نحو مشروع وطني فلسطيني
في الذكرى الأولى لهجوم “حماس” ولبدء الحرب الإسرائيلية المجنونة على قطاع غزة، يعج الإعلام بتقييمات مراقبين ومحللين، مختصين بالشأن الإسرائيلي وبالشأن الفلسطيني، غالبية الحديث عن إسرائيل وتدميرها لغزة وحصارها للضفة وقصفها لبيروت واستهداف قيادات “حزب الله”. كل هذا صحيح ويستحق التقييم.
الكثير من التقييمات لغو ونصوص إنشائية معتمدة على مراقبة الإعلام الإسرائيلي ونسخ ما يجري في الساحة الإسرائيلية بغير عين فاحصة وجدية. وبالتأكيد فإننا نخطئ كثيرا في تقييمنا. وخصوصا عندما نقيّم أوضاعنا الداخلية. كعرب وكفلسطينيين يجب أن ننظر بصدق وبعين فاحصة لأوضاعنا داخليا، وخصوصا للوضع اللبناني المتفاقم والذي يتطلع لوقف الهجوم الإسرائيلي بأقل خسائر ممكنة، كما يجب أن ننظر بصدق وصراحة إلى الوضع الفلسطيني، ونحاول تقييم ما حصل فعلا بغير اللجوء إلى مداخلات وتحليلات وهمية وبعيدة عن الواقع.
الفلسطينيون الآن في واقع يصب في اتجاه واحد: زيادة المعاناة الإنسانية والانهيار الوطني، وتفكك الحركة الوطنية، وعلى رأسها تراجع “حماس” وقدراتها إلى حضيض غير مسبوق، وبالتالي تراجع القدرة على المقاومة العسكرية، مما يتطلب العودة إلى أفكار أكثر جدارة بالمرحلة وبالضرورات الوطنية الجمعية للفلسطينيين.
يجب أن يقال بوضوح: الفلسطينيون الآن في أسوأ لحظة في تاريخهم، على الأقل منذ النكبة. عام 2024 هو عام تردٍ غير مسبوق في التاريخ الفلسطيني، ومهم أن نعترف بذلك جهارا. وفي التجربة الفلسطينية الاعتراف بالنكبة ونتائجها المدمرة قاد إلى الحراك الوطني أوائل خمسينات القرن الماضي، وظهور حركة “فتح” ومن ثم بعث وإحياء الهوية والمؤسسات الوطنية.
قدرات إسرائيل الحقيقية هي التي عانى منها الفلسطينيون خلال العام الماضي بأشكال وجرائم تشمل التطهير العرقي والإبادة، المثبتة في عشرات التقارير الرسمية والصحافية
والاعتراف بالهزيمة عام 1967 هو ما أدى إلى استفاقة مهيبة للذات الجمعية وللمؤسسات الوطنية للفلسطينيين، وأهمها تقلد ياسر عرفات لزمام القيادة وخلفه الفصائل التي عبرت ومثلت الهوية المتفتحة للفلسطينيين. صحيح أن الفلسطينيين يعانون من آثار النكبة حتى الآن، وصحيح أنهم شردوا وقاوموا وقتلوا وعادوا وتركوا وتنظموا وتفرقوا، إلا أنهم لم يخسروا ذاتهم الجمعية، لم يتهشم نسيجهم الاجتماعي إلى حدود غير مسبوقة، كما يحدث الآن في غزة، وحتى في الضفة والقدس والداخل. لم توضع قضية اللاجئين جانبا ولم تكن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في مثل وضعها الحالي، وهو الأسوأ في تاريخها… المخيمات استهدفت في العراق وسوريا ولبنان وفرغت خلال عشرين عاما. ومن بقي من الجيل الشاب فضل الهجرة والبحث عن مستقبل، وأتت الحرب على غزة لتضع اللاجئين وقضيتهم في جنبات غير مرئية.
مبالغات بعض المراقبين والمحللين وأحاديث زوال إسرائيل وهزيمتها وتفككها من الداخل كلها أوهام تسوّق في سياق بلاغة لغوية تريد أن تطعمنا لغوا وخيالا لا يتصل بالواقع. صحيح أن إسرائيل صعقت من هول التفكك العسكري والمدني صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومن الهجوم المفاجئ لقوات “حماس”، وربما من انهيار منظومة الردع بما يشمل الإنذار المبكر والدفاع والمبادرة. لكن كل ذلك جرى في لحظة عينية وفي منطقة محددة، ولا يعني انهيار الأمن الإسرائيلي وقدراته.
قدرات إسرائيل الحقيقية هي التي عانى منها الفلسطينيون خلال العام الماضي بأشكال وجرائم تشمل التطهير العرقي والإبادة، المثبتة في عشرات التقارير الرسمية والصحافية، بما يشمل دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. إسرائيل المجروحة خططت وخاضت أكثر حروبها عنفا وإجراما، في غزة تحديدا، والآن في جنوب لبنان وفي الضاحية. إننا نشهد يوميا على أكبر الجرائم ضد البشرية، وباسم حق الدفاع عن النفس، وخلالها تتحول المدن والأحياء إلى حطام، ويتحول ساكنوها إلى أموات تحت التراب أو مصابين فوقها، بلا إسعاف ولا علاج ملائم، ويهاجر من تبقى مفتشا عن ملجأ لا يجد به ما يكفيه من طعام أو ماء أو ملبس. تتشتت العائلات، يفتقد الناس إلى الأمان الأساسي في كل معانيه، بينما يجلس المحلل بعيدا عن الحقل ويحدثهم أو يكتب عن صمودهم ومقاومتهم وحتى دحرهم لإسرائيل، ويقدمها لهم على أنها لا شك مهزومة ومنتهية خلال أيام أو أسابيع، أو شهور على الأكثر!
في مواجهة الأهوال بقي الفلسطينيون وحدهم، ربما يساندهم طلاب ومتظاهرون في الغرب، ووجدان وقلوب حزينة في العالم العربي
خلال هذا العام تبين للفلسطينيين العاديين، غير المدفوعين بصلات المصالح والتمويل، لا من إسرائيل ولا من الولايات المتحدة ولا من العالم العربي ولا من إيران وغيرهم، بل عامة الفلسطينيين الذين يدركون الآن أنهم وحدهم في مواجهة إسرائيل وآلاتها القمعية، لأنهم يعرفون أن أصدقاء إسرائيل من عرب وعجم لن يسعفوهم، وأن وحدة الساحات لا تأتي إلا متأخرة وبحسابات منضبطة تفضل مصالح الراعي الإيراني على نجاتهم. هم وحدهم في مواجهة آلة القتل والتشتيت الإسرائيلية ومشروع الدولة اليهودية التي لا تخجل لا بالأبرتهايد ولا بتهم التطهير والإبادة وتقول للعالم وجهارا إنها لن توقف إجرامها وإنها مستمرة في تنفيذ خططها، لا بل إن العالم الرسمي يؤيدها ويمدها بالسلاح وبأدوات النجاح لمشروعها.
هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر 2023، والذي تخللته أخطاء اعترفت بها “حماس” في ورقتها من يناير/كانون الثاني الماضي بما يخص الاعتداء السافر على مدنيين، قد يكون مهماً في سياق إفهام إسرائيل والعالم أن القضية الفلسطينية بحاجة إلى حل، وأن الفلسطينيين ما زالوا على استعداد للتضحية في سبيل ذلك. لكنه بالتأكيد أتى كذلك بشكل مقاومة عرضت نفسها وكأنها جيش يستطيع القيام بهجوم كاسح، وكأنها تستطيع الدفاع بشكل فعال عن الغزيين، وربما الوصول إلى هزيمة إسرائيل أو على الأقل دحرها. كل ما ذكر هو تعبير عن أوهام وعن عدم قدرة على قراءة أساسية وأولية لميزان القوة أولا، ولما يحدث في إسرائيل من تغييرات نحو الفاشية وانتظار لحظة الفرصة للانقضاض على الشعب الفلسطيني ومقاومته وقدراته الأساسية ثانيا، وهو ما حصل فعلا، وصولا إلى سيطرة شبه تامه على القطاع وتعميق السيطرة والتهويد في القدس والضفة وتعاظم القمع في الداخل.
في غزة تحديدا قامت إسرائيل بتطهير وأفعال إبادة وقتل وجرح وتهجير ونقل من مكان لآخر وتجويع وسحق البنى التحتية وسجن وتعذيب ومنع الإغاثة وغيرها من الجرائم وبغير رقيب، وصولا إلى تنفيذ مشروع التطهير الكامل للفلسطينيين من شمال غزة كما تصور الجنرال المتقاعد (المعتدل) غيورا آيلاند، تطهير يجري في ظل حرب إسرائيل في لبنان أو مع إيران، وبينما العالم ينظر هناك، يجري التطهير في غزة.
وفي مواجهة الأهوال بقي الفلسطينيون وحدهم، ربما يساندهم طلاب ومتظاهرون في الغرب، ووجدان وقلوب حزينة في العالم العربي، لا تنجدهم الاعترافات بسلطة ولا خطابات القادة في الأمم المتحدة وفي منصات الإعلام. بقوا وحدهم في مواجهة آلة القمع الإسرائيلية، وجودهم المادي مهدد وكل إنجازاتهم في مهب الريح، في وضع خطير من أداء قيادي مهترئ ومتقاعس، ووسط غابة من التحليلات والمقالات، التي تبدو كمن انتظرت لحظة الهجوم الإسرائيلي الكاسح لتجد لها منصة للتعبير وللكلام المنقول أو المحبوك “في وصف الحالة”.
لا يلغي ذلك بعض المبادرات الجدية والحقيقية وعلى رأسها مبادرات لإصلاح الذات الجمعية الفلسطينية وإجراء انتخابات وإقامة حكومة تكنوقراط تعبيرا عن وحدة وطنية ودعوة لإجراء انتخابات جدية، لكنها كلها يتم رفضها من قبل المتنفذين في الفصائل والأحزاب وتبقى على ورق، فيما الواقع المتدهور يزداد بؤسا وتدنيا.
دون تغيير جدي، ودون التصدي لأصوات المزايدات التي أوصلتنا إلى هنا، لن نستطيع الخروج من المستنقع والانتقال إلى فعل سياسي ووطني حقيقي يقودنا إلى تحقيق الحلم الفلسطيني
إننا في لحظة مهمة لتقييم الفلسطينيين جديا لحالتهم ولمستقبل مشروعهم الوطني. هناك ضرورة لتقييم جدي لنتائج هجوم “حماس” ولآثاره المأساوية، بما يشمل نتائج الهجوم الإسرائيلي الكاسح على الناس ومقدّراتهم، والذي نفذ بإرادة وأياد مجرمة، كانت في انتظار اللحظة المواتية، كذلك ضرورة إجراء تغيير جدي وفوري في المسار الوطني، وعلى رأسه البرنامج الوطني وأعني تحديدا الذهاب إلى مشروع إزالة الأبرتهايد وآثار الاستعمار الاستيطاني من خلال مشروع ممتد لعشرات السنوات وبغير البناء مرة أخرى على الحسم العسكري.
مهم لعموم الفلسطينيين الانتباه أكثر لطرق النضال، وخصوصا في ضرورة مراجعة شاملة لجدوى الكفاح المسلح والذهاب إلى الطريق الطويل المبني على أساس الصمود في الوطن وتمتين الوشائج الاجتماعية وطرق إدارة الموارد الإنسانية وتعزيز طريق النضالات الشعبية وبناء استراتيجي لإسناد وتعاون داخلي، مع دعم وإسناد خارجي أساسه شباب وصبايا يتظاهرون اليوم في الشوارع، إلا أنهم سيشكلون القيادات في بلدانهم بعد عقد أو أكثر من الزمن، علينا أن نحافظ على التفاتهم والتفافهم حول القضية الفلسطينية، ولنعمل على توسيع رقعة الدعم للقضية، بما في ذلك في الشارع اليهودي، العالمي والإسرائيلي.
دون تغيير جدي، ودون التصدي لأصوات المزايدات التي أوصلتنا إلى هنا، لن نستطيع الخروج من المستنقع والانتقال إلى فعل سياسي ووطني حقيقي يقودنا إلى تحقيق الحلم الفلسطيني بالعودة وإقامة دولة المساواة والمواطنة، كباقي الأمم.
إذا كنا لا نستطيع أن نقول الحقيقة لأنفسنا ولأبنائنا، ولحلفائنا ولأعدائنا، وبالكلمات نفسها، الحقيقة حول ضرورة لملمة جراحنا ومواجهة الواقع، بما في ذلك كيفية إجراء التحول التاريخي في فلسطين، ومع الالتزام الكامل بمبادئ العدالة والإنسانية، فإننا نكون قد فوتنا الفرصة الأخيرة، التي قد تعيدنا إلى التاريخ كما نريد، وكما يجب، وبما يفتح أفقا لمستقبل واعد، لنا ولمن يختار أن يعيش معنا في فلسطين ديمقراطية وحرة ومركز إشعاع للعالم.
عن المجلة