نحو انتخاب مجلس وطني فلسطيني كمدخل للتغيير السياسي

قد يرى البعض أن الدعوة إلى انتخاب مجلس وطني فلسطيني متأخّرة جدا، وهي فعلا كذلك، لكنها كانت مطروحة سابقا، ولم تلق استجابة من القيادة المعنيّة، لاسيما مع معرفتنا بأن عضوية المجلس الوطني مدتها ثلاثة أعوام، وأن معظم أعضاء المجلس بات لهم أكثر من ربع قرن أو حتى قرابة نصف قرن، وأن معظمهم بات من جيل السبعينات أو الثمانينات.

مع ذلك ثمة في المقابل، أيضا، من يعتبر أن هكذا دعوة مبكّرة، أو ليست في أوانها، بالنظر إلى التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية اليوم، تبعا لخطة ترامب (صفقة القرن) أو تبعا لخطة نتنياهو (الضمّ).

الأمر لا يقتصر عند البعض الآخر على المجادلة بذريعة التوقيت (متأخّرة أو مبكّرة) إذ ثمة من يعتبر أن مدخل الانتخاب غير ممكن، أو غير مناسب، وأن المدخل الأنسب هو الحوار الوطني (فصائل ومستقلين) للتغيير السياسي وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.

أصحاب وجهة النظر تلك يتجاهلون أن كل تجارب الحوار الوطني، وكل التوافقات التي تمت سابقا، في مكة وصنعاء والدوحة وموسكو والقاهرة وغزة لم تنجح، ولم تحترم، أو لم توضع موضع التطبيق.

على أي حال فإن الحديث عن التغيير الفلسطيني في زمن يعج بالمتغيرات في أدوار الفاعلين، وفي موازين القوى، عربيا ودوليا وإقليميا، سيبدو ناقصا من دون إدراك حقيقة التداخل المعقد بين العوامل الخارجية والداخلية في صياغة الوضع الفلسطيني، مع علمنا أن منظمة التحرير الفلسطينية نشأت أصلا بقرار عربي (1964)، وأنها صعدت بسبب حاجة النظام العربي إلى التغطية على هزيمة يونيو (1967).

وفي زمن الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، أي في ظل وجود الاتحاد السوفييتي (السابق)، وهو زمن عربي ودولي لم يعد موجودا، وفي هذه الحال، الراهنة، فإن غيوم كثير من الشك تحيط بإمكان السماح عربيا ودوليا بإعادة بناء منظمة التحرير أو تفعيل دورها؛ هذا أولا.

ثانيا، ما يفترض الانتباه إليه هنا، أيضا، أن الحديث يدور عن شعب ممزّق، أو مشتّت، ويتوزّع على عدة دول، ويخضع إلى سلطات متعددة ومتباينة، الأمر الذي يصعّب توليد رأي جمعي على مصالح وأولويات مشتركة، إذا استثنينا الرواية الأساسية المتعلقة بالنكبة، والإحساس بالمظلومية المشتركة.

المشكلة هنا أن هاتين (النكبة والمظلومية) تعرّفان الفلسطينيين بالسلب، أي أنهما تحتاجان أيضا إلى الطاقة الملهمة التي مثلتها فكرة التحرير والكفاح المسلح، وإلى الإطار الجامع الذي مثلته منظمة التحرير، وعمودها الفقري حركة “فتح” في أواخر الستينات والسبعينات.

الملاحظة هنا أن هذين الدافعين خضعا لتغيرات، مع تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة في الضفة والقطاع، في جزء من أرض لجزء من شعب مع جزء من حقوق، بموجب اتفاق أوسلو، والذي جاء على حساب الرواية الفلسطينية، بحصر الصراع في الأرض المحتلة 1967، وحصر الشعب بفلسطينيي تلك الأراضي، الأمر الذي نجم عنه إضعاف منظمة التحرير وتقويض شرعيتها وفاعليتها، من قبل قيادتها بالذات.

ثالثا، الجميع يعلم أنه لم تتح للشعب الفلسطيني، ولحركته الوطنية، أوضاع مريحة، أو مناسبة، إذ دائما ثمة ما يسمى منعطفات تاريخية، وأزمات، وتحديات، ما يعني أنه لا يمكن تأجيل شيء على حساب شيء، بالعكس فإن افتقاد الفلسطينيين إلى بيت جامع (منظمة التحرير)، وإلى رؤية وطنية جامعة، هو ما يضعفهم، أو يعزز انقساماتهم، ويفاقم من أزماتهم، ويضعف من مقاومتهم إزاء إسرائيل.

عموما فإن الدعوة إلى انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني تستمد مشروعيتها من الآتي:

1 – نصوص النظام الأساسي للمنظمة في مادتيه (4 – 5) إذ جاء فيهما: “الفلسطينيون جميعا أعضاء طبيعيون في منظمة التحرير الفلسطينية”. و”ينتخب أعضاء المجلس الوطني عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني”.

ويفيد ذلك بأن قاعدة الانتخابات هي الأساس وأن التعيين ونظام المحاصصة الفصائلية (الكوتا) بمثابة استثناء، وليس العكس، مع علمنا بأن تطور تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية بات يمكن الفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم من المشاركة في الانتخابات، عبر كود خاص.

2 – مع أهمية كل دعوات ومبادرات الحوار الوطني، على كافة المستويات، وفي كل الأوقات، فإنه لا يجب أن يغيب عن الأذهان تعثر أو إخفاق ذلك الخيار، بحكم تمسك “فتح” بسلطتها في الضفة وتمسك “حماس” بسلطتها في غزة، ما يعني أن إعادة القضية للشعب، والعودة إلى النظام الأساسي لمنظمة التحرير، عبر آلية الانتخاب، هما المدخل المطلوب للخروج من هذا المأزق، أو لحسم التوازنات الداخلية في المعادلات السياسية الفلسطينية بطريقة ديمقراطية.

3 – إن بناء منظمة التحرير، وفق رؤية وطنية جامعة، يفترض الانطلاق من استعادة التطابق بين قضية فلسطين وأرض فلسطين وشعب فلسطين، أي من وحدانية شعب فلسطين في كافة أماكن وجوده، ووحدة روايته، أو سرديته، التاريخية، وبالتحول من استراتيجية الصراع من أجل الأرض، أو جزء من الأرض، فقط، إلى الصراع على الحقوق الوطنية، الفردية والجمعية، لاسيما بعد إخفاق السياسات التي اعتمدتها القيادة الفلسطينية، وسلطتا الضفة وغزة، المتعلقة بالتحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة، والتي نجم عنها تهميش منظمة التحرير، لصالح السلطة.

4 – إن النظام الداخلي للمنظمة (المادة 7) ينص على أن “المجلس الوطني هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها وبرامجها”، وهو أمر لم يحصل ولا في أي وقت من الأوقات، في ظل الافتقاد إلى قيادة جماعية، وتحكم القيادة بأطر المنظمة، فحتى خيار اتفاق أوسلو (1993)، جرى توقيعه من خلف المجلس الوطني، ثم إن المجلس الوطني الذي يفترض أن يعقد بشكل دوري كل سنة مرة، عقد لأول مرة بعد ثلاثة أعوام من عقد اتفاق أوسلو (الدورة 20/1996) وعقد مرة ثانية في دورة عادية بعد ذلك بـ22 عاما (الدورة 23 أبريل 2018)، في حين الدورة الـ22 (2009) كانت استثنائية وعقدت لترميم عضوية اللجنة التنفيذية.

لا يمكن التحرر من الأزمة الوطنية الفلسطينية، واستنهاض الشعب الفلسطيني، من دون بناء البيت الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية)، وكلما كان ذلك أبكر كلما كان أفضل، لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية.

أي كلام غير ذلك عن الوحدة، وعن الحوار الوطني، وعن مواجهة هذه الخطة أو تلك، سيبدو طحنا في الهواء، مع التأكيد أن الانتخابات ليست حلا سحريا، لكنها الحل الأنجع لوقف المجادلات العقيمة بين الفصائل، وعلما أن الأمر يفترض أن يرتبط بإعادة بناء المنظمة وفق رؤية وطنية جامعة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *