمودهم. 
هناك من يقول إنها لهدف سياسي، وإن هدف المقاطعة قد تحقق من مدّة، ولا حاجة للاستمرار فيه بعد مرور 56 عاما؟ ويقدّم بعضٌ مثال مقاطعة أعضاء نقابة المحامين الأردنية التعامل مع المحاكم الإسرائيلية بعد الاحتلال سنوات طويلة، إلا أن تلك المقاطعة تبخّرت، والجميع يتعامل مع محامين يترافعون في المحاكم الإسرائيلية، ويعتبر عديدون من هؤلاء المحامين شخصيات وطنية، يُنظر إليهم الجميع بالاحترام لمواقفهم الوطنية.

الانتخابات البلدية تعدّ انتخابات خدمات، في حين أن للانتخابات العامة طابعا سياسيا

يغنّي الكل للقدس، والمكاتب والمرجعيات التي تضع اسم القدس في أوراق عملها كثيرة. ولكن أين المسؤول الذي يوفر حلولا للشباب المتزوجين في وقت أصبح ثمن شراء الشقة يتجاوز 600 ألف دولار، ومن الصعب إيجاد شقة للإيجار. وينظر المقدسيون إلى وضع مدينتهم بألم، حيث يدفعون بانتظام ضرائب متعدّدة، أهمها الإرنونا من أجل ضمان إقامتهم، في وقتٍ يستمر فيه مجلس بلدية ما تُسمى القدس الموحّدة بعضوية 31 يهوديا من دون أي فلسطيني، رغم أن سكان القدس العرب حاملي الهويات الزرقاء يقترب من 40% من سكّان القدس. أي لو شاركوا في الانتخابات فسيكون للمقدسيين العرب الفلسطينيين أكبر مجموعة أعضاء، ما قد يوفّر لهم رئاسة البلدية أو موقع نائب رئيسها؟
للموضوع بعد سياسي، ومغزى المشاركة مهم. ولكن كيف يمكن دمج هذا الموقف مع ما هو معروف في النضالات العالمية، إن الانتخابات البلدية تعدّ انتخابات خدمات، في حين أن للانتخابات العامة طابعا سياسيا، فقد أصبحنا نقدّر دور نواب الكنيست العرب، ونرفض مشاركة حتى مواطنين إسرائيليين في القدس من المشاركة في انتخابات بلدية. يقول المهتمون بالمشاركة إن هدفهم خدماتي، ولا يوجد لهم أي موقف سياسي سوى التأييد للموقف الرسمي الفلسطيني من ضرورة أن تكون القدس عاصمة دولة فلسطين.
أصبح موضوع الخدمات مقلقًا للغاية مع وجود جدار الفصل العنصري، وغياب أي جهة تتابع ما يجري خلفه من بناء عشوائي قد يعرّض الناس لخطر، وغياب أي متابعة حقيقية للبنية التحتية وجمع القمامة وتوفير الخدمات الأساسية، الصحية وغيرها. فهل سننتظر شتاء قادما يتحوّل فيه شارع رام الله القدس في كفر عقب، مثلا، إلى نهر من مياه الأمطار، بسبب غياب بنية تحتية لتصريف المياه؟

المطلوب كتلة قوية لوقف هدم المنازل والإصرار على خرائط مدن وتوفير دعم حقيقي للسكان والتعليم والعمل والسياحة والصحة

لا يطلب الذين ينوون المشاركة من القيادة الفلسطينية أخذ موقف مؤيد أو معارض ولا يتوقعون منها هذا، إلا أن هناك من ردّ على صدور فتوى تحرّم المشاركة بأن “الضرورات تبيح المحظورات”. في حين يقول بعضهم إن أهم المعارضين للمشاركة في الانتخابات من حركات يسارية وإسلامية تطالب بإقامة الدولة الواحدة في فلسطين، فيدفع المؤيدين إلى المشاركة في انتخابات موحّدة في القدس أن ذلك يعتبر تأييدا لفكرة الدولة الواحدة في فلسطين.
نتيجة لفتح النقاش بشأن الانتخابات، بدأ بعضهم في القدس يدرس صلاحيات المجالس البلدية ويعرّج على كيفية تعامل المناضلين في دول تحت الاحتلال والاستعمار (الجزائر وجنوب أفريقيا مثلان) في موضوع انتخابات بلدية؟ كما بدأ بعضهم فتح خطوط اتصال مع ممثلين في بلدية القدس من حزب ميرتس اليساري، وآخرين يبحثون عن معرفة أكثر عن توجّهات الأحزاب الحريدية لموضوع المشاركة مع الفلسطينيين، بحثا عن ارضياتٍ للمنفعة المشتركة.
يقول بعضهم إن النقاش بشأن المشاركة في انتخابات 31 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل متأخّر، مقترحين التريّث لرؤية ما إذا نجح عضو أو اثنان في تغيير أي شيء. ويردّ عليهم المؤيدون أننا لو أجلنا النقاش للانتخابات التي تليها بعد خمس سنوات فسنعود إلى الموضوع عشيّة الانتخابات قبل أن نأخذ قرارا، وقد يكون نجاح عدد قليل غير كاف لتغيير قرارات بلدية، فالمطلوب كتلة قوية لوقف هدم المنازل والإصرار على خرائط مدن وتوفير دعم حقيقي للسكان والتعليم والعمل والسياحة والصحة، وغيرها من أمور حياتية تدعم الصمود في القدس، خصوصا في غياب الدعم المالي القوي والمؤثر من العالم العربي.
من الجيد أن النقاش بدأ، ولو متأخّرا، ومن الجيد قول بعضهم في تلك النقاشات إنه رغم أنهم كانوا معارضين بالتمام بدأوا يغيّرون من وجهات نظرهم، فالحديث بشفافية وصدق وفي غياب المزايدات أمر مهم. وفي نهاية المطاف، القدس بحاجة إلى شخصيات وطنية ذات المكانة تتحرّك بجرأة، إما للمشاركة الواسعة أو لوضع خطة حقيقية تدعم الصمود.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *