نقاش في شعار «لا للتطبيع»…
يمكن رصد أسباب متعددة لهذا التبدل في وظيفة المثقفين، من أهمها التغير السياسي والتاريخي لطبيعة القضية الفلسطينية نفسها، مع نهاية عصر حركات التحرر الوطني. فالقضية التي كان يمكن ربطها بحركة عالمية، تسعى لتحرير شعوب العالم الثالث، من الممارسات الكولونيالية والإمبريالية، باتت اليوم، سياسياً واستراتيجياً، عنصراً في صراع إقليمي، يعجز عن طرح ادعاءات تحررية كونية. لم تعد الدول والقوى السياسية، المعنية بالقضية الفلسطينية، مهتمة جداً بتطوير إطار ثقافي مركّب للقضية، بقدر ما تعتمد على ترميزات أكثر أولوية: الصراع الديني والطائفي، التصورات الخلاصية المباشرة، معاداة للسامية لا تهتم كثيراً بتمويه نفسها.
من جانب آخر لم تندمج القضية الفلسطينية، بسهولة مع طروحات التغيير الجديدة، التي جاءت مع ثورات الربيع العربي. وعلى الرغم من أن بعض الثائرين العرب هتفوا لفلسطين، خاصة في تونس، إلا أن القضية تراجعت عموماً لمركز هامشي في اهتمامات الحركات الاحتجاجية العربية، وكثيراً ما استُخدمت لقمع هذه الاحتجاجات أو الانتقاص منها، لدرجة أنها أصبحت، في بعض الأحيان، من قضايا «الثورة المضادة».
يصعب اليوم أن نجد خطاباً متماسكاً، وله قدر من الشعبية والحضور، يجمع بشكل عضوي بين القضية الفلسطينية، وقضايا الديمقراطية والحريات الفردية والحقوق الاجتماعية، التي رفعتها الثورات العربية. اضمحلال المؤسسات الثقافية، التي حملت القضية، في ما مضى، ساهم بتراجع الإنتاج الثقافي المرتبط بها، بعد أن كان يطبع الثقافة العربية بأكملها. لا آداب أو فنون مؤثرة اليوم عن فلسطين، ولا مجلات أو وسائل إعلامية أو مراكز دراسات قادرة على إنتاج أجيال جديدة من الكتّاب والباحثين، بعبارة آخرى فقدت القضية بنيتها التحتية الثقافية. ضمن هذا الشرط فإن شعار «لا للتطبيع» بكل ما يحمله من التزامات أخلاقية أو وطنية، يُطرح في سياق فقير ثقافياً، وملتبس بشدة سياسياً، فما تأثيراته في الثقافة العربية المعاصرة؟ وما الذي يمكن أن يضيفه إلى الخطاب العام، أكثر من دعاوى النقاء الأخلاقي؟
الصراع توسيعاً للثقافة
كان بروز الشعب الفلسطيني، على الساحة الثقافية والسياسية العربية، حدثاً بالغ الأهمية في القرن الماضي، وهو عملية متدرجة مرّت بمراحل متعددة، بدأت مع انهيار الامبراطورية العثمانية، والنضال المحلي ضد الاستعمار البريطاني، الذي أثار موجة تعاطف واسعة عربياً وإسلامياً، مروراً بفترة ما بعد النكبة، وبدء الكفاح المسلّح، إلا أن تطور منظمة التحرير الفلسطينية، وكفاحها لانتزاع القرار المستقل عن الدول والجيوش العربية، كان الخطوة الأهم في بناء الشعب الفلسطيني سياسياً. ترافق هذا مع نشاط ثقافي واسع، عمل على إعادة إنتاج الفلكور الشعبي والتراث الشفهي، وإنشاء رموز ثقافية كفاحية، اعتُبرت أساس الثقافة الوطنية الفلسطينية.
حضور الفلسطينيين بوصفهم شعباً، بمنظماتهم الثورية وأغانيهم وشعرائهم وفدائييهم، أحدث هزة إيجابية في الثقافة العربية عموماً. صار بالإمكان الحديث عن شبكة عربية، ذات استطالات عالمية، من العمل والتنظير الثوري: من الخليج العربي (ثورات عُمان واليمن) مروراً ببعض الحركات المعارضة في سوريا والأردن، والجماعات المسلّحة المشاركة في الحرب الأهلية اللبنانية، وصولاً إلى بعض المنظمات الأوروبية اليسارية الأكثر راديكالية، أصبحت الصورة الأيقونية للفدائي الفلسطيني، التي تمّ العمل عليها ثقافياً بشكل واعٍ في السبعينيات خصوصاً، نموذجاً ثورياً شديد الحضور والإلهام. في حين ساهمت التنظيرات السياسية والثقافية، المرتبطة بالقضية، بتطوير تحليلات مستجدّة حول الدول والمجتمعات العربية. وبعد غرق كثير من المثقفين العرب بـ«النقد الذاتي» بعد هزيمة يونيو/ حزيران، ساهمت إعادة صياغة القضية الفلسطينية آنذاك، بوصفها قضية شعب حيوي، يعيد اكتشاف ذاته والعالم، وليس مجرد ثوابت جامدة لأمة مترسخة، بإنتاج قضية «تحرر عربي» جديدة، كانت فلسطين في مركزها.
تحديد الذات من خلال تعارضها مع عدو واضح، «إسرائيل والصهيونية وداعميهما» لم يكن تضييقاً للأطر الثقافية أو قمعاً سياسياً باسم قضية متعالية، بل أطلق حيوية ثقافية واجتماعية، لم يكن ضبطها ممكناً حتى بالنسبة لأكثر الجهات تبنّياً للقضية: نشأت عشرات التجارب السياسية والثقافية المتنوعة، المتناحرة أحياناً، وظهر العديد من المراجعات ومحاولات تجديد القضية، التي تمردت في كثير من الأحيان على أنظمة «الصمود والتصدي» العربية، وحتى على منظمة التحرير نفسها.
هذه الحيوية بدأت بالخمود تدريجياً لأسباب متعددة ومتراكبة، منها اضمحلال حركات التحرر الوطني واليسار المسلّح عالمياً. ما تبقى من قضية التحرر الوطني الفلسطيني تمت محاصرته، بعد اتفاقية أوسلو، في مناطق فلسطينية معزولة نسبياً عن سياقها العربي. ومع تحلّل منظمة التحرير، ووفاة ياسر عرفات، والنزاع الذي بدا عبثياً بين بقايا حركتي فتح وحماس، انتهت القضية الفلسطينية، التي عرفناها منذ نهاية الستينيات، وغاب الشعب الفلسطيني عن الساحة، ليبرز وكلاء جدد للقضية، قاموا بإبعادها عن المفاهيم السياسية الحديثة، وأهمها «الشعب» و«التحرر» وربطها مجدداً بـ«الثوابت» المعروفة، فتصبح فلسطين هنا تذكيراً بضرورة الحفاظ على كرامة الأمة أو عظمتها، وليست «ثورة» لتحطيم جمودها الذي لا يُنتج إلا التخلف والهزائم، كما نَظّر مثقفو ما بعد النكسة.
تشييد التابو
ضمن هذا السياق، غير المُنتج لرموز وتركيبات فكرية وسياسية جديدة، يظهر شعار «لا للتطبيع» بصرف النظر عن أي تقييم سياسي أو أخلاقي له، بوصفه محاولة للحفاظ على قيم معينة، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بدون أي سعي واضح لتأسيس بناءات جديدة. يوضّح الشعار ما يرفضه ويستنكره، ولكنه يكتفي بذلك، ولا يعمل حتى على إنتاج تحليلات متماسكة لطبيعة القوى التي تقبل التطبيع وتسعى إليه. الرفض يبقى على صعيد أخلاقي نقي، وهو ليس أكثر من تأسيس تابو للابقاء على أطر اجتماعية- ثقافية، يصعُب بالتأكيد وصفها بالتحررية، فيبدو تطويقاً للثقافة العربية المعاصرة بدلاً من توسيعها.
لا يمكن، بالاقتصار على شعار سلبي أخلاقوي، توقّع نشوء جيل جديد من المفكرين والفنانين، أو انتظار منتج ثقافي ذي مستوى رفيع، يسقط عدد من أنصار الشعار بنظرة غير نقدية للذات، وبخطاب استعلائي ورقابي على الآخرين، وذلك مألوفٌ في أي طرح قائم على مفهوم مجرد للأخلاق.
التعرّف على جانب مهم من أنصار القضية الجدد من الغربيين، قد يوضّح هذه النقطة، فكثير منهم يحملون عداء للدولة الإسرائيلية، بوصفها نموذجاً للدولة الحديثة الاستعمارية، ورفضهم لها هو جانب من رفضهم للحداثة عموماً، ولذلك لا نجد لديهم اهتماماً كبيراً بمفهوم الشعب الفلسطيني، باعتبار مفهوم الشعب نفسه مفهوماً حداثياً، بل يفضّلون اعتبار الفلسطينيين «سكّاناً أصليين». بهذا المعنى يبدو موقف الناشطين الغربيين المعاصرين من إسرائيل أشبه بمحاولة تطهّر من الخطيئة الأصلية للرجل الأبيض الاستعماري، وهو بدوره مفهوم أخلاقي متعالٍ، شبيه بموقف كثير من المعارضين العرب للتطبيع، ولا يُتوقع منه إنتاج مفاهيم تحررية جديدة، بقدر بناء حيّز للنرجسية الأخلاقية/السياسية الذاتية.
البناء السياسي للحق
سواء كانت القضية هي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، تحرير الأرض المحتلة، أو تدمير كيان عنصري استيطاني، فإن أي قضية، مهما بلغت أحقيتها من وجهة نظر أنصارها، لا يمكن أن تصبح «عادلة» اجتماعياً إلا إذا بنت «الحق» المُتضمَّن فيها على المستوى السياسي والثقافي. بمعنى أن «الحق» لا يسطع وحده، نتيجة جوهره العادل المطلق، بل يُعمم بواسطة ممارسات وخطابات ومؤسسات وأجهزة سياسية وأيديولوجية.
يظهر الخطاب الرافض للتطبيع اليوم، وهو أحد أهم خطابات القضية الفلسطينية المعاصرة، عاجزاً عن القيام بمهام هذا البناء السياسي، ومتخلّفاً عن اللحاق بالجدل الاجتماعي والثقافي الذي أطلقته الثورات العربية، ففي عصر يتم فيه النقاش عن حرية التجديف؛ المثلية الجنسية وتغيير الجنس؛ حقوق النساء والأقليات؛ التسيير الذاتي ونقد الديمقراطية التمثيلية؛ تفكيك خطابات الوطن والأمة، يبدو تكرار العبارات المحفوظة عن «حقٍ لا يموت» منفصلاً بشدة عمّا يجري حوله، فما بالك إذا تمّ استخدامه لإعاقة الجدل الاجتماعي أو قمعه.
ربما كان الأجدى أن يبذل أنصار القضية الفلسطينية المعاصرون جهداً أكبر في تفكيك قوالبهم الفكرية، وأن يعملوا على طرح خطابات جديدة، لا تكتفي بإملاء ما هو مقدّس ومدنّس، وما يحقّ للآخرين فعله والتفكير به. تبقى هناك فرصة لتعود فلسطين قضيةً عربية تحررية، وهذا يتطلب أولاً ألا تظلّ أحد التابوهات القمعية المترسخة.
٭ كاتب من سوريا، “القدس العربي”، (4/8/2020).