من سلطة إلى دولة.. آخر مبتكرات القيادة الفلسطينية
باتت أوساط القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، تتحدث عن فكرة التحول من سلطة إلى دولة، كخيار لها لمواجهة السياسات الإسرائيلية التي تنتهجها حكومة نتنياهو، وضمنها خطة “الضم” لأجزاء من الضفة، كما للرد على خطة “صفقة القرن” التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكلتاهما تؤديان إلى تقويض مشروع إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة (1967)، أي ذلك الخيار، أو الوهم، الذي راهنت عليه تلك القيادة منذ توقيعها الاتفاق المذكور.
بيد أن هذا التطور الذي يثير تساؤلات عديدة، ليس جديداً أو مفاجئاً، إذ أن ذلك الطرح راود القيادة الفلسطينية بعيد انتهاء المرحلة الانتقالية من اتفاق أوسلو (ومدتها خمسة أعوام منذ 1994)، وهو ما كان يفترض أن يحصل في العام 1999، ردّا على تملّص إسرائيل من تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها.
الضغوط الدولية والعربية، في ظل وجود إيهود باراك كرئيس لحكومة إسرائيل (إبان تزعمه لحزب العمل)، آنذاك، حالت دون ذلك وفرضت على القيادة الفلسطينية صرف النظر عن تلك الخطوة، بل والذهاب إلى مفاوضات كامب ديفيد2 (2000) لنقاش قضايا الحل النهائي (القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية)، التي أرادتها إسرائيل لتشريع تملّصها من الاستحقاقات المطلوبة منها في الحل الانتقالي، لاسيما الانسحاب من مناطق “ب” كاملة، ومن أجزاء من المناطق “ج”، وأيضا، لفرض إملاءاتها على الفلسطينيين. ومعلوم أن إسرائيل ظلت تبرر ذلك بأن اتفاق أوسلو الموقّع بين الطرفين، لا ينص على انسحابها من كل أراضي الضفة الغربية (النص عن إعادة انتشار للقوات الإسرائيلية فقط) كما أنه لم ينص على أنه في النهاية ستقوم دولة فلسطينية مستقلة. المهم في الأمر، أن القيادة الفلسطينية صرفت النظر عن ذلك الخيار منذ عقدين، لكنها عادت واستعادته مع تعثر عملية التسوية، ومحاولة إسرائيل فرض الأمر الواقع في الضفة، لاسيما عبر تهويد القدس واستشراء الاستيطان وبناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية، لكن ذلك أضحى يتخذ طابعا رسميا منذ عامين، أكثر من ذي قبل، إذ بات يتكرر على لسان أكثر من قيادي في المنظمة والسلطة.
على ذلك فإن استعادة التلويح بهذا الخيار يستدعي طرح عدة تساؤلات، أو ملاحظات، أهمها:
أولاً: تسعى القيادة الفلسطينية إلى الإيحاء بالمزاوجة بين مصارعتها إسرائيل وتعايشها معها، كسلطة تحت الاحتلال، بالقول إن ذلك الخيار ينقل المطالبة بالاستقلال من المنظمة إلى الدولة، باعتبار أن ثمة دولة أرضها تقع تحت الاحتلال، مستندة في ذلك إلى الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة ـ عضو مراقب (2012). ومع مشروعية ذلك، فإن هذه النقلة تظل في الإطار النظري، إذ أن تلك الدولة لم تكن قائمة من قبل، أي أن الكيان الفلسطيني أتى وفقا لارتهان اتفاق أوسلو (1993)، وعلى قاعدة المفاوضات، أي على قاعدة ما تقبل به إسرائيل. هذا إضافة إلى أن الاعتراف الإسرائيلي انصبّ على منظمة التحرير كممثل لشعب فلسطين، وليس على شعب فلسطين، كما أنه تركز في الاعتراف بسلطة حكم ذاتي انتقالي، وهذه ضمن ثغرات كثيرة تضمنها الاتفاق، الذي لم يعرّف إسرائيل كدولة احتلال، ولا عرّف الضفة وغزة كأراض محتلة، وأجّل قضايا الاستيطان والقدس واللاجئين والحدود إلى ترتيبات أو توافقات الطرفين التفاوضية، دونا عن أيّ مرجعية دولية.أما ما يخص الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة، فهو على أهميته، يكتسي طابعا معنويا، أكثر مما له ترجمات عملية، إذا استثنينا فتح ممثليات أو سفارات لفلسطين في عشرات الدول، علما أن معظمها سفارات ترهق ميزانية السلطة، ولا تقدم شيئا يذكر، لا للفلسطينيين في تلك البلدان، ولا على مستوى التأثير في مجتمعات البلدان التي تعمل فيها. وهذا الكلام يطرح التساؤل المشروع عن أوراق القوة التي تمتلكها القيادة الفلسطينية، في هذه الظروف العربية والدولية غير المواتية إطلاقا، لتحويل الاعتراف بدولة فلسطين من الحيز النظري إلى الحيز العملي، أو لتعزيز الضغط على إسرائيل لإجبارها على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، مع علمنا أن إسرائيل صرحت على لسان قادتها مرارا وتكرارا أن من حق الفلسطينيين أن يسمّوا كيانهم كما يشاؤون، دولة أو إمبراطورية، أي أن ما يهم هو فرض إملاءاتها عليهم، في كيان هو أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، بغض النظر عن الاسم الذي يفضلون إطلاقه على كيانهم.
ثانيا: إن السؤال عن أوراق القوة التي تملكها القيادة الفلسطينية تأخذنا إلى مراجعة المسيرة السابقة، التي تم فيها نقل الحركة الوطنية الفلسطينية من كونها حركة تحرر وطني ضد استعمار كولونيالي استيطاني إحلالي عنصري، إلى سلطة تحت الاحتلال، ووفقا لشروطه. والتي تم فيها، أيضا، اختزال قضية فلسطين بالأراضي المحتلة عام 1967 في تماه مبطّن مع الرواية الإسرائيلية، بانطلاقه من اعتبار أن الصراع بدأ بسبب احتلال إسرائيل الضفة والقطاع، وليس بسبب قيامها على حساب شعب فلسطين، في تخل عن الرواية الفلسطينية المتأسسة على النكبة (1948).وفي ذلك إطاحة بقيمتي الحقيقة والعدالة (بحسب تعبير إدوارد سعيد)، التي لا بد منها لأيّ تسوية تاريخية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لأن هذين العنصرين هما اللذان يقطعان مع الصهيونية ومع إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية. ولنلاحظ أن إسرائيل التي وقّعت اتفاق أوسلو وتحدثت عن التسوية لم تتخل البتة عن روايتها التاريخية، التي تستند إلى المزاعم الدينية والادعاءات التوراتية، بدليل إنها ظلت تصارع على كل فلسطين.أيضا فإن أصحاب هذا الخيار يبدون منفصمين عن الواقع إذ خيارهم يعتمد المفاوضات، أي على “كرم” أخلاق إسرائيل، فبعد 27 عاما، على اتفاق أوسلو، مازالت إسرائيل تسيطر على كل شيء، المياه والكهرباء والمحروقات والصادر والوارد والمعابر، ولا شيء البتة يوحي بأنها ستمكن الفلسطينيين من دولة مستقلة ولو في مساحة أقل.
ثالثا: في الحديث عن منظمة التحرير، وعن المقاومة، في أيّ شكل كانت، يجدر التذكير بأن سياسات أكثر من ربع قرن أدت إلى زعزعة إدراك الفلسطينيين لأنفسهم كشعب واحد، وإلى تهميش منظمة التحرير. ولعل أكبر شاهد على ذلك يتمثل في تعامل القيادة الفلسطينية/السلطة مع منظمة التحرير، فهي أكثر طرف أضعف المنظمة، حيث خسرت المنظمة ولم تربح السلطة.
وباختصار فإن الكلام عن تحويل السلطة إلى دولة هو محاولة لتجديد وهم أوسلو، وكأن شيئا لم يكن، علما أن القيادة الفلسطينية لم تهيئ ذاتها ولا شعبها لمواجهة مثل تلك اللحظة، أو لمواجهة مثل ذلك التحدي.
*جريدة العرب اللندنية