نحو خطاب سياسي فلسطيني جديد*
تواجه الساحة الفلسطينية، في هذه المرحلة، مجموعة من التحولات والاستحقاقات التي تختلف في أشكالها ومضامينها عن مجمل ما واجهته هذه الساحة، خلال المراحل الماضية، إن بالنسبة لتطورات القضية الفلسطينية ومستقبل الفلسطينيين، أو بالنسبة لعلاقتهم الصراعية بإسرائيل وشكل حركتهم الوطنية. بسبب من كل ذلك، ولأسباب بنيوية تاريخية، تواجه الساحة الفلسطينية أزمة من نوع خاص، على مختلف المستويات، في محاولتها استيعاب المتغيرات والمتطلبات الجديدة، وفي سعيها لتمثل التطورات الحاصلة. وتحاول هذه المداخلة المساهمة في النقاش حول أوضاع الساحة الفلسطينية، من مدخل الأزمة، انطلاقا من الفرضيات الأساسية التالية:
الفرضية الأولى: تعتبر أن أزمة الساحة الفلسطينية لا تقتصر، فقط، على الجانب المتعلق بالخطاب والشعار السياسي، وإنما هي تمتد لتطال مجمل الأشكال السياسية السائدة، فيها، بسبب المتغيرات الهائلة الحاصلة (دوليا وعربيا وإسرائيليا وفلسطينيا)؛ومن الواضح أن هذه الأشكال بطرائق عملها وبناها، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وأساليب نضالها، القديمة فقدت قدرتها على الاستمرار كما أنها باتت تفتقد القدرة على تلبية متطلّبات تجديد العمل الوطني الفلسطيني، في الظروف والمعطيات الجديدة، بعد أن استهلك دورها وتآكلت شرعيتها.
الفرضية الثانية: إن قضية تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية تستمد ضرورتها وشرعيتها من التطورات الحاصلة في الساحة الفلسطينية ذاتها، وليس، فقط، من ضرورة مواكبة المتغيرات الدولية والإقليمية؛ انطلاقا من وعي أهمية العامل الفلسطيني ومكانته في الأزمة الراهنة، بافتراض أن معالجة هذه الأزمة، في شقها الذاتي، على الأقل، ضرورة ومقدمة للمساهمة في التغلب على البعد الموضوعي لها.
الفرضية الثالثة: تكتسب عملية مناقشة الأزمة الفلسطينية، من زاوية الخطاب السياسي، أهمية كبيرة لأن المنطلقات والشعارات السياسية تساهم في تحديد أشكال العمل المناسبة، والأهداف الممكنة، وتساهم في جسر الهوة بين الواقع والطموح، وبين العدالة وموازين القوى، وبين المرحلي والمستقبلي. والنتيجة أن الحركة الوطنية الفلسطينية هي أحوج ما تكون في هذه المرحلة، وبعد هذه التجربة، وهذا المستوى من النضج الذي حققته، إلى إعادة النظر بتفكيرها السياسي لتخليصه من العفوية والسطحية والروح الشعاراتية، التي سادته طوال المرحلة السابقة، وإعادة الاعتبار للواقعية والعقلانية في الفكر السياسي الفلسطيني.
ما يعمق الأزمة الذاتية الفلسطينية، انتماء معظم القوى الموجودة للماضي، وعدم قدرتها(أو رغبتها)على إجراء مراجعة ذاتية للتجربة، لإعادة البناء، واستنباط الأشكال التنظيمية والنضالية المناسبة لاستمرار مسار العملية الوطنية الفلسطينية ببعديها المتلازمين المتكاملين: الصراعي (ضد إسرائيل وسياساتها) والبنائي(لصوغ المرتكزات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني)، وهذان البعدان هما من أهم مميزات هذه العملية، بسبب خصوصية القضية الفلسطينية، ومواجهتها لمشروع استيطاني-إحلالي-عنصري، هذا من جهة؛ ومن الجهة الأخرى، فإن ما يعمق هذه الأزمة، التعقيدات الموضوعية التي يتعرض لها العمل الفلسطيني في مناطق اللجوء، بسبب خضوعه لأنظمة اجتماعية، اقتصادية سياسية متباينة، والتزامه اشتراطات واستحقاقات متعددة؛ يعزز من أزمة التفكير السياسي، تكلس الأطر السياسية السائدة وجمودها الفكري وضعف الحراك في داخلها وضعف التقاليد الديمقراطية، بما في ذلك الحق في الاختلاف واحترام التعددية والتنوع. وتضطلع طريقة اتخاذ القرارات بدور هام في تعميق هذه الأزمة، بالنظر لاستشراء ظاهرة التفرد في اتخاذ القرارات وغياب الشفافية ومصادرة دور المؤسسات. يضاف إلى كل ذلك، أن المرحلة الراهنة، هي بحد ذاتها مرحلة انتقالية. وعليه، لا بد من الإقرار، بداية، بأن معالجة القضايا المطروحة، ليست عملية بسيطة، وبالتالي ليس متوقعا وضع أجوبة نهائية وكافية لكل معضلات الأزمة القائمة، المليئة بالتعقيدات والالتباسات، بعد كل هذه المتغيرات والتحولات في البيئة: الدولية والعربية والفلسطينية.
عملية التسوية وأزمة الفكر السياسي
لعل أزمة الفكر السياسي الفلسطيني تتمثل بعدم استيعابه صدمة عملية التسوية والواقع الناجم عنها، وعدم استطاعته تمثل التغيرات في الواقع السياسي: دوليا وعربيا وإسرائيليا وفلسطينيا، وبالتالي عدم تفهمه المحددات والقيود التي باتت تحيط بالعمل الفلسطيني على خلفية هذه المتغيرات، التي تحول دون استمراره بأشكاله السابقة. لذلك تبدو الساحة الفلسطينية في فراغ سياسي، وفي حال من التخبط السياسي، لغياب خطاب سياسي جمعي هي بأمس الحاجة إليه، خصوصا في المرحلة الراهنة، إذ أن وجود مثل هذا الخطاب من شأنه: صيانة الهوية الوطنية، كما أنه ضرورة لترشيد الحركة السياسية، والإسهام في تعميق وحدة الفلسطينيين المجتمعية؛ بغض النظر عن الخلافات الفصائلية، التي هي من المفترض خلافات طبيعية كونها تعبير عن حيوية الشعب الفلسطيني، وقضيته المعقدة، كما أنها نتاج تفاوت أوضاعه السياسية والاجتماعية. أما شروط وجود خطاب كهذا فتتمثل بالجوانب التالية:
1) تغليب المصالح العليا الحقيقية للشعب العربي الفلسطيني على المصالح الأنانية، والتكتيكات “الفصائلية” الضيقة.
2) الإيمان بالتعددية والاعتراف بالآخر، واحترام رأيه في إطار السعي لتعزيز العلاقات الديمقراطية وتأطيرها في مؤسسات وصيغ محددة، تكفل احترام التنوع وإدارة الخلافات بطريقة سليمة تحافظ على المصالح والأولويات الوطنية، بعيدا عن مصطلحات تعسفية مثل: التخوين أو” التكفير”، التي “لا تغني ولا تسمن من جوع”.
3)التركيز في كل المراحل على التناقض الرئيسي، أي توجيه جهود وإمكانات حركة النضال الفلسطيني ضد السياسات الإسرائيلية، لأن كافة أشكال التناقضات الأخرى، لا يمكن حلها إلا في هذا الإطار.
موجبات تجديد التفكير السياسي
تكتسب عملية مراجعة وتجديد الخطاب السياسي الفلسطيني ضرورتها ومشروعيتها من المتغيرات والتحولات الهامة التالية:
أولاً ـحصول تغير نوعي على صعيد العلاقات الدولية، بهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، على ما يسمى «النظام الدولي الجديد»، وهي ضامنة أمن إسرائيل وتفوقها النوعي، وخضوع القوى الكبرى لهذه الهيمنة في حقل العلاقات الدولية، وعلى مختلف الأصعدة في المدى المنظور.
ثانياً ـ تزايد وزن العوامل الاقتصادية، والتكنولوجية والعلمية في تحديد موازين القوى للدول، وتعيين دورها ومكانتها في حقل الصراعات والعلاقات الدولية، على حساب القدرة العسكرية، مع تضاؤل الحاجة للسيطرة العسكرية المباشرة لصالح أشكال السيطرة غير المباشرة، وبسبب تطور إمكانات التحكم والإخضاع عن بعد، كما تضاءلت، إلى حد ما، أهمية المساحة -الجغرافيا.
ثالثا ـ الاتجاه الموضوعي نحو «العولمة» والتداخل الإقليمي والدولي في مختلف المجالات: السياسية، الاقتصادية، التكنولوجية وحتى في المجال الثقافي ـ القيمي (بتأثير الثورة الإعلامية ـ المعلوماتية).
رابعاً ـ التغيرات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتحولات القيمية الحاصلة في البيئة العربية، الناجمة عن حالة التبعية للغرب، وتعثر المسار الديموقراطي، وانحسار المشروع التحرري ـ النهضوي.
خامسا – النتائج الكارثية لحرب الخليج الثانية التي كان لها دوراً كبيراً في تعميق تصدع النظام الرسمي العربي.
سادسا – الوقائع الجديدة الناجمة عن مسار المفاوضات العربية –الإسرائيلية، والتي أدت إلى فك عديد من البلدان العربية ارتباطها، حتى من الناحية الشكلية، بقضايا الصراع العربي – الإسرائيلي، مع تزايد الميل الرسمي لإقامة علاقات عادية مع إسرائيل وحتى الاستعداد لإقامة علاقات تعاون ثنائي وإقليمي معها في إطار المشروع الشرق أوسطي، هذا مع تدني الالتزام بموجبات الأمن القومي العربي.
سابعا ـ قيام كيان فلسطيني وخضوع نحو مليوني فلسطيني لسلطة هذا الكيان؛ بما يفرضه من استحقاقات: سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة.
ثامنا-تراجع دور التجمعات الفلسطينية في الخارج (في مناطق اللجوء والشتات) ومواجهة هذه التجمعات استحقاقات تتعلق بوضعها القانوني ومستقبلها السياسي ومشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية.
تاسعا – ما يدفع عملية التجديد، ليس تغير البيئة السياسية: الدولية والعربية التي ترعرع فيها العمل الفلسطيني بأشكاله وممارساته السابقة، فحسب، وإنما أيضا، حصول تطورات هامة وجوهرية لدى الشعب الفلسطيني نتيجة استقرار وتبلور أوضاعه: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونتيجة تطور خبراته وتجاربه السياسية والنضالية ، وارتفاع مستوى التعليم في صفوفه؛ لقد نشأت الأشكال السياسية الفلسطينية السائدة، بعد انقطاع في مسار العمل السياسي الفلسطيني، وفي ظروف انهيار المجتمع الفلسطيني إثر النكبة، وضمن وضع من عدم الاستقرار وضعف الخبرات، وليس من المعقول، بطبيعة الحال، أن تتجمد الحالة السياسية الفلسطينية عند حدود هذه التجربة.
تلك هي بالإجمال العوامل والمتغيرات التي تطبع المرحلة الانتقالية الراهنة والمنظورة بطابعها، وتاليا فإن دراستها مسألة ضرورية لتجديد الفكر السياسي الفلسطيني، حتى يستطيع مواكبة هذه التحولات وحتى يتمكن من احتلال موقع فاعل ومؤثر في تحديد مسارات العمل الفلسطيني وتطويره في الاتجاهات المناسبة.
قضايا التفكير السياسي الجديد
إن إبراز تعقيدات هذه المرحلة وتحديد سماتها الخاصة والنوعية، وتاليا إيجاد الوسائل التي تسمح بفتح الآفاق أمام استمرار حركة الشعب الفلسطيني في اتجاه استكمال مرحلة التحرر الوطني التي يمر بها، هي مهمة الفكر السياسي الفلسطيني؛ فطالما أن جوهر التناقض بين هذا الشعب وإسرائيل لم يحل بعد بالشكل العادل والملائم، فإن هذه الحركة ستستمر بهذه الطريقة أو تلك، والمهم العمل على كشف هذا المسار وتعميقه. في هذا الإطار لا بد للفكر السياسي الفلسطيني من الانطلاق من الواقع، مرورا بتحليله وصولا إلى وضع الصيغ التي تساهم بتطويره وتجاوزه وتغييره. فلا يمكن التصدي لواقع ما دون الإقرار بوجوده لأن رفض الواقع الظالم أو تجاهله لا يعنيان انه لم يعد موجودا؛ تماما مثلما أن الانطلاق من هذا الواقع لا يعني إعطائه الشرعية. وهكذا فثمة فرق بين فهم الواقع، وبين إمكانية تغييره، ثم كيفية العمل لمواجهته، على أن لا يكون هناك تناقضاً بين هذه العمليات المترابطة. الفرق هنا، له علاقة بموازين القوى الراهنة، وبالإمكانيات والتعقيدات. الحاصل أنه يوجد خلط في الخطاب السياسي السائد لمستويات هذه العملية وهذا الخلط هو الذي يفسر كثير من الخلافات غير المنطقية في الساحة الفلسطينية.
انطلاقا من هذه الحقيقة سأحاول فيما يلي تحديد ما هو مطلوب من الفكر السياسي الفلسطيني، وذلك بإبراز القضايا المتعلقة بمحدودات الصراع في هذه المرحلة وقضاياها وإشكالياتها على ضوء المتغيرات الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التحديدات هي مجرد تصورات أولية، بحاجة إلى المزيد من الإنضاج والتبلور، عبر مزيد من الدراسات والتفاعل، لاسيما وأن القضايا المطروحة هي قضايا معقدة وملتبسة، خاصة وأن المرحلة التي نمر بها هي مرحلة انتقالية مؤقتة، لم تتضح معالمها بعد (دوليا وعربيا وفلسطينيا):
أولا-الفكر السياسي الفلسطيني معني، بدراسة المتغيرات في البيئتين الدولية والعربية ومحددات خوض الصراع في هذه المرحلة. لقد انهار الاتحاد السوفيتي الذي أمن دعما قويا للعرب وللحق الفلسطيني، طوال المرحلة السابقة، وباتت الولايات المتحدة تهيمن منفردة على النظام الدولي السائد، (وهي ضامنة أمن إسرائيل وتفوقها النوعي)، وباتت أمريكا هي التي تتحكم بقواعد اللعبة السياسية في المنطقة إلى حد كبير. أما على الصعيد العربي، فبسبب من التحولات الدولية، باتت الساحة العربية مهيأة أكثر من أي وقت مضى للتجاوب مع متطلبات السياسة الأمريكية لبناء نظام إقليمي جديد، تكون إسرائيل طرفا متميزا فيه. الوضع العربي الجديد يتجاوز حالة التسوية إلى إلغاء حالة الصراع مع إسرائيل، كما يتجاوز حالة إقامة علاقات عادية بين طرفين إلى الانخراط في منظومة من العلاقات الثنائية والإقليمية في شـتى المـجالات: السياســية والاقتصادية والأمنية. وهذا يعني انكفاء الحالة الصراعية ضد الدولة العبرية، وفتح المجال أمام شكل جديد للعلاقات العربية- الإسرائيلية يحل فيها التنافس والتعاون محل الصراع والعداء على الصعيد الرسمي. وهنا تبرز تعقيدات ومحددات جديدة أمام العمل الوطني الفلسطيني، فلقد بينت التجربة التاريخية صعوبة، إن لم يكن استحالة، تطور العمل الفلسطيني بمعزل عن حالة النهوض الشعبي العربي، وبمعزل عن الشرعية الرسمية العربية، بسبب الظروف الفلسطينية الخاصة مما يضع الساحة الفلسطينية أمام حالة ملتبسة فلا هي راغبة بالتسليم بالأمر الواقع، ولا هي قادرة على مواجهة الظروف والمتغيرات الجديدة خاصة بسبب عدم التكافؤ البين بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لصالح هذا الأخير لأن الكيان الصهيوني بني على أساس مواجهة الوضع العربي وعلى قياسه، وهذه إحدى المعضلات البنيوية التي يعاني منها العمل الفلسطيني.
أيضا، المتغيرات في البيئتين العربية والدولية، تتطلب معرفة محددات خوض الصراع وأشكاله الممكنة في هذه المرحلة. من الواضح أن الشكل القديم للعمل الفلسطيني أي “الكفاح المسلح” لم يعد ملائما، كما أن الظروف والمعطيات الدولية والعربية لم تعد تسمح به، وبالأخص فأن إمكانيات القوى الفلسطينية على تحقيق استمرارية هذا الشكل باتت محدودة، إن لم تكن شبه مستحيلة، كما تبين التجربة المعاشة. أيضا كان الكفاح المسلح الفلسطيني وسيلة لإبراز القضية الفلسطينية وتعزيز وجود الشعب الفلسطيني ولم يكن بطبيعة الحال شكلا لتحرير فلسطين، لتعذر ذلك، من الناحية الذاتية والموضوعية. وربما أن الواقع الراهن يفترض وضع استراتيجية دفاعية واقعية يكون همها المحافظة على الذات، والدفاع عن المنجزات الوطنية المتحققة، وأيضا العمل على تطوير المجتمع الفلسطيني ببلورة بناه ومؤسساته وتنمية أنشطته، بما يسمح بمراكمة العناصر والعوامل التي تمهد لتعديل ميزان القوى وتسمح (في حال توافر الظروف)بخلق شروط جديدة أكثر ملائمة لمصلحة الفلسطينيين. ولعله في هذا الإطار يمكن (من الناحية النظرية) التمييز بين مستويين من الصراع ضد المشروع الصهيوني/الإسرائيلي: المستوى الأول يرتبط بقضايا الصراع ضد السياسات التوسعية والعدوانية لإسرائيل، في سبيل تقويض دورها السياسي- الوظيفي في المنطقة، وتقويض أسسها ومرتكزاتها الصهيونية، وهذا المستوى مرتبط بالصراع ببعده العربي؛ والمستوى الثاني يتعلق بالنضال ضد السياسات الاحتلالية الإسرائيلية: الاستيطان ومصادرة الأراضي، محاولات تهويد القدس، سياسات القمع والتجويع والتدمير الاقتصادي. بمعنى أن هذا المستوى مرتبط بالبعد الوطني (الفلسطيني) للصراع وهو يستهدف دحر الاحتلال وبناء مرتكزات الفلسطينيين: السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وهذا البعد يجري في إطارات الشرعية الدولية، وبالوسائل الممكنة. ومن الطبيعي أن انحسار المستوى الأول يضعف المستوى الثاني والعكس صحيح، ولكن المستوى الوطني يمكنه في حال انحسار المستوى العربي من الصراع أن يعبر عن نفسه وان يواصل دوره الخاص لانتزاع ما يمكن تحقيقه، والبناء عليه لتحقيق مزيد من الإنجازات. ثانيا-الفكر السياسي الجديد معني بإبراز التحولات الحاصلة في إسرائيل، وتقديم تعليل للمتغيرات الحاصلة في مواقفها. المهم إزاء هذا الوضع الإجابة عن تساؤلات أساسية هي: هل تغيرت إسرائيل فعلا؟ هل يمكن أن تصبح دولة عادية في المنطقة لا دولة استيطان عنصري وعدواني؟ وهل تخلت عن دورها الوظيفي كحارس للمصالح الغربية؟ هل هي بصدد الاعتراف بالحقوق الناجزة للفلسطينيين؟ أم أن الذي تغير في هذه الدولة هو شكل علاقاتها بالفلسطينيين وبالمنطقة، وتغير وسائلها في السيطرة والهيمنة مع المحافظة على جوهر وظائفها الداخلية والخارجية، لتعزيز وجودها ودورها، باعتبار أن هذه التسوية محطة جديدة لانطلاقة المشروع الصهيوني وتجديده بالتكيف مع كل هذه التحولات.
الفكر السياسي الفلسطيني، إذن، مطالب بتقديم تعليل وتقيم صحيح، غير مستند للأوهام، لطبيعة هذه التحولات وحدودها. الواقع هناك تغيرات، ينبغي عدم الاستهانة بها، وأيضاً عدم التعويل عليها، لأنها تجري في نطاق السيطرة وفي نطاق بحث إسرائيل عن أفضل السبل للتكيف مع المتغيرات للحفاظ على أمنها واستقرارها وتطورها في المنطقة. ولكن إسرائيل في إطار تكيفها مع عملية التسوية، وللانخراط في المشروع الإقليمي الشرق أوسطي، كان عليها أن تلبي بعض الاستحقاقات المتعلقة بالتخلي عن فكرة “إسرائيل الكبرى” والانسحاب من بعض الأراضي الفلسطينية، والاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقه في إقامة كيان سياسي، (هو الآن بمرتبة “حكم ذاتي”)، ربما يتطور في ظروف مناسبة إلى دولة فلسطينية بحدود سيادية معينة. ومن المعروف أن هذا الوضع يمثل مراجعة لبعض المنطلقات التقليدية بالنسبة للمشروع الصهيوني وخاصة لمقولتي “أرض الميعاد ” و “أرض بلا شعب “. مع ذلك فإن إسرائيل تحاول تجميد هذه التسوية عند أدنى حدود لها، فهذه المراجعة الإسرائيلية، المحدودة والاضطرارية، يجري مقايضتها بالميزات الهامة التي تسعى إسرائيل لتحقيقها في مجال أمنها واستقرارها وشرعية وجودها، فضلاً عن تطبيع علاقاتها مع البلدان العربية، والانخراط من موقع متميز في المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية المقترحة، كما تطمح أن يتيح لها ذلك تعزيز مكانتها الاستراتيجية في السياسة الأمريكية بما يضمن أمنها وتفوقها النوعي في مختلف المجالات.
مع كل هذه الاعتبارات الهامة، فإنه حصلت تغيرات ينبغي ملاحظتها لدى إسرائيل، فهذه الدولة(بغض النظر عن نظرتنا لشرعيتها التاريخية وكيفية قيامها والمظالم التي ارتكبتها) بعد خمسين عاما على قيامها، لم تعد مجرد دولة مهاجرين/مستوطنين، وإنما باتت تضم مجتمعا بلغ حدا عاليا من النضج والتبلور : السياسي والاقتصادي والثقافي، وهو مجتمع 60% منه من مواليد فلسطين/إسرائيل، ومن الطبيعي أن الفكر السياسي الفلسطيني معني بإيجاد المعادلات السياسية التي تجيب على هذا الواقع الجديد من دون الإخلال بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه. المهم أن فكرة “التحرير” بمفهومها التقليدي المتعارف عليه، لم تعد ملائمة للفكر السياسي الفلسطيني، ليس بسبب موازين القوى غير المواتية فحسب، ولا بسبب الشرعية الدولية التي تحظى عليها إسرائيل، فضلا عن ضمانات الدول الكبرى لأمنها واستقرارها وتفوقها، وإنما أيضا بسبب التطورات في إسرائيل ذاتها، بمعنى أن فكرة “التحرير” يجب أن تحمل مضامين جديدة تؤدي إلى تقويض أسس الصهيونية في فلسطين، وتـأخذ في اعتبارها وجود المجتمع الإسرائيلي، ومستوى استقراره وتبلوره. في هذا الإطار قد تكون صيغة الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين التاريخية حلا مستقبليا ينبغي أن تقود مجمل الحلول المؤقتة إليه، طالما أنه من المتعذر تحقيقها، في هذه المرحلة، بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، وبسبب عدم نضج المجتمع الإسرائيلي لمثل هذا الحل، وهذا ينطبق أيضا على الحل المتمثل بقيام دولة ثنائية القومية، ويبقى أن الحل الأكثر واقعية وشرعية وعلى ضوء تناسب القوى بين الطرفين ومستوى نضجهما السياسي إنما يتمثل بقيام دولتين لشعبين، بحيث تعترف إسرائيل بحق تقرير المصير للفلسطينيين بدولة ذات سيادة في الضفة والقطاع ، في إطار هذه المرحلة الصراعية بين الطرفين، على أمل أن مثل هذا الحل قد يفتح المجال أمام مسارات قد تقود إلى حلول أكثر تطورا.
جدير بنا في هذا السياق، الإشارة إلى أن الخطاب السياسي الفلسطيني شهد تحولا ما، بعد طرح البرنامج المرحلي، ولكن هذا التحول لم يأت تعبيرا عن تطور ونضج في الفكر السياسي الفلسطيني، بقدر ما عبر عن انكفاء هذا الفكر، فضلا عن أنه جسد استعداد القيادة الفلسطينية السائدة للمساومة، وبالتالي للتماثل مع الشرعية العربية والدولية. أيضا اعتبر هذا البرنامج (العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية) مجرد برنامج مرحلي، دون ارتباط بالتطورات الحاصلة في إسرائيل وفي المنطقة، كما لم يرتبط بفلسفة الحل العادل والنهائي بمستوياته: الإسرائيلية والعربية والفلسطينية؛ يضاف إلى ذلك الشكل الذي تم به إخراج البرنامج المرحلي وفرضه على الساحة الفلسطينية، حيث تم ذلك بشكل متسرع وتعسفي وفوقي.
خلاصة القول فإن الفكر السياسي الفلسطيني معني بالعمل على دراسة واستنباط العبر المناسبة من التطورات الحاصلة في إسرائيل، ومن المراجعة، ولو المحدودة والاضطرارية، للفكر التقليدي الصهيوني، والتعاطي معها ليس على اعتبارها مجرد تعبير عن أزمة في المجتمع والفكر السياسي الإسرائيليين، وإنما على اعتبارها تعبير عن إخفاق لبعض المرتكزات الأساسية للمشروع الصهيوني، ومن الناحية المقابلة على أنها ثمرة نضال الفلسطينيين الطويل والعنيد والمرير، ينبغي العمل على رعايتها وتنميتها. أي أن جزءا مما يجري جاء نتيجة لعملية نضالية، وإخفاقا لإسرائيل، وإلا لاختلف شكل الحل، ولما تضمن أي بعد فلسطيني، ورغم ذلك فإن توظيفات هذا الحل من وجهة النظر الإسرائيلية تفترض امتصاص هذا النجاح وإفراغه من مضمونه. وهنا تبرز مهمة كل الوطنيين الفلسطينيين في استمرار العملية النضالية من أجل البناء على هذا الوضع وتطويره باتجاه دولة فلسطينية مستقلة، باعتبارها مسألة مشروعة وصراعية، يحب أن يعيها مؤيدو الاتفاق، بدل المراهنة على النوايا الإسرائيلية “الطيبة”، كما يجب أن يعيها معارضو الاتفاق، بدل المراهنة على فشله.
ثالثا –أحدثت عملية التسوية، التي جرت على خلفية المتغيرات الدولية والإقليمية، انقلابا في حركة التحرر الفلسطينية، فقد أدت هذه العملية إلى انتهاء مرحلة من مراحل العمل الوطني الفلسطيني بكل مالها وما عليها، بتحول قسم هام ورئيسي فيها إلى سلطة في كيان سياسي، من دون إنجاز مهمات مرحلة التحرر الوطني، على الأقل في إطارها المرحلي، المتلخصة بأهداف: العودة، وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس. المشكلة الأساسية هنا هي أن هذا التحول في إطار الحركة السياسية الفلسطينية والتغير في علاقة طرفي التناقض الفلسطيني-الإسرائيلي، لم يحدثا بنتيجة تغير موازين القوى لصالح الفلسطينيين والعرب عموما، كما لم يحدثا بنتيجة تحقيق حركة التحرر الفلسطينية لأهدافها، أو بتخلي العدو عن طبيعته أو احتلاله أو دوره في المنطقة، وإنما حدثا في إطار عملية تسوية ظهرت بدفع من بعض التغيرات الدولية وإقليمية، ولبعض الاعتبارات الإسرائيلية، كما أنها نشأت بفعل صمود الفلسطينيين في أرضهم واستمرار نضالهم من أجل تحقيق أهدافهم الوطنية.
إن مراجعة مواقف الإطارات والتيارات السياسية السائدة في الساحة الفلسطينية من مجمل التغيرات والتعقيدات والتطورات الحاصلة في حقل الصراع العربي-الإسرائيلي، وبالأخص ما يتعلق منها بالتحولات الحاصلة في الساحة الفلسطينية، لجهة الموقف من أشكال النضال الممكنة، في هذه المرحلة، على ضوء المحددات والقيود الموضوعة على العمل الفلسطيني، والشكل الجديد الذي يمكن أن تتمظهر به الحركة الوطنية الفلسطينية لضمان استمرارها ولاستكمال مهمات التحرر الوطني، والعلاقات المستقبلية: الصراعية أو “السلامية” مع إسرائيل، والعلاقة بين البعدين : العربي والفلسطيني، وكيفية تفسير التطورات والتغيرات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية في إسرائيل ذاتها وتحديد سبل التعاطي معها؛ ولجهة إيجاد معادلات تكفل حل التناقضات الناشئة في الساحة الفلسطينية، مثل: التناقض في الأولويات بين مشروع ومهمات البناء الاجتماعي والاستقلال للكيان الفلسطيني الناشئ في الضفة والقطاع ، وبين مشروع استمرار مسار التحرر الوطني، التي تهم مجموع الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده؛ خاصة أن هذا المسار يهم اللاجئين الذين وجدوا أنفسهم فجأة في فراغ ينتظره مصير غامض بالنسبة لوضعهم القانوني والسياسي والاجتماعي وبالنسبة لحقوقهم الوطنية، وأيضا التناقض بين وجود مرجعيتين رئيسيتين للشعب الفلسطيني واحدة في الداخل، وواحدة في الخارج، مع ملاحظة التآكل بالنسبة لمكانة مرجعية الخارج وهي م. ت. ف. لصالح الداخل، بما يقوض شرعية ومكانة هذه المنظمة كإطار يعبر عن وحدة الفلسطينيين وهويتهم وحقهم كشعب في بتقرير المصير. كما يبرز في هذا الإطار تساؤلا مشروعا حول مستقبل الكيان الفلسطيني وكيفية التعاطي معه لتفويت الاستهدافات الإسرائيلية من قيامه، ودراسة سبل إمكانية فك اعتماديته على إسرائيل، وتطوره إلى دولة مستقلة مرتبطة بالإطار العربي؛ من كل هذه القضايا والإشكاليات يتبين إلى أي حد تفتقر القوى السائدة لخطاب سياسي متوازن ومتماسك، وإلى أي حد تبدو الساحة الفلسطينية بحاجة إلى تجديد خطابها.
أما بالنسبة للحركة الوطنية الفلسطينية فإن التحولات الجارية طرحت سؤالا هاما حول مدى ملائمة الأشكال السياسية القائمة على الاستمرار بمهامها وفق أشكال العمل النضالية والتنظيمية التي كانت سائدة سابقا، وحول إمكانية تجديد هذه الحركة لبناها ووسائل عملها التي تتجاوب مع الحاجات والتغيرات الجديدة، مع الحفاظ على رؤاها وأهدافها. من الواضح (كما أسلفنا) صعوبة استمرار الشكل السابق للعمل الفلسطيني، والتبعات المكلفة لاستمرار الكفاح المسلح، وغياب الأفق السياسي له. وقد عبرت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عن شكل أكثر ملاءمة للظروف والمعطيات الفلسطينية، واكثر جدوى من الناحية السياسية، ولعل المرحلة المقبلة يمكن أن تشهد شكلا من أشكال الانتفاضة أو المقاومة المدنية، كما يمكن إبداع أشكال نضالية أخرى، هذا فضلا عن أن التركيز على البعد البنائي في العمل الفلسطيني لا يقل أهمية عن البعد الصراعي.
المهم أن هناك أسئلة رئيسية وعشرات الأسئلة الفرعية التي ينبغي على الفكر السياسي الفلسطيني الجديد أن يتصدى لها بمسؤولية وجدية عالية تتناسب وحجم الانعطافة التاريخية الحادة الحاصلة في هذه المرحلة. من الواضح أن التناقضات المذكورة هي تناقضات مفتعلة، في جانب كبير منها وإن كانت واقعية وملموسة، والفكر السياسي الفلسطيني معني ببذل الجهود من اجل حل هذه التناقضات عبر تحقيق الترابط والتكامل بين المصالح والأولويات الفلسطينية: الآنية والمستقبلية، المتحققة والممكنة. وهذا الأمر يحتاج إلى ممارسة وإدارة سياسية أكثر نضجا ومأسسة وديمقراطية. والمهم أيضا أن هذه التساؤلات في حاجة إلى بيئة صحية أكثر تتيح مجال التفاعل وتبادل الآراء وصوغ الخيارات بكل حرية وديمقراطية، بيئة تستطيع إنضاج الإجابات الملائمة عن هذا الواقع الصعب والمتغير حتما.
رابعا-الفكر السياسي الفلسطيني معني بإبراز هذه التعقيدات ووعي الإمكانيات المتاحة للعمل والتغيير وخاصة من خلال التركيز على تعميق النهج الديمقراطي في العلاقات والبنى السياسية والمؤسسات الفلسطينية وفي الوعي السياسي الفلسطيني لا باعتباره ترفا أو حالة معرفية أو مجرد “ديكورا”، وإنما باعتباره أحد مكونات العملية الوطنية الفلسطينية، التي تفرضها خصوصيات الوضع الفلسطيني الناجم عن اختلاف وتباين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بمختلف التجمعات الفلسطينية. فهذا الواقع يخلق تباينا في الهموم والمصالح والأولويات ويفرض شكلا من أشكال التعددية والتنوع لضمان الحفاظ على الوحدة المجتمعة للفلسطينيين واستيعاب مختلف متطلباتهم، من مطلب الحقوق القومية والمساواة لفلسطينيي 48، إلى مطلب الحرية والاستقلال في الضفة والقطاع، وصولا إلى مطلب حق العودة للاجئين. ومن ناحية ثانية فالفكر السياسي معني بالكشف عن الوسائل والديناميات التي تسمح بمراكمة القوى والنقاط في ساحة الواقع وليس في ساحة الأفكار لصالح الأهداف الوطنية بما يمكن من جسر الهوة بين النظرية والممارسة وبين المصالح الآنية والمستقبلية للشعب الفلسطيني وبين إمكاناته الراهنة وطموحاته. وهكذا فإن الأشكال السياسية الفلسطينية الحقيقية والحية، معنية باستنباط الوسائل التي تجعلها أكثر فاعلية وتأثيراً في المعادلات السياسية الجارية. وتبرز أمامها فرصة تجديد نفسها كحركة تحرر تمتلك مشروعيتها، ليس من الشعارات التي ترفعها وإنما من ممارستها النضالية، ليس من تاريخها وإنما من قدرتها على الفعل في الواقع.
الحاجة إلى التغيير
من الواضح أن الساحة الفلسطينية، تمر بفترة مخاض أليم وصعب ومعقّد، بسبب الظروف الذاتية والموضوعية التي تحيط بالعمل السياسي الفلسطيني، ومع ذلك فإن هذا المخاض لابد سيولد حالة سياسية جديدة، هي استمرارا للحالة السابقة وبناء عليها وتطويرا لها، بشكل أو بآخر. وهذا الوضع يفترض من مجمل الأشكال السياسية السائدة وعي هذه الضرورة والمساهمة فيها بدل العمل على إعاقتها أو تأخيرها أو تشويهها، لأن هذا المسار يشّق مجراه (ببطء ولكن بعمق)، سواء أرادت القوى السائدة أو لم ترد، وسواء شاركت في هذا المسار أولم تشارك، ومن الأفضل أن تتدارك هذه القوى أوضاعها، بدل الاستكانة للكسل والجمود واستمراء الأوضاع السهلة، للمساهمة في عملية التغيير والتطوير السياسي، وتغليب مصلحة الوطن والشعب والقضية على الأطر الضيقة المتكلسة والمستهلكة.
إن انتشال حركة التحرر الفلسطينية من واقعها الراهن وإعادة بناءها، هي عملية طويلة وصعبة وتدرجية، وهي ترتبط بمستوى التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للشعب الفلسطيني وليست نتاج نزوة أفراد أو مجموعات. وهذه العملية تحتاج إلى وعي وإلى إرادة التغيير، كما تحتاج إلى الحراك في سبيل ذلك، هذا الحراك الذي يحتاج إلى الروافع الكبيرة والمحركات الوسيطة كما يحتاج إلى البراغي الصغيرة لإنجاز عملية البناء الجديدة.
كل التطورات والمؤشرات تشير إلى حقيقة تآكل الأشكال السياسية القائمة في ساحة العمل الفلسطيني، مهما كانت تلاوينها ومهما كان خطابها السياسي المعلن. وهذا التآكل، وبكل أسف ليس نتاج فعل عوامل موضوعية ـ خارجية، فحسب، (كما يحلو لبعض الذين يحاولون تبرير الواقع السائد)، وإنما هو نتائج عوامل ذاتية، تعيد إنتاج ذاتها يوماً بعد يوم. الضرورة تفترض البحث والعمل من أجل إيجاد واقع سياسي فلسطيني جديد، من داخل الواقع السائد ومن خارجه، على قاعدة البناء على ما هو قائم وعلى أسس تتجاوب مع حاجات التجديد. كل المؤشرات تؤكد الأهمية الملحة لإعادة بناء الوضع الفلسطيني، للخروج من أزمة العمل الفلسطيني وتناقضاته في هذه المرحلة، برغم من محاولة القوى السائدة إعاقة هذه العملية حفاظاً على مصالحها وامتيازاتها الأنانية، لذلك فإن القديم برغم تكلسه وعجزه مازال يطبع الحياة السياسية الفلسطينية بطابعه، بقوة عاداته وتقاليده، وبحكم نفوذه؛ أما الجديد الذي يعشعش في أحضان الشعب ونخبه الحية والفاعلة فما زال يصارع في هذا المخاض لولادة حالة سياسية جديدة تتجاوب مع حاجات الوطن والشعب والقضية. وحال الساحة الفلسطينية نموذج لحال الساحة العربية الراكدة ولكن الحبلى بالتغييرات والمفاجآت.
- هذا نص قدم الى مؤتمر مركز “مواطن” (رام الله ـ أواخر 1998) اي ان عمره 22 عاما…ترى ما الذي تغير في غضون كل تلك السنوات؟