نظام “اليودقراطية” وعبثية خطاب المساواة في اسرائيل

“في إسرائيل لا تنتهي الانتخابات بتغيير الحكومة فقط بل بتغير الحكم والمجتمع أيضاً. لا يطول التغيير هنا بعض جوانب الحياة بل يكون انقلاب في نظام الحياة، التعليم وروح العصر.” هكذا يصيب شلومو بن عامي قلب النظام السياسي الإسرائيلي.

نعم على مدار ثلاثة وعشرين دورة انتخابات للكنيست تابعت إسرائيل خطوة خطوة إقامة الدولة اليهودية الاستعمارية الاستيطانية ومجتمعها من خلال ترسيخ نظام “اليودقراطية” (من Juden بالألمانية) ومقوماته يهودية الجنسية، يهودية الأرض والدولة، ديمقراطية الشعب السيد، الابرتهايد القانوني الاقصائي للعرب والتطهير العرقي الديمغرافي لهم. وكل هذا ليس لأن اليهود أكثرية اثنية بل لأنهم عرق اليهود وجنسيتهم جمهورانية سيادية تمازجت مع الدولة على حد تعبير بن غوريون. والسيادة هنا حق رباني تاريخي لمجموعة عرقية دينية استعمارية استيطانية حتى فوق مبدأ حق تقرير المصير المنسجم مع تعريف القومية والديمقراطية المعاصرة وميثاق الأمم المتحدة لعام 1945.

يتسم نظام “اليودقراطية” هذا بنوعان من العلاقة وفقاً للقاعدة النظرية Ethno Racial State System. حيث العرق هنا مجموعة بشر تعرف نفسها او يعرفها الأخر على انها تختلف عن غيرها لمواصفات وراثية طبيعية وغيرها ديني اجتماعي. بمعنى يُعرف العرق اجتماعياً على أساس “الفيزيلوجيا” الوراثية والخصوصية الدينية الاجتماعية المتوارثة عبر العصور. وخير دليل على ذلك النشيد الصهيوني لإسرائيل الأمل “طالما تكمن في القلب نفس يهودية.. لم يضع بعد حلم الفي عام على أرضنا أرض صهيون واورشليم.” هذا في حين تُعرف المجموعة الأثنية على أساس اجتماعي ثقافي فقط.

في حالتنا فإن اليهود كعرق، بتعدديته الأثنية الداخلية، هم الدولة وهي هم وتربطهم علاقة ديمقراطية تنافسية عمودية Competitive Type. بمعنى ان الصراع هنا طبقي اقتصادي ثقافي بدون قيود قانونية ومؤسساتية تحد من الحراك والتمكين المجتمعي والسياسي للفرد والمجموعات بما يكفل لهم التأثير والتمثيل حتى الوصول لرأس الهرم في دولتهم اليهودية الديمقراطية مع ضمان ساحة مواطنة مشتركة مبلورة لهوية جماعية وان اختلفوا بين متدين وغيره.

النوع الثاني من العلاقة يخص العرب وهو فوقي أبوي Paternalistic Type واساسة قوانين ابارتهايد اقصائية استئصالية تثبت العلاقة العرقية النافية من حيز الجنسية الجمهورانية والدولة وتنافسها العمودي. العرق المهيمن اليهود الحاكم هنا يحاول عقلنة سيطرته من خلال قوانين لا تمس جوهر الدولة وتنحصر في المطلبي المعاشي الذي يضمن له أدوات الدمج والعزل الانتقائي والسيطرة البنيوية خارج حدود تعريف الدولة وجنسيتها دون أن تكون للعربي او يكون منها. العلاقة هنا افقية فردية تفتيتيه لا تدخل دائرة الحراك العمودي للتأثير والتمثيل السياسي في مؤسسات الدولة كما هو الحال في العلاقة التنافسية لليهود، وعليه هي ليست جزء شريك في ساحة المواطنة اليهودية ولا المدنية المشتركة التي حصنت نفسها بجدار الحديد القانوني للحفاض على نقاوة العرق وضمان اقصاء العرب منها بل تفكيك مبناهم الاجتماعي.

بكلمات أوضح العلاقة هنا في سياقها التاريخي والقانوني بين المُستعمِر اليهودي والمُستعمَر العربي تمثل وحدة صراع نفي متبادل تستمر السيطرة فيها كلما خضع العربي وقبل هذه الشروط النافية لوجوده. في هذا الصدد وضح  اليعزر بيري في حينه الأمر بقوله:

” العرب الذين شاركوا في الانتخابات الأولى وصوتوا لمن صوتوا لا يمنحهم قانون الجنسية مواطنة اسوة باليهود. ان ما هو مطروح للعرب كمواطنة يعطي المؤسسة الحاكمة كل الإمكانيات لأخذ هذه الحق متى قررت ذلك. الأمر يتعلق في مدى رحمة او عدم رحمة المؤسسة. باستطاعتها تسجيل العربي وبمقدورها أن لا تفعل ذلك، بمقدورها ان تثبت انه تواجد في البلاد وتستطيع اثبات العكس.” حقيقة انعكست في استمرار تسجيل العرب حتى سنوات الثمانين من القرن السابق وبقي الاف من عرب النقب دون اعتراف وتسجيل حتى يومنا هذا. في نفس التوجه صبت التعديلات المختلفة للقانون واخرها منع منح هوية للزوج او الزوجة اذا ارتبطوا مع عرب من ال 48 وكانوا من أصول عربية خصوصاً الضفة والقطاع.

يختلف نظام “اليودقراطية” عن بعض الديمقراطيات الغربية التي تأقلمت مع التعددية الاجتماعية بتطوير مواطنة جمهورانية جديدة Neorepublican Citizenship تسمح للمجموعات الاثنية والعرقية التعايش في دولتهم الواحدة في الوقت التي تكون دولة الفرد الواحد ايضاً مع إمكانية خلق ساحة مدنية وهوية مشتركة للجميع. لسد الباب على إمكانية كهذه في إسرائيل استبدلت لجنة “هراري” مطلب قرار هيئة الأمم المتحدة 181 بسن دستور أساسه قانون مواطنة متساوي ودولة كل مواطنيها، استبدلتها بمنظومة قوانين أساس تتيح للحكومة المنتخبة صياغة منظومة الدولة السياسية، القانونية والاجتماعية بما يتفق وبرنامجها وتحديات المرحلة التاريخية التي تمر بها بعد كل انتخابات. بكلمات أخرى تتحكم السلطة التنفيذية الحكومة بالتشريعية الكنيست وفي اغلب الأحيان بالقضائية من خلال سن قوانين تعكس قناعاتها دون ان تنحرف عن ثوابت الانطلاقة. الأمر الذي يفسر هجوم اليمين على باقي معاقل السلطة القضائية اليوم والتغيرات العميقة التي اجتاحت المجتمع الإسرائيلي والدولة وتتويجها الانتخابات الحالية بين اليمين ويمينه.

من هنا يصيب شلومو زاند في تشخصيه لعبثية مطلب ونضال المساواة بقوله: “وضعية العربي في إسرائيل تختلف عن وضعية الأسود في أمريكا، عن وضعية “السكوتي” في بريطانيا واليهودي في فرنسا. الدولة التي ولد وعاش فيها العربي تابعه للأخرين اليهود. أمريكا لا تعرف نفسها على انها دولة البيض بالضبط كما لا تعرف نفسها بريطانيا دولة البريطانيين او فرنسا دولة الكاثوليك. الديمقراطية اليهودية في إسرائيل توزع للعرب أوراق اللعبة ولكنها خططت وتخطط ان لا يفوزوا بها ابداً.”

وحتى توضح الصورة ولا تحصر على موقف اليمين الإسرائيلي يعري يهودا شنهاب في هذا السياق اليسار الصهيوني بقوله: “يدعم اليسار حقوق الفلسطينيين في الدولة طالما بقيت الدولة يهودية واستمر المسمون “عرب إسرائيل” في وضعية حاضر غائب.”

حقائق تدحض كل أساس لتحليل يعتمد قاعدة “الأثنوقراطية” كمبنى هرمي لثلاثة مجموعات اثنية. المجموعة المؤسسة والمميزة، المهاجرين اليهود اللاجئين ومجموعات السكان الأصلين الفلسطينيين. وكأن ثلاثتهم في حالة تفوق وتفاوت في الحقوق والامتيازات في دولتهم ومواطنتهم الواحدة التي دمجت بين سيادة الدولة واستقلالها بعد نهاية الاستعمار البريطاني وبين مبدأ حق تقرير المصير، معتبراً الصهيونية حركة تحرر “وتطبيق هذا المبدأ (حق تقرير المصير) ما زال يشكل السبب الرئيس للنزاع بين اليهود والفلسطينيين” على حد تعبير اورن يفتاحيل في كتابه “الاثنوقراطية”. في هذا السياق يقترح يفتاحيل ومن معه محورة النضال حول المساواة في واقع دولتين لشعبين ووطن واحد مع ضمان حق العودة للدولة الفلسطينية كما يعبر عنها يفتاحيل وغيره في وقت تخطت فيه الأحداث التاريخية خيار الدولتين هذا.

في نفس السياق فإن تعريف “بتسيلم” الأخير نظام الدولة الاسرائيلية بين النهر والبحر كنظام ابرتهايد لا يتعدى فهم إدارة الصراع بنفس أدوات النضال. هنا يصيب وليد سالم في قوله ان الحركة الصهيونية أتت على ظهر دبابة الاستعمار البريطاني ليست كحركة تحرر ليطالب من يطالب لها بحق تقرير المصير بل كأداة استعمار استيطاني احلالي مكنتها بريطانيا من إقامة دولتها الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين. ويسهب وليد “ان خطاب الابرتهايد يعالج العرض ويبقي المرض الاستعمار والاستيطان. كما انه يخفض سقف النضال باتجاه العمل لإصلاح النظام الاستعماري الاستيطاني والعمل القانوني لتحقيق درجات أعلى من المساواة في اطاره. تبدو كلمة الابرتهايد والعمل للمساواة براقة، ولكننا كشعب فلسطيني نريد حق تقرير المصير والعودة وتفكيك الصهيونية والاستيطان الاستعماري، ومعالجة قضايا النكبة وكل ما ترتب عنها قبل أن نطرح خطاب المساواة. طرح هذا الخطاب في ظل النكبة المستمرة كل يوم على الأرض هو دعوة للهزيمة الذاتية. وهي دعوة لا رصيد لها ولا موازين قوى تدعمها اليوم بدون تراكم كفاحي نحتاجه أولاً لتغيير هذه الموازين قبل أي طرح للمساواة.”

ولعل أكبر تجلي لهذه الهزيمة الذاتية هي انتخابات سلطة أوسلو المقبلة كوكيلة سيطرة وإدارة ذاتيه للاستعمار والانقسام. كذلك خطاب “الوطنية العاقلة” للقائمة المشتركة بتوصيتها بكل مركباتها في حينه على مجرم الحرب غانتس سعياً منها للاندماج والتأثير بعد ما تبين لها، في ظل السقوط العربي والفلسطيني، ان نظام “اليودقراطية” بجداره الحديدي القانوني اليهودي وتخطيط الحيز التهويدي لم يبقي لهم غير التجارة السياسية الرخيصة. منطق اخذه منصور عباس “كموحدة” للوقوف بنفس المسافة بين نتنياهو ويائير لبيد. ووقف ايمن عودة “كمشتركة” ضده بنية التوصية على يائير لبيد ورفض نتنياهو. الأمر الذي قاد للانشقاق ورجوع الأحزاب الصهيونية للشارع العربي بكل قوة وجرأة عبر عنها نتنياهو نفسه ولأول مرة في مقابلة قناة “هلا” العربية.

مخاطبة نتنياهو للعرب هنا أفضل تعريف لحقيقة نظام “اليودقراطية” وتهميشه البنيوي والمنهجي للأحزاب العربية وتأثيرها. بصراحة لم يسبقه لها أحد وبكلام في صميم أداء الأحزاب العربية توجه نتنياهو للعرب وقال: “ماذا فعلت لكم الأحزاب العربية؟ كل ما فعلوه كلام فاضي. هم عاجزون عن أي مساعدة لكم. ليس لهم أي دور غير الوساطة بين الحكومة وبينكم. وانا الحكومة التي تقرر أن تعطي أو لا تعطي. والأمر هكذا لماذا تحتاجون هذه الوساطة وهي لا تجدي بشيء. مرة ثانية اشدد هم يقترحون الوساطة مع الحكم وانا اقترح عليكم الحكم نفسه بدون وساطتهم. تعالوا معي وكونوا جزء من العمل. يكفي شرذمة حان الوقت للدمج. انضموا لليكود وصوتوا لي واوعدكم بوزير عربي في حكومتي القادمة. نعم ما حاجتكم بوسطاء غير قادرين على مساعدتكم في هذه الدولة.”

هكذا كشف “أبو يائير”، كما يحلو له ان يناديه العرب، عبثية خطاب المساواة من خلال المشاركة في الانتخابات ونضال الكنيست. ومعه ضرورة النضال الموحد للشعب الفلسطيني برمته في واقع دولة نظام “اليودقراطية” الاستعماري الاستيطاني الابارتهايدي بين المية والمية.

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *