نعمت شفيق.. المُخبِر المحلّي مُنفِّذاً وصايا الغرب
في صَرْح علميٍّ كبير عرفت أروقتُه مجموعة من أهم المفكّرين في العالَم، نتذكر في السياق العربي إدوارد سعيد، الذي بُحَّ صوته طوال عقود من الدراسة والتدريس في “جامعة كولومبيا” ناقدًا للثقافة بمعناها الغربيّ، التي ترسّخ الهُوّة الكبيرة بين الإنسانَين؛ إنسان الرجل الأبيض، والإنسان “الآخر” الذي يستعبده ذلك الإنسان الأول، وينظر إلى ثقافته شزرًا، وإلى وجوده باشمئزاز، ويحصر تاريخه وهويته وحضارته وثقافته وتنوُّعه في قالبٍ واحد، لا يكاد يخرج عن الأفلام الهوليوودية المُبتذلة، التي تُصوّره حيوانًا بشريًّا جعجاعًا يعيش في الصحراء، يتزوّج عشرين امرأةً بدافع الهياج الجنسيّ، ويفتقر إلى أدنى درجات التطور والعيش الكريم، والنظافة الشخصية والعقلية.
ذلك النموذج تمامًا، الذي يرغب الرجل الأبيض في استعباده بشراهة، أسوأ منه ذلك الرجل الأسود الخانع، كما صوّره فيلم “Django Unchained”، في شخصية رئيس الخدَم، الذي كان أحقر من سيده، وأشرس ضدّ أبناء جلدته، حاقدًا على من يتنفّس منهم بشيء غير عبوديته، حقيرًا ذليلًا لا يرى إلّا ما أُريد له أن يرى، بل وينافس نفسه باستعداده ألّا يرى أصلًا، فيُساق كالأعمى، فداءً لحذاء السيّد النبيل.
لكن ذلك الفيلم – على قسوته الواقعية – في رواية تاريخ العبودية، لم يصل إلى ذلك الواقع السوداوي بعد نحو ستة عشر عقدًا من المرسوم الذي وقّعه أبراهام لنكولن لـ”تحرير العبيد” في الولايات المتحدة، فها هي السيّدة نعمت شفيق، الأميركية النخبوية أكثر من النخبة الأميركية المُترهِّلة نفسها، ترى أُولئك الطلّاب الذين يُنادون بحرّية “مدينةٍ ما” في “الشرق الأوسط”، وبتوقّف آلة الحرب المدمّرة فيها، مجرّد “غوغائيِّين”، مجموعة من “مُعادي الساميّة”، المتضامنين مع الشرذمة التي أنجبتها البشرية من نسل الإنسان الشرقي، مواطن العالَم من الدرجة الثالثة، ترمقهم من مكتبها، من خلف نظّارةٍ أُريد لها أن تكون صناعةً غربية خالصة، لا تُحسِّن رؤية العين بقدر ما تلغيها، وتضع لها منظورًا آخر تحكُم به على العالَم.
تمثيلٌ لعقلية المُخبِر الأصيل المُتنكّر بِزيٍّ جامعي
تقف نعمت الشهيرة بـ”مينوش”، “ابنة الإسكندرية”، في المكان ذاته الذي أفنى فيه إدوارد سعيد عمره، وطرَح فيه أفكاره، المتمثّلة بنقد المعرفة الاستعمارية، ذات يوم، وفي الأروقة نفسها التي عرفت صوت وائل حلّاق وهو يُعرِّي النفاق الغربيّ: “تتصرّف إسرائيل والغرب وفق منطق أنه ليس وراء الكون أو الطبيعة مُسبّب، فتكون النتيجة المنطقية أنه لا قيمة لنا نحن البشر في أنفسنا إلّا إذا أعطانا إيّاها أحدهم. وبما أنه لا يُمكن أن يكون هذا الشخص إلهاً، فإنّ إنسانًا يعطي إنسانًا آخر هذه القيمة، استنادًا إلى الذي يكون القرار بيده. وقوّة القرار دائماً ما تكون قوّة بَطْشِيّة، وهي قوّة السيف: فقرار الضعيف في يد القوي، أي إنّ الأشدّ بطشاً هو صاحب القرار”.
في كلماتٍ دقيقة مختارة بعناية، ومنطوقة بالفِطرة والسليقة الخبيرة بالإنسان وعلوم الإنسان، يفكك وائل حلّاق منطق تلك “الثقافة الغربية”، ويُسقِط ورقة التوت الأخيرة التي كانت تستر بها نفسها، خلف التفكير والتحليل والنقد والكتابة والأطروحات، فيُبيِّن أصل المشكلة الغربية تجاه “الآخر” سواء كان فلسطينيًّا أو أفغانيَّا أو فيتناميًّا، في أيّ قارّة وإلى أي مكان كان انتماؤه، هو أنه لا يستحقّ تلك الحياة، إلّا إذا اكتسبها من تفضُّل سيِّده الغربيّ، أما إذا لم يُرد الغربيّ ذلك، فإنّ موته سيكون ترسًا ضروريًّا لدوران العجلة الأميركية والأوروبية، كما يريد قَبَاطنتها.
وبهذا المنطق المُستنير نفسه، الذي يتحرّر من نير الاستبداد الفكري، خرج الطلّاب في ساحات “جامعة كولومبيا”، يندّدون بالحرب الإسرائيلية الأميركية الغربية – تسليحًا وتبريرًا – على غزّة، لتُفاجئُهم رئيسة الجامعة (منذ تموز/يوليو 2023) من أصل مصريّ، السيّدة نعمت شفيق، ابنة الإسكندرية، وتستدعي لهم قوّات الأمن، لتفُضّ اعتصامهم، كأنها عادت بالزمن والمكان إلى حيث تستحقّ، في المنظومة التعليمية المصرية، التي يرأسها ويتحكّم بها ويتوغّل فيها السرطان الأمنيّ، بالعقلية القمعية، تلك العقلية ذاتها التي برّرت اقتحامَ الحرس الجامعي وقوّات الأمن لجامعات “القاهرة” و”الأزهر” و”المنصورة” و”الزقازيق” و”بني سويف” و”السويس” وغيرها في مصر، لتقتل بالرصاص الحيّ جموع الطلاب، وقادة الحركة الطلابية إبّان الانقلاب العسكريّ في 2013، حيث سُحلت فتيات الأزهر، وسُجنت فتيات الإسكندرية – حيث وُلدت “مينوش”- وقُتل واعتُقل وعُذّب وأُخفِي فتية القاهرة وعين شمس وحلوان، ولعلّ أنس المهدي وإسلام غانم ورفاقهما خير إجابة على الأسئلة عن الدليل، ما زالت دماؤهم تنزف هناك في حرَم الجامعة، ولتسألوا أيضًا جابر نصار، الأكاديميّ الذي تلطخت يداه بدماء طلّابه.
ما فائدة العلوم الإنسانية إن لم تعلِّم الإنسانية؟
هكذا تظنّ شفيق نفسها أيضًا، عاملةً بوصايا “الإله الصهيونيّ”، لا مجرّد “لوبي” وحسب، وإنما هو ينزل منازل السمع والطاعة عند النخبة الأكاديمية المترهّلة ثقافيًّا وفكريًّا، فتفصل طلّابًا، وتمهّد لاعتقال آخرين، ثم تعلن تفعيل الدراسة عن بُعد، كل ذلك لأن صوتًا شابًّا حرًّا، تخشاه ويخشاه سادتُها في “البيت الأبيض”، لا يريدون له الارتفاع والدويّ.
لكن هيهات، فالدرس هو الدرس، والغبيّ في التاريخ هو الغبيّ، وتلك الحماقة لا تتبدّل وإن تبدّل مرتكبوها وأبطالها، القمع لا يَقمَع، القمع يُضاعف قوّة المقموع، ويُسمع صوته أعلى، وبالفعل انتقلت الاعتصامات والحركة الطلابية إلى جامعات “ييل” و”هارفارد”، و”كارولينا الشمالية”، وغيرها من المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة، لتلقّن نعمت والمُنعِمين عليها درسًا بليغًا، أنّ غزّة ليست محصورةً على جنوب فلسطين، وإنما هي طيفٌ يحرّر كل ذلك العالَم من أغلاله، وكلمة سرّ في أفواه الطيبين لتخليص الدنيا من الأشرار، ولتُبدّل المواقع بين الأساتذة والطلّاب، وتُعيد تعريف المناصب داخل الحرم الجامعيّ، فالأساتذة هُم من يفهمونها “وهيّ طايرة”، وينادون بالحرّية لكلّ إنسان يستحقّها، بينما الطلبة الراسبون هم من يقفون في مكاتب رئيس الجامعة والأقسام المختلفة، لا يفهمون بعد أنه لا فرق بين 33 ألف طفل في غزّة، استشهدوا، وبين أمثالهم في أوروبا، أو في أوكرانيا وغيرها، وأن غزّة ليست “إرهابًا” ولا “معاداةً للسامية”، وأنّ “السابع من أكتوبر” لا يمكن حصره في الوصم الغربيّ الفوقيّ بتشويه سمعته، وإنما هو فعل تحرُّري يفصل ما قبله عما بعده.
الدرس القويّ لنا جميعًا يا ست نعمت، هو أنّ تحدُّث أربع لغات أجنبية، والحصول على جنسيتَين أميركية وبريطانية، وترؤُّس واحدة من أشهر الجامعات الأميركية؛ قد لا تكون كافيةً أبدًا لتغيير تلك البذرة الأمنيّة المقزّزة في عقلية المُخبر الأصيل، المتنكّر في “رُوب” جامعيّ أسود، وأنه لا نفع من كلّ العلوم الإنسانية، إذا لم تُعلّمك طوال ستين عامًا، ما هو تعريف “الإنسان”، وأنه لا فائدة من العلوم الإنسانية، إذا لم تعلّمك “الإنسانية” أوّلًا!
عن العربي الجديد