يتردد سؤال بين المهتمين بالشأن الفلسطيني مفاده: من سيفوز بالانتخابات في حال أجريت؟! الجواب ببساطة: لا أحد يدري، فمن الصعب التكهن بمزاج الناخب الفلسطيني. وعلى الرغم من ذلك يجزم البعض أن الانتخابات في حال أجريت ستفوز بها الكتلة المحسوبة على حركة “حماس” في الضفة الغربية، في مقابل فوز الكتلة المحسوبة على حركة “فتح” في قطاع غزة. ويبني أصحاب هذا الإدعاء على أداء سلطتي رام الله وغزة، فيتوقعون أن يكون هناك تصويت عقابي للسلطتين، بمعنى أن الناخبين في كل منطقة سيعاقبون السلطة التي تهيمن عليها، فيعاقب ناخبو قطاع غزة “حماس” بالتصويت لحركة “فتح”، والعكس صحيح بالنسبة إلى الضفة الغربية. فإلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الإدعاء صحيحاً؟

يستبطن أصحاب هذه الفرضية ما جرى في انتخابات سنة 2006، متجاهلين ما طرأ من تغيرات خلال عقد ونصف، ومن أهمها وجود جيل كامل يقدر بنحو مليون ناخب لم يشاركوا في أي انتخابات عامة سابقاً، إذ يبلغ عدد المسجلين في سجل لجنة الانتخابات المركزية حتى آخر تحديث في آذار/مارس 2019، أكثر من 2.2 مليوناً، منهم مليون ناخب من جيل الشباب (18-31)، ومن ضمنهم 684 ألفاً من الفئة العمرية (18-28) سنة.[1]  هذا الجيل في معظمه لم يكن فاعلاً في أحداث انتفاضة الأقصى سنة 2000 وإن كان بعض أفراده قد عايشها. وقد أثرت الانتفاضة ومفاعيلها في قرار الناخب الفلسطيني سنة 2006، كما انعكست وعود الفريقين على صناديق الاقتراع؛ فريق يدعي قدرته على التوصل إلى السلام وتحقيق الأمن والتنمية عن طريق المفاوضات، في مقابل فريق يرفع شعار المقاومة والتحرير.  لكننا اليوم في سنة 2021، حيث لا انتفاضة ولا حتى مفاوضات، ويعاني كلا الفريقين مأزقاً حقيقياً.

أجريت انتخابات 2006 على أساس نظام يناصف بين الدوائر والنسبي، بينما ستجرى هذه الانتخابات بحسب النظام النسبي. وقد حقق نظام المناصفة الأغلبية لحركة “حماس”، إذ حصلت على 74 مقعداً إضافة إلى 4 مستقلين كانوا محسوبين عليها، من أصل مجموع مقاعد المجلس البالغ عددها 132 مقعداً، فيما فازت حركة “فتح” بـ 45 مقعداً، أمّا بقية القوائم فحصلت على 9 مقاعد. وبذلك حصلت حماس مع المستقلين المحسوبين عليها على 49 مقعداً في الدوائر في مقابل 17 لحركة “فتح”، في حين حصلت قائمة “حماس” في النسبي على 29 مقعداً في مقابل 28 مقعداً لقائمة “فتح” بفارق نحو 30 ألف صوت. بمعنى أن الانتخابات وفق النظام النسبي ستكون نتيجتها مختلفة، وقطعاً ستكون مغايرة لنتائج 2006، ومن الصعب التخيل أن أي فريق سيستطيع تجاوز نسبة 50% من المقاعد، في حال تعددت القوائم المشاركة في الانتخابات.

الأهم من كل ما سبق هو حالة التجريف للحياة السياسية، التي عاشتها مناطق السلطة الفلسطينية في ظل الانقسام، وتقليص هامش حرية الرأي والتعبير، بسبب حالة الاستقطاب الناتجة من الانقسام، علاوة على سياسة تجفيف المنابع التي اتبعها كلا الفريقين ضد خصمه السياسي في المنطقة التي يسيطر عليها. فهذه العوامل لم تكن موجودة بهذا الشكل الفج سنة 2006، وهو ما سينعكس على نتائج الانتخابات.

نأتي إلى فرضية التصويت العقابي، هل يمكن أن تتكرر كما حدث في سنة 2006، حتى لو سلمنا بأن هنالك توجهاً عند جمهور الناخبين لمعاقبة الفريقين كل في جغرافيا سلطته، فكيف سيتم ذلك؟ ألا يحتاج الناخبون إلى ماكينة انتخابية كي تحول احتجاجهم إلى أصوات في صناديق الاقتراع؟ فهل توجد ماكينة انتخابية لحصد أصوات المحتجين؟! لا يوجد بين يدينا مؤشر على ذلك….لكن؛ نعم توجد ماكينة انتخابية للحزبين الكبيرين، كل في المنطقة التي يسيطر عليها. تستند الماكينة الانتخابية على بنية تنظيمية وشبكة زبائنية تشكلت عبر السنين. فحركة “حماس” في الضفة الغربية تفتقر إلى مثل هذه الماكينة نتيجة الملاحقة الأمنية على مر السنوات، وتجفيف المنابع. وقد أظهرت انتخابات البلديات سنة 2017، وكذلك انتخابات النقابات المهنية وعلى رأسها انتخابات نقابة المهندسين سنة 2018 ، بوضوح أن من لا يملك ماكينة انتخابية لا يستطيع الفوز. وراهن البعض على تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وبأنها ستشكل بديلاً من الماكينة الانتخابية المنظمة وعملية الحشد، لكن ثبت بالتجربة أنه لا بديل من الماكينة الانتخابية التي تملكها “فتح” في الضفة، علاوة على غرف العمليات المشكلة من المكاتب الحركية للتنظيم والأجهزة الأمنية التي أشرفت على العملية الانتخابية منذ بدأ التسجيل في السجل الانتخابي وحتى التصويت، وباستخدام الأدوات السلطوية للتأثير في قرار الناخبين.

يمكننا الاستنتاج أن الأمر سيتكرر في انتخابات 2021 إذا أجريت الانتخابات بحسب المواعيد المقررة في المرسوم الرئاسي، ففي قطاع غزة تملك “حماس “هذه الماكينة الانتخابية وفي المقابل تملكها “فتح” في الضفة، وهو ما يعني القدرة على تجنيد الأصوات، والتقليل من تأثير الأصوات المحتجة على أداء السلطتين. ويمكننا المجازفة بتوقع تبعثر أصوات المحتجين على أداء السلطتين في حال لم تكن هنالك ماكينة انتخابية تجند هذه الأصوات، أو على الأقل لن يجد المحتجون من يوظف أصواتهم، وبالتالي ستكون النتيجة إمّا عزوف المحتج عن التصويت (لذلك من المتوقع انخفاض نسبة التصويت)، أو الانحياز إلى الشبكة الزبائنية التي يرجح أنها ستخدمه.

قد يعول البعض على ظهور “بديل” أو “تيار ثالث” يقطف ثمار أصوات المحتجين. ربما يظهر مثل هذا البديل أو التيار، لكن هل سيمتلك هذا “البديل” البنية التنظيمية أو الشبكة الزبائنية القادرة على ترجمة الاحتجاج إلى أصوات؟ بحسب المعطيات الموجودة بين أيدينا لا يوجد أي مؤشر على وجود مثل هذا البديل، وحتى فصائل اليسار التي يراهن البعض عليها تفتقر إلى وجود هذه الماكينة الانتخابية.

هل يعني ذلك تكرار نتائج سنة 2006 في النظام النسبي، بمعنى تقارب نسبة الفصيلين الكبيرين في انتخابات 2021. أيضاً؛ لا أحد يملك إجابة قاطعة، لكن كثيراً من المؤشرات ترجح تقارب نسبة تأييد الفريقين، ولربما اتخاذ انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت كمؤشر يعزز من ذلك، إذا سلمنا بصحة القياس على انتخابات طلابية. لكن حتى لو أخذنا انتخابات مجالس الطلبة كمؤشر، فسيتعزز ما ذهبنا إليه سابقاً من أهمية وجود الماكينة الانتخابية، فحالة بيرزيت تعتبر استثنائية في سياق الانتخابات الطلابية، فباقي جامعات الضفة الغربية التي أجريت فيها الانتخابات اكتسحت فيها كتلة الشبيبة، ولم تستطع الكتل المنافسة الوقوف في وجه كتلة الحزب الحاكم الذي يمتلك الأدوات السلطوية من ترغيب وترهيب، وحتى في الجامعات التي كانت تعتبر سابقاً معقلاً للكتلة الإسلامية كجامعة الخليل.

خلاصة القول: على الرغم من صعوبة توقع نتائج أي انتخابات فإننا نستطيع القول وبناء على التجربة بأن القائمة أو الفصيل الذي يملك ماكينة انتخابية فاعلة، سيحصل على النسبة الأعلى وبالتالي العدد الأكبر من المقاعد. هذه الماكينة من الصعب تشكيلها في شهر أو شهرين، وإنما تأتي تتويجاً لأعمال الشبكة الزبائنية التابعة لإحدى السلطتين والتي تمأسست على مدار فترة الانقسام.

 قد يكون السؤال الأهم من سؤال من سيفوز بالانتخابات، هو السؤال ماذا سيضيف هذا الفائز على التجربة السابقة لسلطتي رام الله وغزة، وهل ستنهي هذه الانتخابات الانقسام كما يتوخى الداعين إليها؟ أم يجب علينا تكرار ما سبق في انتخابات 2006، بفوز أحد الأطراف بالانتخابات ورفض الطرف الآخر لها، وتجديد حالة الانقسام؟ ألا تدفعنا تجربة الانقسام وما تمخض عنها إلى إعادة التفكير في جدوى إجراء انتخابات على أساس تنافسي لسلطة لا تملك من أمرها شيئاً، أو “سلطة من دون سلطة” كما صرح سابقاً الرئيس محمود عباس. علاوة على أن عدم التزام هذه السلطة بشروط الرباعية سيقود إلى محاصرتها والتضييق عليها كما حدث في غزة. ألا تدفعنا تجربة السنين السابقة إلى التوجه نحو التوافق على برنامج وطني نضالي قائم على البرنامج السياسي الذي وقّعته معظم الفصائل، والمتمثل في وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى)، وذلك قبل إجراء الانتخابات، بحيث تجري الانتخابات على أساس قائمة مشتركة تضم جميع الفصائل بهدف إعادة ترتيب البيت الفلسطيني ومنظمة التحرير، والانطلاق سوياً نحو مواجهة خطة الضم ومخططات تصفية القضية الفلسطينية، ولتتحول هذه الانتخابات إلى ما يشبه استفتاء على هذا البرنامج، وأداة لإصلاح منظمة التحرير، والابتعاد عن انتخابات على أساس تنافسي، لسلطة وهمية، مهما كانت نتائجها ستعمق من الانقسام.

يحتاج تشكيل قائمة مشتركة تضم جميع الفصائل تسامي الجميع على جراح الانقسام الغائرة، وهذا لا يكون إلاّ بتعهد أطراف العملية السياسية برد المظالم الناتجة من الانقسام إلى أهلها، ومعالجة آثار الانقسام. كما يحتاج إلى تخلي التنظيمات عن العقلية الثأرية والنظر إلى الانتخابات على أنها فرصة لإذلال الخصم السياسي، وتكبيده خسارة انتخابية، بمنطق يصلح لانتخابات مجلس طلبة، أكثر منه منطقاً يصلح لإدارة انتخابات يفترض بها أن تكون الوسيلة لإنهاء الانقسام، والتوافق على برنامج نضالي مشترك.

أشرف بدر: محاضر ومرشح لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة بيرزيت.

عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *