مهمات عاجلة أمام لحظة فارقة
مرة أخرى نجد أنفسنا من جديد أمام لحظة فارقة تطرح علينا تحديات على مختلف المستويات، بينما تستمر أزمة حركتنا الوطنية، قيادة واستراتيجية وبرنامجا. وقد مثَّل طرح صفقة القرن زمن نتنياهو – ترمب ذروةً في مشروع الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني لبلادنا فلسطين. إذ إعتقدا أنهما أمام فرصة تاريخية لإنجاز قفزة استراتيجية كبرى باتجاه حسم الصراع لصالح المشروع الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية. ولكن، ولأسباب عديدة لا مجال لطرحها في هذه المداخلة، لم يتمكنا من إنجاز سوى جزء فقط من تلك القفزة الاستراتيجية قبل ان يختفي عرّابا صفقة القرن عن المشهد .
وفي سياق الإدعاء المتكرر بأننا أفشلنا وأسقطنا صفقة القرن لا يجوز التقليل من شأن هذا الجزء الذي تم إنجازه من صفقة القرن، خاصة وأن هذا الجزء يتعلق بالقدس وبمسار التطبيع الذي انزلقت فيه العديد من الأنظمة العربية .
كما أنه لا يجوز الإدعاء بأننا أفشلنا وأسقطنا صفقة القرن بينما نرى يوميا بأم أعيننا ما يمثل تطبيقا ً متدرجا لصفقة القرن من خلال التمدد الاستيطاني، والتهجير القسري للمواطنين في أحياء القدس وفي منطقة “ج” لتفريغها من الوجود الفلسطيني، مقرونا بوتيرة متسارعة من هدم البيوت وأية منشآت حيوية من البنى التحتية لكي تكون المنطقة “ج” جاهزة للضم حين يرى نفتالي بينيت ان الوقت قد حان لذلك، خاصةً وأن بنيت، كما نعلم جميعا، هو من أشد المنادين بهذا الضم .
أقصد ان أقول ان مشروع الاستعمار الاستيطاني العنصري ماضٍ بوتيرة متسارعة في حقبة بنيت – بايدن حتى وإن لم يأخذ شكل ضربة واحدة حاسمة كما خُطِطَ لصفقة القرن في حقبة نتنياهو – ترمب .
وحتى تكتمل الدائرة للمضي في تنفيذ المشروع الاستيطاني في مرحلته المتقدمة الحالية، لا بد من توفير الغطاء السياسي الضروري لحجب الأنظار عن ما يجري على الأرض من جهة ولكسب الوقت من جهة أخرى. فلم يجدوا غطاء أفضل من إطلاق ما سمي ” بعملية إجراءات بناء الثقة” بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي . أي ثقة تلك التي يمكن أن تُبنى بين المستعمِر المستوطن وبين الشعب الذي يتعرض يوميا للاضطهاد والتنكيل و التطهير العرقي والتمييز العنصري من قِبَل هذا المستعمر المستوطن ؟! أي هذيان هذا ؟؟ ألا يذكرنا هذا الهذيان حول “عملية إجراءات بناء الثقة” ببدعة ” التنسيق الأمني ” و بملهاة ” عملية السلام ” التي بدأت مع اتفاقات اوسلو وامتدت حوالي ربع قرن . وعدا عن ذلك وما هو أسوأ أن توأم عملية بناء الثقة هو العودة للدخول في مفاوضات عبثية لا نهاية لها ، تماما كالمفاوضات التي رافقت عملية السلام والتي شكلت غطاء لكل ما جرى من تقدم في المشروع الاستيطاني منذ إتفاقات أوسلو وحتى الآن . ومن قبيل الجدل لا أكثر، هل هناك إجراءات بناء ثقة أكثر جدية ومصداقية من إطلاق سراح كافة المعتقلين ؟ أو وقف كافة النشاطات الاستيطانية ؟ أو إستعداد إسرائيل، ولو مجرد الاستعداد للإلتزام بقرارات الشرعية الدولية، والإستعداد لوضع جدول زمني محدد للإنسحاب وإنهاء الإحتلال ؟ إن أي حديث عن عملية إجراءات لبناء الثقة خارج هذا الإطار لا يمكن وصفه بأقل من الهذيان .
ولكن ما هو أخطر من الهذيان هو أن ننخرط عمليا ً في ” عملية إجراءات لبناء الثقة ” مع الجانب الإسرائيلي. فهذا الإنخراط وما يرافقه من العودة من جديد لدوامة المفاوضات يخرج من دائرة الهذيان ليدخل عمليا ً في دائرة التواطؤ ، أجل ” التواطؤ ” لتوفير الغطاء لهذه المرحلة الخطيرة من المشروع الصهيوني التي تتسارع فيها الخطوات باتجاه حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني لمصلحة هذا المشروع .
وعلى ضوء ذلك يلحُّ السؤال علينا عن ماهية المهمات العاجلة الواجبة علينا في الأيام والأسابيع القادمة وما هو المسار البديل الذي يتوجب علينا سلوكه ؟
بوصلة هذا المسار تشير الى أنه طالما أننا في مرحلة تحرر وطني ، ولسنا في وهم مرحلة بناء الدولة، إذ لا يمكن بناء الدولة تحت حراب الاحتلال الذي يتحكم بكل صغيرة وكبيرة من حياتنا ولا يمكن بناء الدولة ونحن نواجه أشرس مشروع استعمار استيطاني عنصري عرفه التاريخ. ومسار حركة تحرر وطني تواجه هكذا مشروع يفرض عليها ثلاثة مهمات أساسية مترابطة ترابطا ً عضويا ومصيريا ً: أولا ً مقاومة هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري بكل الوسائل الممكنة . المهم أن نجعل الإحتلال ومشروعه الاستيطاني مكلفاً يوميا وعلى مختلف الأصعدة . كما أن مسار حركة تحرر وطني يفرض علينا ثانياً العمل الحثيث لإستعادة وحدتنا الوطنية بأي ثمن وبدون أي تأخير أو مماطلة أو إفتعال للعقبات، لا يمكن لأي حركة تحرر وطني ان تنتصر وهي منقسمة على نفسها ومفككة . كما يفرض ثالثا توفير وتعزيز كل مقومات الصمود في كافة الميادين .
وهذا المسار، مسار حركة تحرر وطني ، بمتطلباته الثلاثة المذكورة ، المقاومة والوحدة الوطنية والصمود، يحتاج لبلورة وتبني استراتيجية وبرنامج عمل وطني قادر على إستلهام وتعبئة طاقات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، بعيدا عن مسار أوسلو الكارثي . وقد أكدت هبة أيار الإنتفاضية وحدة شعبنا ووحدة قضيته سواء في القدس أو الضفة أو غزة أو في أماكن اللجوء والشتات، وتمسكه بحقوقه الوطنية ومدى استعداده للدفاع عنها. وبالضرورة، هذه الاستراتيجية والبرنامج الوطني يتطلبان أداة جديدة وبنية قيادية جديدة . ومن هنا تأتي أهمية الاسراع في إجراء الانتخابات خلال فترة لا تتجاوز ٦-٩ شهور ينبثق عنها مجلس وطني جديد ليصبح الخطوة الأولى لإعادة بناء م.ت.ف. على أسس ومبادئ الجبهة الوطنية العريضة وأهمها الشراكة الحقيقية والكاملة في إتخاذ القرارات الوطنية، بدون المحاصصة أو الهيمنة أو التفرد. هذه الجبهة الوطنية العريضة، هذه منظمة التحرير. الجديدة ستكون الأداة لبلورة وتبني البرنامج الوطني وإنتخاب قيادة وطنية جديدة .
من الواضح ان قيادتنا الحالية ليست في وارد إجراء الانتخابات قريبا بعد أن قامت بإلغائها لأسباب غير مقنعة بتاتا ً، ولا أقول تأجيلها طالما أنها لم تحدد موعدا ً بديلا ً لإجرائها. وهناك خشية حقيقية ان قيادتنا ربما تكون في عجلة من أمرها للإنخراط في عملية اجراءات بناء الثقة والمفاوضات التي سترافقها غير عابئة بما يعنيه هذا الإنخراط كما ذكرت سابقا ً . لذلك فإنني اعتقد ان المهمة الرئيسية للشارع الوطني في الأيام والأسابيع القادمة، من حراكات شبابية ونسائية وعمالية مدعومة بالمجتمع المدني على إمتداده وبالقوى الوطنية الحية داخل منظمة التحرير وخارجها وبالشخصيات المستقلة، أن تمارس ضغطاً متواصلا ً من أجل الإسراع في إجراء الإنتخابات من ناحية. ومن ناحية أخرى من أجل الدعوة لتفعيل الإطار القيادي الموحد كإطار إنتقالي لحين إجراء الإنتخابات، ويتشكل هذا الإطار من الأمناء العامين للقوى الحية في منظمة التحرير، بالإضافة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي ، وممثلين عن المجتمع المدني والحراكات النسوية والشبابية. وهذا الإطار القيادي الموحد والمؤقت يشرف على تشكيل ومتابعة حكومة انتقالية خدماتية .
وأخيرا ً، وليس آخرا ، يلح علينا سؤال مركزي ألا وهو : أين تقف حركة فتح من كل هذه التحديات ؟ هل ستتمسك بجوهرها كحركة تحرر وطني فلسطيني كما حمله اسمها، هل ستنتفض لتاريخها ودورها كرافعة للنهوض الوطني الفلسطيني بعيدا عن الهذيان والإنخراط في عملية اجراءات بناء الثقة مع المحتل وبعيدا عن مفاوضات عبثية لا طائل من ورائها سوى توفير الغطاء للاستيطان وكل السياسات التي تتسارع للإجهاز على قضيتنا وحقوقنا الوطنية؟. أم ستستمر في توفير الغطاء لكل هذه السياسات المدمرة؟
(كلمة ألقيت في افتتاح المؤتمر السنوي العاشر لمركز مسارات /رام الله )
(اللوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور)