نزداد يقينا بمستقبلنا وتتعمق شكوكهم بمستقبلهم (3)
يعتقد البعض أن تفاؤلي بالمستقبل فيه مغالاة ومجافاة للحقيقة ، في ظل حرب الإبادة الجماعيه والتطهير العرقي الجارية بتسارع ضد الشعب الفلسطيني على امتداد فلسطين الانتدابية. وفي ظل الدمار الهائل الذي طال نصف قطاع غزة خلال خمسة أسابيع فقط. والمرشح نصفه الآخر لذات المصير في ظل العجر العربي والدولي غير المسبوق أمام التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني، الذي فاق في إجرامه كل الطغاة عبر التاريخ.
غير أنني لا أعتمد في رؤيتي للضوء المبدد لحلكة ظلمة الواقع الفلسطيني -والتي لا تنحصر أسبابه فقط بفاشية التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري ضد الشعب الفلسطيني. وتفوق بفداحتها الجرائم ضد الإنسانية التي خبرتها البشرية إبان العهد النازي . وإنما تتصل ،أيضا، بافتقار الشعب الفلسطيني لقيادة وطنية مسؤولة ومؤهلة تضطلع بحماية الشعب الفلسطيني وتعزز صموده وتبني على المنجزات الوطنية التي حققتها أجياله المتتابعة. وتمكنه من استعادة موقعه على الخريطة الجغرافية العربية والإقليمية والدولية، في مرحلة تاريخية فاصلة تعاد فيها هندسة خرائط المنطقة والعالم، وسيرتهن بنتائجها مستقبل شعبنا الفلسطيني وشعوب المنطقة لعقود طويلة قادمة.
وأستند في تفاؤلي بالمستقبل، أيضا، لتحليلات كثير من الخبراء وعلماء السياسة والمؤرخين والساسة الذين يجمعون على التداعيات الاستراتيجية لعملية طوفان الأقصى ، والتي لن تقتصر على فلسطين وإسرائيل فقط، وإنما ستمتد تأثيراتها للمنطقة وعموم العالم .
وسوف أخصص بعض المقالات في هذه السلسلة لتناول التداعيات الاستراتيجية لطوفان الأقصى على المستعمرة الصهيونية. والتأثيرات الجوهرية للعملية النوعية والنضال البطولي الفلسطيني على البنية الاستعمارية الاستيطانية، وانعكاساتها على حاضر الكيان الصهيونى ومستقبله. وتمتد لرعاته الغربيين. وفقا لتحليلات وتقييمات الخبراء والمؤرخين والساسة والكتاب المنشورة في وسائل الإعلام الصهيونية والغربية .
أكثر ما لفتني وأنا أتابع الصحافة الصهيونية والامريكية والغربية منذ عملية طوفان الأقصى قبل خمسة أسابيع. حجم الهلع الصهيونى والامريكي والغربي الكبير. والسرعة غير المسبوقة في توافد قادة الغرب تباعا غداة السابع من أكتوبر على المستعمرة الصهيونية. وإحضار حاملات الطائرات الأقوى في العالم والغواصات النووية والطائرات. واستنفار القواعد العسكرية المنتشرة في عديد الدول في المنطقة العربية والإسلامية. ومد جسر جوي مباشر بين المستعمرة الصهيونية والمراكز الاستعمارية الغربية لموافاة الدولة النووية باحتياجاتها الهجومية (رغم أنها تحتل المرتبة الثانية عشر عالميا في الصادرات المختبرة منتجاتها الفتاكة ضد الشعب الفلسطيني، للأنظمة الاستبدادية ومناطق الصراع المتفجرة في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية). ولتزويدها بالعتاد العسكري والقنابل الفوسفورية والعنقودية المحرمة دوليا. وإعطائها الإذن باستخدامها ضد المدنيين العزل في قطاع غزة الصغير والمحاصر والأعلى كثافة بشرية في الكرة الأرضية، دون خوف من المساءلة والمحاسبة الجزائية.
وأثار انتباهي وأنا أتابع وسائل الإعلام الرسمي الغربي المرئية والمسموعة والمكتوبة. الخصائص المستجدة للفاشية النيوليبرالية التي باتت تسيطر على مراكز صنع القرار في دول التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني. وانفصال نخبها المتنفذة الكامل عن الواقع في عصر العولمة. وعدم إدراكهم لتداعيات التطور النوعي في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. والتي حولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، يتابع ساكنوها في الجهات الأربع، الوقائع التي تجري في أي بقعة من العالم لحظة حدوثها بالبث الحي صوتا وصورة.ما بات يتعذر معه تكرار ذات الأساليب القديمة التي سبق وأن نجحت فيها القوى الاستعمارية الغربية في عصور سابقة، بإبادة الشعوب واجتثاث الحضارات الأصيلة لإحلال الحضارة المادية الغربية مكانها، وتغطية جرائمها بستار التقدم والحداثة ونشر الديموقراطية وحماية الحريات الفردية وحقوق الانسان.
وأكثر ما يلفت الأنظار، تنامي انفصال مجتمع النخب النيوليبرالية المعولمة ال 1% عن سائر البشر، إلى درجة إنكار وجودهم . لقد أشار التقرير الأخير الذي أصدرته منظمة أوكسفام بعنوان “البقاء للأغنى” يوم افتتاح المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا- حيث تتجمع النخب في منتجع التزلج السويسري – للتداول فيما بينها حول مستقبل العالم الذي يشكلونه على هواهم . ولا يلحظون تزامن تزايد ثرواتهم الطائلة مع تنامي الفقر المدقع لعموم البشرية في العالم الذي يعيشون فيه. ولا يلفتهم أن أغنى 1 % من البشر قد استحوذوا على ما يقارب ثلثي مجموع الثروات الجديدة التي تبلغ قيمتها 42 تريليون دولار، التي تم جمعها منذ تفجر جائحة الكورونا / كوفيد 19/عام 2020. أي ضعف الأموال التي كسبها 7 مليارات شخص الذين يشكلون 99% من سكان العالم، خلال عامي2021 و2022. وحاول التقرير -دون جدوى- تنبيههم إلى مخاطر تلازم تضحيات الناس العاديين اليومية للحصول على الضروريات المعيشية للبقاء على قيد الحياة كالغذاء. مع تخطي حياة الأثرياء حتى أحلامهم الأكثر جموحا.
وعند التدقيق في مصادر ثروات أغنى أثرياء العالم، يتبين تصدر أصحاب الصناعات العسكرية، والنفط والغاز (والتعدين)، و المصارف والعقارات والصناعات الدوائية والذكاء الاصطناعي.التي يشكل الصهاينة عنصرا وازنا فيها يفوق بأضعاف أهميتهم النسبية إلى السكان. ويسيطرون على مراكز صنع القرار ومؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية ووسائل الإعلام. ما قد يفسر هذا الارتباك والهلع الغربي عندما اجتاز بضع مئات من فدائيي حماس بسهولة بالغة، السياج الحدودي المنيع للمستعمرة الصهيونية التي استثمروا فيها مواردهم على مدى أكثر من قرن. فباتت القلعة الاستعمارية الحصينة الأكثر تطورا والأعلى تكلفة خارج حدود الغرب. والموكل إليها مهمة حماية مصالحه الحيوية وإدامة هيمنته على عموم المنطقة الجيو-استراتيجية الأهم في العالم .
فأربكتهم كثيرا العودة الصاخبة لثلة من أحفاد الفلسطينيين لمسقط رأس أجدادهم في السابع من أكتوبر . بعد غياب وتغييب تواطأ فيه الكون وذوي القربى على السواء ودام 75 عام . وخيل للجميع أنهم أخرجوا الشعب الفلسطيني من الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ. فنسوا وجوده -خصوصا بعد تواطؤ قادتهم وإمعانهم في تقسيم الوطن وتجزئة الشعب والانخراط في مساومات على قضيته وحقوقه الوطنية- وتجاوزوه جميعا في وعيهم. وفي خططهم لصياغة المستقبل. ولم يعد الشعب الفلسطيني مرئيا ليهود المستعمرة الصهيونية وحلفائها القدامى والجدد. رغم أن تعداده في فلسطين الانتدابية وحدها بات يفوق عدد المستوطنين اليهود الذين يستعبدونه. ومثلهم في محيطها ينتظرون العودة لوطنهم. فصدم ظهور الفلسطيني المتمرد المصمم على بلوغ حقوقه في السابع من أكتوبر. وأفقد يهود المستعمرة الصهيونية ورعاتها الامريكيين والغربيين وتابعيهم عقولهم. فاستعاضوا عن السياسة بالثأر والانتقام، ما كشف لشعوبهم ولشعوب العالم أجمع، الجوهر الاستبدادي الفاشي للحضارة النيوليبرالية الغربية المعولمة .
وأخصص هذا المقال لشهادة الكاتب الامريكي الصهيوني الشهير توماس فريدمان، حول تأثيرات طوفان الأقصى على المستعمرة الصهيونية التي يزورها حاليا. ضمنها مقاله المعنون “لم أذهب إلى إسرائيل هذه من قبل” . ونشره في صحيفة نيويورك تايمز الامريكية بتاريخ 9/11/2023 . وسأرفق لاحقا ترجمة له .
فالكاتب الذي غمرته الصدمة بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي -كسائر النخب المتنفذة في الغرب الاستعماري، وخصوصا إدارة الرئيس بايدن، التي يقدم لها نصائحه بشأن السياسة الامريكية الشرق أوسطية- تملؤه الثقه بصدقية رئيسه الذي يكرر القول أنه “ليس من الضروري أن تكون يهوديا حتى تكون صهيونيا”.شأنه في ذلك شأن كافة الرؤساء الامريكيين الجمهوريين والديموقراطيين وقادة الدول الاستعمارية الغربية منذ أكثر من قرن ونصف – حيث اليهودية دين كسائر الأديان السماوية التي يؤمن بها ثلثا البشر-. فيما الصهيونية عقيدة استعمارية استيطانية عنصرية. يتشاركها قادة النظام الرأسمالي العالمي الذي سيطر أقطابه على النظام الدولي منذ قرون عدة. وتقوده حاليا الولايات المتحدة الامريكية، ويرتكز على تقديس الربح المادي، ويقدمه على حياة جميع البشر .
لقد عبر توماس فريدمان في مقاله- الذي كتبه بعد قيامه بتفقد أحوال المستعمرة الصهيونية بعد السابع من اكتوبر- عن صدمته الكبرى كيهودي وصهيوني وأمريكي. فلم تعد إسرائيل التي يزورها حاليا كما عرفها من قبل – والتي طالما تغنى بمزاياها وقيمها الإنسانية وشعبها الفريد في ديموقراطيته وإبداعاته العلمية والتكنولوجية وكفاءة نظامها وتفوقه الحضاري على محيطه المعادي. الذي وصفه في مقاله”يجمع بين وجهات النظر العالمية الثيوقراطية في العصور الوسطى وأسلحة القرن الحادي والعشرين”.
ويستطرد فيقول” لم تعرف إسرائيل منذ تم إنشاؤها قبل 75 عام” ولم يقل فوق أنقاض الشعب الفلسطيني. “ظروفا كالتي باتت تعيشها منذ السابع من أكتوبر ” بعد نجاح فدائيي حركة حماس باختراق حدودها المنيعة. فما جرى غير مسبوق ويفوق التصور. إذ اعتادت إسرائيل ورعاتها الغربيون أن تهاجم وتهزم دول وشعوب المنطقة في أيام معدودات. وان يتنازل قادتها عن حقوق شعوبهم تحت سطوة القوةً. “ولم يضطر جنرالات إسرائيل إلى حمايتها من قبل”. “ولم تضطر أمريكا إلى الدفاع عن حليفها من قبل” / ويبدو ان الكاتب أغفل عملية الإنقاذ الامريكية بقيادة هنري كيسنجر في حرب اكتوبر عام 1973/ . لكنه محق تماما في وصف الفارق الجوهري بين عملية الإنقاذ السابقة وتلك الحالية عملية التي يضطلع بها كامل التحالف الاستعماري الغربي،سواء من حيث حجمها أم سرعتها ، إلى درجة دفعت بالرئيس الامريكي المسن للقدوم فورا . وتتابع توافد رؤساء وقادة الدول الغربية السياسيين والعسكريين والأمنيين والضباط الميدانيين .
ربما الأهم في مقال فريدمان إشارته إلى القلق الوجودي غير المسبوق الذي تسبب به طوفان الأقصى وبات يسيطر على وعي جميع يهود إسرائيل، بغض النظر من مناطق سكناهم . وهو قلق لم يقتصر عليهم، بل طال أيضا، رعاة إسرائيل في الولايات المتحدة وعموم الغرب. ويعيده الكاتب إلى ثلاثة أخطار رئيسية تتربص بإسرائيل :
الأول: تعدد الأعداء الذين يسعون للقضاء عليها. ويحددهم بحماس،وحزب الله، والميليشيات الإسلامية في العراق، والحوثيين في اليمن – وفلاديمير بوتين -الذي على حد وصفه- بات يحتضن حماس.
الثاني: الشك في وجود شركاء لا يتزعزعون في الخارج. في ضوء حرب المدن وسقوط آلاف الضحايا من المدنيين / رجال ونساء وأطفال أبرياء/ ، الذين ستضطر إسرائيل لقتلهم من أجل اجتثاث حماس – في استعادة لقول جولدا مائير قبل نصف قرن، عندما حملت الفلسطينيين مسؤولية قتل إسرائيل لأطفالهم.
الثالث: افتقار إسرائيل إلى قيادة مؤهلة تمتلك مبادرة دبلوماسية لحل الصراع، “نوع ما من التسوية. حل الدولتين، والبحث بإمكانية إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة بعد القضاء على حماس” تمكن إسرائيل من حشد الموارد والحلفاء والوقت والشرعية التي تحتاجها لهزيمة حماس.
ويؤرق الكاتب أكثر، أن قتل 1400 إسرائيلي في السابع من أكتوبر لم يؤد فقط -على حد قوله- إلى “تصلب قلوب الإسرائيليين تجاه معاناة المدنيين في غزة” . أو لأنه عمق قناعة جميع الإسرائيليين ب “إما نحن وإما هم ” . بل أساسا “لأنه تسبب في شعور عميق بالإهانة والذنب لدى الجيش الإسرائيلي ومؤسسة الدفاع، لفشلهما في مهمتهما الأساسية المتمثلة في حماية حدود البلاد”. وتصميمهم بالتالي على تلقين دول وشعوب المنطقة والعالم ” بأنه لا يمكن لأحد أن يغضب إسرائيل لطرد شعبها من هذه المنطقة – حتى لو كان على الجيش الإسرائيلي أن يتحدى الولايات المتحدة، وحتى لو لم يكن لديه أي خطة قوية لحكم غزة في اليوم التالي للحرب”. ويبدو أن الكاتب لا يعلم ما يعرفه الجيش الإسرائيلي وقادته، بأن معظم القتلى الإسرائيليين في السابع من أكتوبر قتلتهم”نيران صديقة”. عندما استهدفت الطائرات والمدفعية الإسرائيلية المستوطنات دون تمييز بين المستوطنين اليهود وبين المهاجمين الفلسطينيين. والذي كشفه تقرير ليدعوت احرنوت تم حذفه بعد ساعات قليلة من نشره . وأشار إليه،أيضا، تقرير مراقب الشرق الأوسط في 30/10/2023 المعنون “شهادات 7 أكتوبر توجه ضربة قوية للرواية الإسرائيلية”. ويبدو أن الكاتب لا يعلم ،أيضا، أن الكيان الصهيونى قد خفض بعد مرور شهر عدد قتلاه في السابع من أكتوبر (من 1400 إلى 1200 قتيل).
المثير للاستغراب أن الكاتب الصحفي الشهير وعموم الغرب الاستعماري العنصري، الذي يتوارى خلف حق الغزاة الصهاينة في الدفاع عن النفس، وينسبونه للقانون الدولي- وهو منه براء- . إذ لا حق لمستعمر في احتلال أوطان الآخرين. وقصر الحق في مقاومة المحتل على الشعوب الخاضعة للاحتلال.
ويستخدمون هذا الحق المزيف لتبرير حرب الإبادة الجماعيه والتطهير العرقي المتواصلة للعقد الثامن على التوالي ضد الشعب الفلسطيني الذي سطوا على كامل وطنه . من أجل إنشاء دولة استعمارية استيطانية غربية. تستوعب اليهود الذين اقتلعهم الغرب الاستعماري الأوروبي المعادي للسامية بالقوة من أوطانهم الأوروبية ، وتواطأ مع الحركة الصهيونية لإعادة توطينهم في فلسطين ،في الدولة اليهودية الوظيفية التي تخضع للسيطرة الصهيونية . التي ستناط بها مهمة الحفاظ على تجزئة البلاد العربية – الإسلامية الممتدة متعددة الأعراق والاثنيات والقوميات والأديان والألوان .وتعطيل نهوض شعوبها، ومنعهم من استعادة تواصلهم الجغرافي والديموغرافي واستعادة وحدتهم الحضارية الأصلية الجامعة لشعوب ودول المنطقة. لإدامة الهيمنة الاستعمارية الغربية على مقدراتها .
واللافت أن الكاتب القلق والمتفهم في الآن ذاته لانتهاج إسرائيل مبدأ “العين بالعين والسن بالسن “
لم يخطر بباله أن يطرح السؤال المركزي : إذا كان هذا رد فعل يهود المستعمرة الصهيونية الذين استقدموا لاستعمار فلسطين قبل 75 عام. واستولوا على وطن الشعب الفلسطيني الذي سكنه لآلاف السنين المتصلة. واستوطنوا في ديارهم. وارتكبت عشرات المجازر الصهيونية باسمهم . ودمرت 530 قرية، وهودت المدن والقرى الفلسطينية . واقتلع قبل 75 عام أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم لإسكانهم مكانهم. وهجر أصحابها خارج وطنهم. وشرد من تبقى منهم داخل وطنهم،وما يزالون يمنعون من العودة الى قراهم وممتلكاتهم . ثم تم الاستيلاء بعد أقل من عقدين على الخمس المتبقي من أرض وطنهم. وشرد أكثر من 350 ألف فلسطيني جديد، غالبيتهم ممن سبق تشريدهم قبل أقل من عقدين . ولوحقوا في مواطن اللجوء خارج وطنهم .واغتيل خيرة قادتهم. واعتقل خلال ستة عقود أكثر من مليون فلسطيني من الأراضي حديثة الاحتلال. وما يزال الآلاف منهم يقبعون في السجون الصهيونية. وصودرت أراضيهم، وحوصروا في معازل سكانية مغلقة يحيط بها الغزاة المستوطنون المدججون بالسلاح. المكلفون بمواصلة تضييق سبل عيش الفلسطينيين والاعتداء عليهم لإجبارهم على الرحيل تحت طائلة التهديد بالقتل والحرق. وقطعت أكثر من 800 ألف شجرة زيتون. وسدت آبارهم. وهدمت مدنهم وقراهم ومضاربهم – قرية العراقيب في النقب نموذجا هدمت حتى الآن216 مرة – ودمرت مساكنهم تارة بحجة البناء غير المرخص، وتارة أخرى لمعاقبة المتمردين على جبروت الاحتلال. وخير أصحابها بين القيام بهدم بيوتهم بأنفسهم ، وبين تحمل تكاليف هدمها من قبل الاحتلال. وقتلوا داخل المساجد. ودنست مقدساتهم الإسلامية والمسيحية. وأهين رجال الدين المسيحي بالبصق عليهم باعتبار ذلك تقليد ديني يهودي مقبول. وتتواصل الغارات يوميا على المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية، وتتواصل حرب الإبادة والتطهير العرقي في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، ويتواصل تعقب مواطني إسرائيل الفلسطينيين ويعتقل قادتهم . وخلال الخمسة أسابيع الماضية ،فقط، دمر جيش المستعمرة الصهيونية بدعم امريكي وغربي نصف قطاع غزة.وهدموا المساكن فوق رؤوس أصحابها، واستهدفوا المدارس والمستشفيات والكنائس والمساجد والطرقات. وقتلوا أكثر من 11 الف فلسطيني حتى الآن، وجرحوا نحو ثلاثين ألفا غالبيتهم العظمى من الأطفال والنساء. وقطعوا إمدادات الماء والكهرباء والوقود والغذاء والدواء .
فكيف يتوقع الكاتب أن يكون عليه رد الفعل الفلسطيني إذا طبق الفلسطينيون ذات المبادىء المقبولة والمبررة للتحالف الاستعماري الغربي الصهيوني ؟! وهم لن يفعلوا لأنهم يحتكمون الى منظومة قيمية إنسانية تقدس الحياة ، وتؤمن بتساوي حقوق جميع بني البشر في الحياة والحرية والكرامة والعدالة وتقرير المصير .
والأغرب أن الكاتب المتحضر وعموم الغرب الاستعماري العنصري لا يرون الفارق الجوهري في تطبيق إسرائيل للمبادىء المقبولة لديهم “حق الدفاع عن النفس” و “العين بالعين والسن بالسن” وفي امتناع الشعب الفلسطيني عن الثأر والانتقام ومحاكاة عدوه بذات الوحشية .
فالعنصرية البنيوية المتأصلة في الحضارة المادية الرأسمالية الغربية، جعلتهم يعتقدون بأنهم صنف أرقى من البشر . وأنهم وحدهم من يحددون مبادىء القانون الدولي وقواعد المساءلة والمحاسبة التي يخضع لها بقية البشر الأدنى مرتبة منهم في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. والذين يحظر مساواتهم مع شعوب الغرب في الحقوق الأساسية ، واهمها الحق في الحياة والحرية والكرامة وتقرير المصير.
لعل أهم ما كشفه طوفان الأقصى الجوهر الاستبدادي الفاشي للحضارة النيوليبرالية الغربية، وافتقارها للبعد الإنساني وسقوطها الأخلاقي . إذ تصنف مراتب البشر وحقوقهم وفقا لاختلافاتهم في العرق واللون والدين والمعتقدات والطبقات. وتسعى لتسيد العالم بالقوة القاهرة التي تملي الحقوق. وتهدد من يرفض الانصياع والقبول بالقدر الذي ترسمه لهم بالإبادة والفناء .
وقد أثبت التاريخ الإنساني المدون أن أفول الحضارات على امتداد العصور قد ارتبط بتنامي استبداد نخبها المتنفذة. وسقوطها الأخلاقي والقيمي. والذي بلغ مداه الأقصى في الحضارة الغربية خلال العقود الأخيرة . وكشف طوفان الأقصى للشعوب العربية والغربية وشعوب العالم قاطبة خطورة النظام النيوليبرالي المعولم عليهم وعلى البشرية جمعاء . فتدفقوا بمئات الآلاف للساحات والميادين في كل عواصم ومدن العالم لنصرة الشعب الفلسطيني، إذ رؤوا فيه تجسيدا حيا لمظلومية كل منهم . ووجدوا في تضامنهم مع نضاله التحرري سبيلا لتحررهم الذاتي. وأدركوا أن قضية التحرر الإنساني واحدة للجميع ، وأن دعم نضال الشعب الفلسطيني لبلوغ الحرية والعودة وتقرير المصير جزء لا يتجزأ من النضال التحرري المشترك لشعوب العالم قاطبة .