نـــــوال وداعـــــــاً
خلافاً لما كنت أتوقع، لم تظهر على صفحتي على فيسبوك عشرات المنشورات الشامتة بوفاة نوال السعداوي.. بل امتلأت بالمنشورات التي تشيد بالراحلة وتعدد مناقبها، ويبدو أنني أُحسن اختيار الأصدقاء الافتراضيين.. ومع ذلك، تابعتُ في صفحات أخرى عشرات المنشورات، ومئات التعليقات من شتائم وقدح وذم، وبأبشع التوصيفات..
وهذه ليست المرة الأولى، فقد سبق لكارهي «نوال» أن نعوها وتمنوا موتها عشرات المرات، وفي كل مرة كانت تفيض مجاري الفيسبوك بالتعليقات الشامتة.
لماذا كل هذه الضجة، حول كاتبة ومفكرة اسمها نوال السعداوي؟ استقطاب حاد لا مثيل له حول فكرها ونتاجها؛ من يصفها بالتنويرية والثائرة والشجاعة، والمدافعة عن حقوق النساء.. ومن يصفها بالمرتدة والكافرة والفاجرة وحمالة الحطب.
مثل كثيرين مثلي، ممن قرؤوا كتب نوال، فقد تركت أثراً ما في مسار نضوجي الفكري والإنساني.. ومن مطالعتي لبعض كتبها ومقالاتها، وبعض لقاءاتها التلفزيونية وجدت فيها امرأة استثنائية، فهي طبيعية جداً في شكلها، ولها وجهة نظر خاصة بشأن مستحضرات التجميل والعناية بأناقتها.. وتفضل الظهور بخلقتها الطبيعية دون إضافات ولا مكياج، وهذا يظهر أيضا في فكرها وتصريحاتها، فتقول ما تؤمن به دون الأخذ بمعايير المجتمع السائدة.
وبالطبع، لا أتفق بالضرورة مع كل ما قالت، وما كتبت، شأنها في ذلك شأن أي مفكر، له أن يقول ما يراه صحيحاً، ونحن بدورنا نقتنع بما هو مقنع، ونترك ما هو غير مقنع.. نتفق ونختلف ولكن باحترام.
كتب الصديق رياض هودلي: «أصابت نوال وأخطأ الفقهاء، حيث حاربت طيلة حياتها «ختان البنات»، في الوقت الذي أيّده الأزهر. وفي مواجهة حملتها ضد الختان، أصدر شيخ الازهر «جاد الحق» فتواه الشهيرة عام 1981 بأن «ختان البنات سُنّة ومكرمة للبنت وصون للعفّة». كما يجدر الذكر أنه لا «الإخوان المسلمين» ولا أي تيار إسلاموي استنكر ممارسة الختان، إلى أن قرّر الأزهر ودار الإفتاء المصرية أخيرا اعتبار ختان البنات «محرم شرعاً، وعادة ضارة، وغير إسلامية، ويتوجب عقاب من يمارسها».
فهل احتاجت المؤسسة الدينية وفقهاؤها إلى طبيبة ومتخصصة صحة نفسية ومناضلة نسوية عنيدة وشجاعة كالدكتورة نوال لتفتح أعينهم؟ ولو لم تفعل نوال في حياتها شيئاً سوى هذا الإنجاز لكفاها مجداً».
منذ زمن بعيد، والمؤسسة الدينية الفقهية (لدى مختلف الأديان) يحكمها ويديرها الرجال، وبعقلية ذكورية محضة.. قديما حرمت التقاليد المجتمعية (تأثرا بأقوال بعض الفقهاء) أن تُعرض المرأة إذا مرضت على طبيب، وكان وقتها جميع الأطباء رجالاً، لذلك كانت المرأة إن مرضت إما أن تشفى من تلقاء نفسها، أو تواجه مصيرها المحتوم، إلى أن سمح الفقهاء لها بالتداوي.. كما كان محرماً على المرأة الخروج للعمل، إلى أن سمح لها الفقهاء بذلك، وحُرمت عليها المشاركة في الحياة السياسية، حتى لو بالتصويت في أي انتخابات، ثم أجاز لها الفقهاء ذلك، بل تحول صوتها من عورة إلى فريضة لدعم الحزب الإسلامي ضد الكفرة والعلمانيين! كما حرم فقهاء الوهابية على المرأة قيادة السيارة، إلى أن سمحوا لها بذلك في العام 2019.
هذا التطور في فكر وفتاوى الفقهاء كان يحتاج صوتاً معترضاً وواعياً لحمايته من الانزلاق أو التطرف.. مثال ذلك فتاوى تحريم المطبعة، و«الحنفية»، والشطرنج، وشرب القهوة، وسماع الراديو، ومشاهدة التلفزيون، والأغاني، والتمثيل، والتصوير، وتربية الكلب.. هذه الفتاوى التحريمية أصدرها فقهاء، ثم عدل عليها وأجازها فقهاء أكثر علماً ونضوجاً.. وهذا التطور لم يكن ليحدث لولا تصدي مفكرين متنورين، ومحاججتهم بالعقل والمنطق.
لكن تلك الأصوات المعارضة كانت دوما تُحارَب بشدة، من قبل المجتمع والفقهاء، ويتم توصيف أصحابها بالزنادقة والملاحدة وأعداء الإسلام.. وهؤلاء دفعوا أثماناً غالية لقاء مواقفهم، التي كانت سابقة لعصرهم.. ومنهم من دفع حياته.. لكنهم في النهاية خلصونا من الكثير من الخرافات، والفتاوى غير الصحيحة، والاعتقادات الشعبية السلبية التي كانت تُغلف بالدين، ومع ذلك ما زال الطريق طويلاً وشاقاً..
من يظن أنني أتجنى على الفقهاء، فلينظر إلى العشرات منهم ممن يملؤون مواقع التواصل الاجتماعي، ويحتلون شاشات الفضائيات الدينية، ولينظر إلى فتاواهم الغريبة والعجيبة، والتي ينكرها فقهاء الإسلام المتنورون والعقلانيون.
نوال السعداوي لم تحارب الدين، ولم تتخذ أي موقف عدائي تجاه الإسلام، فهي تصف نفسها بالمؤمنة، التي نشأت في بيت متدين، لكنها كانت ترفض الاعتقادات والممارسات الشعبية المسلطة ضد المرأة، التي تضطهدها، وتسلبها إنسانيتها، حتى لو كانت مغلفة بإطار ديني، ومدعومة من فتاوى فقهاء.. باختصار كانت تحارب العقلية الذكورية الأنانية، وتحارب التخلف والجهل، وبما أن الذين تصدوا لها، وحاربوها وشوهوا سمعتها كان أكثرهم من رجال الدين، فقد وقفت قبالتهم بشجاعة.. فما كان منهم إلا أن نصبوا أنفسهم حماة للدين وممثلين حصريين له. ومن هنا ظهرت الصورة الخادعة بأنها تعادي الدين والإسلام.
كما حاربت نوال القمع، والتسلط، والاستغلال، والنظم الاستبدادية، وسياسات الدولة.. هذا جلي في كتبها.. لذا اعتقلتها السلطات أكثر من مرة، وحاربتها بكل ما لدى السلطة من أذرع ووسائل قمعية وإعلامية..
حاربت قتل النساء، تحت أي مسمى، وخاصة ما يدعى بقضايا الشرف، وأكدت أن الشرف هو الأمانة، وتحمل المسؤولية، والفكر المستنير، والصدق، والتسامح والأخلاق.. وليس ممتلكات الرجل من النساء.. وحاربت نظرة الاحتقار للمرأة، وأكدت أنها إنسانة كاملة الأهلية، ومكتملة العقل والكرامة والوجدان.
بعد رحيلها مباشرة، خرجت تلك الأصوات الشامتة، التي لم تستطع مواجهتها بالعقل والقلم والحجة والبرهان، فواجهتها بالشتائم وصب اللعنات، والتوصيفات غير الأخلاقية، مثل وصفها بالعجوز الشمطاء! هل من العيب أن يصل الإنسان إلى سن العجز والشيخوخة؟ ومن يشبهها بالقرد، وتلك قمة البذاءة، فأي تشبيه للوجه أو التركيز على الخِلقة هو تعدٍ على الله، قبل أن تكون ممارسة تفتقر للإنسانية والذوق.. وبالطبع الأغلبية الساحقة ممن يهاجمونها لم يقرؤوا لها كتاباً ولا مقالاً، ربما شاهدوا مقاطع مسجلة مجتزأة، أو اطلعوا على فقرات مقتبسة منزوعة عن سياقها، لكن المؤكد أن أكثرهم ببغاءات بلا عقل.
نوال الآن بين يدي خالقها.. وما بين أيدينا كتبها وتراثها؛ التي ستظل موضع جدال ونقاش.
لترقد روحها بسلام وطمأنينة.
عن الأيام.