نقاش فلسطيني ساخن في ظلّ دويّ المدافع
منذ البداية تأسّس “الكفاح” المسلح الفلسطيني، الذي أطلقته حركة “فتح” (أواسط الستينيات)، أي قبل احتلال إسرائيل للضفة والقطاع (في حرب حزيران/يونيو،1967)، على فكرتي “التوريط الواعي”، وأن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية.
وفقا لذلك فإن الفدائيين سيضربون إسرائيل وتلك ستردّ عليهم، في أماكن وجود قواعدهم في البلدان العربية المجاورة (بخاصة في الأردن ولبنان وسوريا)، ما يستدعي رداً من الجيوش العربية، وهكذا تندلع حرب تحرير فلسطين، التي يفترض أن تكون فيها الثورة الفلسطينية في مكانة الطليعة والأمة العربية كشريك.
في تلك الآونة (أواسط الستينيات) لم تكن “الجبهة الشعبية” (التي كانت وقتها “حركة القوميين العرب”)، مع تلك النظرية، بل إنها انتقدتها، واعتبرتها مغامرة قد تورّط الأنظمة العربية التقدمية (سيما نظام عبد الناصر)، بحرب في غير أوانها، إلا إن ذلك تغير فيما بعد، بالتحول نحو تشكيل تنظيم فلسطيني، في محاكاة لحركة “فتح”، بتأسيس “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، التي انتهجت الكفاح المسلح. هذا حصل، أيضا، مع حركة “حماس” (التي كانت حينها فرعا لحركة الإخوان المسلمين)، فهي لم تكن مع الكفاح المسلح الفلسطيني، لتركيزها مع ما اعتبرته “الجهاد الأكبر”، أو جهاد النفس، والجهاد من اجل العقيدة، إلا إن “حماس” لحقت فيما بعد الكفاح المسلح، ولكن متأخّرة (مع اندلاع الانتفاضة الأولى 1987)، أي بعد 22 عاما على انطلاقة “فتح”، وبعد أفول تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني من الخارج.
إضافة إلى ما تقدم، يمكننا ملاحظة أن فكرة الكفاح المسلح تلك كانت تعزّز، أو تسند، مشروعيتها، بحكم اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل، وتشتّت شعب فلسطين، وطبيعة فلسطين الجغرافية والديمغرافية غير المواتية، إلى فرضية إنها قضية مركزية للأمة العربية. بمعنى إنها كانت تسند ذاتها بفرضية وجود وضع عربي مساند وملائم، ووضع دولي متفهّم (سيما في عصر القطبين السوفييتي والأمريكي). بيد أن الواقع لم يثبت كل ذلك، بل أثبت عكسه، وأن الجيوش أو الأنظمة العربية ليست طوع ما يفترضه هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك، فأولا، الجيوش العربية، كما أثبتت التجربة، لم تستجب. وثانيا، فإن إسرائيل سرعان ما ألحقت بها هزيمة منكرة في حرب 1967. وثالثا، لأن تلك الأنظمة تحرم المشاركة السياسية على مواطنيها، وتتسلط على مجتمعاتها. رابعا، نجم عن ذلك، أي وجود العمل الفلسطيني في الخارج تحكم الأنظمة بمدى الكفاح المسلح الفلسطيني، فمنها من وظّفه لتغطية الهزيمة، ومنها من دخل معه في صدامات، ومنها من حاول تجييره لصالح تعزيز أدواره الإقليمية، بحيث أخرج الكفاح المسلح عن وظيفته وعن دوره، من دون أن تقوم القيادة الفلسطينية بمراجعة ذلك. لنلاحظ هنا أن الكفاح المسلح الفلسطيني انتهى من الأردن في مرحلة مبكرة (1970) بعد صدامات دامية مع الجيش الأردني، وانتهى معه إمكان مشاركة مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن في الحركة الوطنية الفلسطينية، ثم تم إنهاء الكفاح المسلح الفلسطيني من الجولان السورية، بعيد حرب تشرين1 (1973). هكذا بقي لبنان بمثابة ساحة لتفريغ أو لتجسيد طاقة الكفاح المسلح الفلسطيني، بحكم ضعف الدولة فيه، وبحكم التناقضات الداخلية فيه.
في التجربة الفلسطينية في لبنان ارتكنت القيادة الفلسطينية لدورها كدولة داخل دولة، أكثر مما اهتمت بإيجاد طريقة ناجعة ومجدية لإدارة الكفاح المسلح الفلسطيني، سيما مع تحولها نحو إقامة قواعد ثابتة، وعسكرة بني المقاومة والمجتمع، بدل تمكين فلسطينيي لبنان من بناء كيانات سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وصحية لهم، تعضد كفاحهم من اجل قضيتهم، بمختلف الأشكال.
ولنلاحظ هنا أنه بعد منتصف السبعينيات لم تتم إضافة أو مراكمة أي إنجاز وطني فلسطيني، إذ كل الإنجازات الوطنية الناجمة عن الكفاح المسلح حصلت في السنوات العشر الأولى (1965ـ1975)، باستنهاض الشعب الفلسطيني من النكبة، وتوحيده، وتعزيز هويته، وبناء كيانه الوطني منظمة التحرير، وفرض القضية الفلسطينية في الأجندة العربية والدولية، مع اعتراف مؤتمر القمة العربية بالمنظمة، ومع صعود الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة. وعموما فقد انتهت تلك المرحلة بطريقة تراجيدية مع الغزو الإسرائيلي لجنوبي لبنان وحصار بيروت وإخراج قوات منظمة التحرير (1982)، في حين كان يفترض تفويت ذلك على إسرائيل، إذ منذ منتصف السبعينيات، كما ذكرنا، كان ثمة حاجة وطنية ملحة لتنظيم وترشيد الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، إلا أن تلك القيادة استمرت في ذات الطريق، باعتبارها لبنان ورقة في يدها، وكدولة داخل دولة، وطبعا وللإنصاف فهي كانت غرقت في غمار الحرب الأهلية في لبنان.
وعلى الصعيد الشعبي، فبغض النظر عن عواطف الجماهير العربية، من المحيط إلى الخليج، والتقدير لها، فنحن إزاء شعوب مغلوبة على أمرها، وليس لها تأثير على حكوماتها، ولا على صعيد حقوق المواطنة في بلدانها. أما الإطار الدولي فقد تضعضع مع انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)، بل باتت روسيا بوتين اليوم من اهم حلفاء إسرائيل (بما في ذلك الصين والهند).
ورغم ظهور بوادر عزل إسرائيل على الصعيد الدولي، سيما في الدول الغربية، بعد أفول صورتها كضحية، وانكشاف طبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، سيما بدفع من الانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ1993)، إلا أن ذلك لم يشكل عاملا مساندا لفكرة الكفاح المسلح بالذات، بقدر ما كان مساندا للكفاح الشعبي، ولحقوق الفلسطينيين في بعض أرضهم (الضفة والقطاع)، أي تلك التي احتلت في العام 1967، لا أكثر. وفي الإجمال، فإن أساس تلك الفكرة لم يكن مدروسا تماما، إذ ابتدأ بإطلاق الرصاص، وفقا للمقولة اللينينية “الخطوة العملية خير من دزينة برامج”، وباعتبار “الوحدة في أرض المعركة” بحسب “فتح”، و”أن النظرية تنبع من فوهة البندقية” بحسب الجبهة الشعبية.
هكذا تم إطلاق الكفاح المسلح، من دون توضيح الاستراتيجية العسكرية، أو توضيح الربط بين الاستراتيجيتين السياسية والعسكرية، ومن دون بناء كيانات سياسية قادرة على حمل هذا الشكل الكفاحي، ومن دون ملاحظة واقع الأنظمة العربية (باستثناء الحديث عن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية)، أو ملاحظة واقع الشعوب العربية التي تخضع لأنظمة استبدادية وتسلطية، ما يحدّ من أي مشاركة لها في السياسة في بلدانها، فكيف إذا تعلق الأمر بقضية فلسطين، والصراع ضد إسرائيل.
النقاش هنا ينطلق أساسا من مسألتين، أولاهما، مشروعية المقاومة الفلسطينية، بكل أشكالها ضد الاستعمار والاستيطان والعنصرية، بما في ذلك الكفاح المسلح، على أن ذلك الكفاح ليس بمثابة مسلمة يمكن خوضها بأية طريقة كانت، وفي أي مكان وزمان، إذ ذلك يتطلب، أيضا، أعلى أشكال التنظيم والتدبير والحكمة، للتخفيف من أثمانه وتبعاته، وضمن ذلك، أن يؤدي إلى استنزاف العدو وإضعافه، وليس استنزاف أو إضعاف المجتمع الفلسطيني، كما يتطلب ذلك، في ظروف معينة، عدم الاستدراج إلى مربع الصراع العسكري، على صورة جيش مقابل جيش، سيما في الظروف العربية والدولية غير المواتية، علما أن الفلسطينيين أثبتوا أن الانتفاضة الشعبية الأولى، كما الهبات الشعبية، هي الأكثر استمرارية، وهي الشكل الأنسب والأكثر لهم في ظروفهم الخاصة. وثانيتهما، تتعلق بأن الكفاح المسلح الفلسطيني أدى دوره في العشرة أعوام الأولى (1965 ـ 1975)، باستنهاض الشعب الفلسطيني من واقع النكبة، وتوحيد الفلسطينيين، وإبراز هويتهم الوطنية، ووضع قضيتهم في الأجندة العربية والدولية. بيد إنه بعد ذلك، وبدلا من تنظيم أو تقنين أو مراجعة طريق الكفاح المسلح، بعد أن أدى وظيفته الممكنة، أدخل، أو استدرج، في وظائف أخرى، مغايرة، وخارج الأجندة الوطنية الفلسطينية، وهو ما تمثل بالتورط في الحرب الأهلية اللبنانية، واستمراء واقع دولة داخل دولة في لبنان، وتحويل البلد إلى ورقة في يد القيادة الفلسطينية لتعزيز مكانتها في المداولات أو التسويات السياسية، سيما أن تلك القيادة كانت تحولت، أصلا، من برنامج التحرير إلى برنامج التسوية والدولة في الضفة والقطاع، منذ طرحها برنامج النقاط العشر (1974). وكما ذكرنا، فقد انتهت فاعلية هذا الدور، وفاعلية الكفاح المسلح الفلسطيني من الخارج، إن كاستراتيجية أو كورقة، إثر الغزو الإسرائيلي للبنان (1982)، بإخراج قوات منظمة التحرير منه، بعد أن كانت أخرجت من الأردن (1970)، وبعد أن كانت منعت من الوجود في الجبهة السورية منذ ما بعد حرب تشرين1 (أكتوبر 1973).
الآن، نحن في مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ورغم أنه المبكر التكهن بنتائجها، أو تداعياتها، إلا إنه يمكن القول بأننا إزاء ملامح انتفاضة ثالثة، أو وضع قد يتطور إلى انتفاضة شعبية ثالثة، وعلى الأرجح فإن هذا التطور قد ينجم عنه تحولات كبيرة في معنى ومبنى الحركة الوطنية الفلسطينية، ورؤية الشعب الفلسطيني لذاته، لاسيما تحول فلسطينيي 48 من مكانة هامشية في المعادلات الوطنية الفلسطينية إلى مكانة القلب في هذه العملية، تبعا لدورهم في هبة القدس. وهذا الوضع يعني التحرر من كل الأوهام والمراهنات التي انبنت على تأبيد الواقع الاستعماري وعلاقات الأبارثايد، والتحرر من التسليم بتحويل الفلسطينيين الى شعوب عديدة، مع أولويات ومصالح مختلفة، وهو ما أكده يوم الإضراب العام في كل فلسطين التاريخية (يوم 18/5)، كما يعني ذلك استعادة الرواية الأساسية التي تنبني على طبيعة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، كما نشأت في 1948، وليس باعتبارها كذلك بعد احتلال 1967، على اعتبار أن إسرائيل ذاتها، هي المستوطنة الأكبر، والمستوطنة الأساس التي تولد بقية المستوطنات في الضفة.
بعد كل ذلك فإن كل شيء، أي استنباط الاستنتاجات أو الدروس الأساسية سيتوقف على نتائج الهجمة الإسرائيلية الإجرامية والوحشية على غزّة، وعلى مدى صمود الفلسطينيين إزاء تلك الهجمة، كما على استمرار وتطور الهبة الشعبية في مناطق 48 وفي مدن وقرى ومخيمات الضفة، وبالأخص فإن ذلك سيتوقف على قدرة الفلسطينيين على استثمار معاناتهم وتضحياتهم وبطولاتهم هذه المرة، بالنظر إلى حرمانهم من ذلك، أو عدم تمكنهم من ذلك، في المحطات الصراعية السابقة، رغم كل ما بذلوه من تضحيات وبطولات.
(موقع “درج”)