من تقليص الصراع إلى تأجيله وعلامات السؤال الكبيرة؟
بايدن لم يتجاهل قضية فلسطين في لقاءاته الرسمية مع القيادات الإسرائيلية والفلسطينية، ولا في لقاءاته غير الرسمية، كما في خطابه في مستشفى أغوستا فكتوريا، إلّا إن كل ما قيل في هذا الصدد يتراجع أمام تصريحه الجوهري بأنها غير قابلة للحل قريباً.
كما أنه وضعها على جدول الأعمال بإحالتها على سياق التأجيل وسياق منظومة السلام الاقتصادي؛ وبالتالي، كان متوافقاً مع الموقف الصهيوني الحاكم.
إن الصيغة المواربة للحل، والتي أتى بها بايدن بإعلانه أنه لا يزال “شخصياً” مقتنعاً بحل الدولتين، لكنه أعفى نفسه وإدارته ودولته العظمى من أي التزام لتوفير هذا الحل، بل أحاله على توازنات القوى على أرض فلسطين، بين احتلالٍ وشعب محتل في وطن محتل، وبدلاً من أن يتصرف كرئيس الدولة العظمى الأولى والأكثر نفوذاً على إسرائيل أيضاً، اختار لغة المحلل السياسي بتأكيده عدم إمكانية الحل قريباً، وأمعن في ذلك بقوله إنه في حال توافقت الأطراف على الحل، فعندها ستقوم الولايات المتحدة بدعوتها، وهذا بخلاف تام عن أوباما مثلاً، وهذا يعني أن الاحتلال العميق بات هو الوضع القائم أو “الستاتوسكوو”، بما فيه الاستيطان والضم والتطهير العرقي في مناطق ج، إلخ. وعملياً، أعطى فرصة لإسرائيل لتعميقه. بل استحضر جانباً آخر فيه تغيير جوهري للأولويات العربية العلنية، والمقصود هو قلب “مبادرة السلام العربية” القائمة على التطبيع بعد السلام الإسرائيلي الفلسطيني وحل الدولتين، بينما دعا بايدن إلى قلب الأولويات في مبادرة السلام العربية، مدّعياً أنه بالإمكان التوصل إلى السلام، حتى ضمن هذه الصيغة العربية، وفي إطار التطبيع كوضع قائم وميسّر للحل ولتخفيف الصراع.
كل هذا لا يعني أن مثل هذه السياسة ستنجح، لأن الشعب الفلسطيني يفاجئ، ولا يمكن ضبط سلوكه ولا مقاومته ولا حركته الشعبية. وهو ما جرى قبل أشهر خلال مؤتمر النقب بين إسرائيل وقادة عرب، بتجاهُل إسرائيلي تام لقضية فلسطين، بينما عادت فلسطين بقوة وعصفت بكل المساعي الإسرائيلية لتجاهُلها، وهذا كما يبدو ما حدث في إطلاق الصواريخ من غزة خلال تواجد بايدن في المنطقة.
من الجدير أيضاً عدم التسليم بقدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على حسم كل الأمور، إذ يكاد لا يوجد خطاب أميركي – إسرائيلي للالتفاف على قضية فلسطين إلا وجرى استخدامه، فمن الحلول المرحلية إلى حل مسائل وتأجيل المسائل الجوهرية، إلى الهدنة طويلة الأمد، وإلى خريطة الطريق، ومؤخراً، جاء رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينت بنظرية “تقليص الصراع”، وهي امتداد منطقي لمشروع السلام الاقتصادي المبني على اللا- حل، بينما جاء بايدن مستخدماً ليعلن “تأجيل الصراع”، أو بكلماته “إنني لا أزال أدعم حل الدولتين، على الرغم من أنه من الواضح لن يحدث قريباً.”
فلسطينياً، فقد كان من المهم التزام الإدارة الأميركية تمويل وكالة الأونروا، مقابل المساعي للقضاء عليها كخطوة للقضاء على قضية اللاجئين، وعلى الاعتراف بوضعيتهم كلاجئين. على المستوى الرمزي والفعلي، كان لافتاً الاعتراف الضمني بالقدس الشرقية بأنها ليست منطقة إسرائيلية، ورفض أية مرافقة إسرائيلية، أمنية كانت أم سياسية. إلا إن أكثر ما عكسه الجانب الفلسطيني من جولة بايدن هو هشاشة الحالة الفلسطينية وفقدان أية أداة ضغط، باستثناء مساعي الإقناع ومخاطبة الرأي العام، بدلاً من الضغط على بايدن والتأثير في أولويات إدارته.
تجدر هنا الإشارة إلى مسألة واحدة لم يستطع تجنُّب الحديث عنها، وهي اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، والتي اجتمعت فيها قوة ضغط فلسطينية شعبية ورسمية معاً، وتحولت إلى قوة ضغط عالمية، وبالذات أميركية، وفي الحزب الديمقراطي، وهذا دليل على وجود قدرات فلسطينية لو أتيح للشعب تحرير إرادته ومواجهة الاحتلال. أمّا الالتزامات المالية للمرافق الطبية على الرغم من حاجة هذه المرافق إليها، وبالذات في القدس، ففيها عدم اعتراف بالاحتلال للقدس الشرقية، وفيها عدم اعتراف بالحق الفلسطيني فيها، بينما لا تتعدى هذه المساعدات حالة هي أقرب إلى العمل الخيري ذي الأجندة السياسية، ولا أقلل من شأنه إلا لأنه جاء عوضاً عن الجوهر، وقد تكون مساع أميركية لزيادة نفوذها في القدس بالذات خارج إطار الاتفاق مع الفلسطينيين، ومن شأن هكذا نفوذ أميركي أن يعزز النفوذ الخليجي الإماراتي في المدينة، بعد أن التزمت الأخيرة بناءً على الطلب الأميركي، وللإمارات قاعدة نفوذ سياسي فلسطيني ممثلة بمحمد دحلان، ويبدو أن رهانها في الداخل في مناطق الـ 48 هو على الحركة الإسلامية الجنوبية والقائمة الموحدة، وقد تكون قوى اصطفافات أُخرى. هذا بالإضافة إلى زجّ فلسطينيي الداخل، مصلحياً، في قبول التحالفات الجديدة والاستفادة المباشرة من فتح المجال الجوي السعودي والطيران المباشر لأداء مناسك الحج. لكن هذه الالتزامات لا تعزز بأي شكل، لا من وضعية السلطة الفلسطينية، ولا م.ت.ف. التي لا تزال ضمن قوائم “الإرهاب” الأميركية، بل جاءت على حساب حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. هذه الأمور من شأنها أن تُقلق الجانب الأردني الذي سيتضرر وضعه في المقدسات في القدس، وسيتضرر اقتصادياً من إمكانية تلاشي حركة الحجاج السنوية عبر أراضيه.
في المحصلة، جاء بايدن ليعزز “السلام الاقتصادي”، وليسخّر نفوذ الولايات المتحدة في هذا المسار، وهو ما يعزز تحالفه مع دولة الاحتلال. لقد حذّر الرئيس محمود عباس في كلمته في بيت لحم من “أنها قد تكون الفرصة الأخيرة أمام حل الدولتين” قاصداً بذلك الضغط على بايدن، إلا إن الضعف الفلسطيني لا يشكل أداة قوة للضغط بها على الدولة العظمى. كما كانت لافتة العجالة التي استعجل فيها عدد من القيادات السياسية الفلسطينية باللجوء إلى هذه المقولة للتصعيد الكلامي بشأن الحلول. لكن تبقى حقيقة ألا تتأتى المخارج الفلسطينية من المأزق والأفق المحدود من أولوية الانشغالات والاجتهادات في ديباجات الحلول، وإنما في أن تكون الأولوية لتحويل الإحباط الشعبي إلى غضب سياسي شعبي من أجل الحرية وإنهاء الاحتلال. طاقات شعب فلسطين الكفاحية هي الحاسمة والقادرة على التأثير في موازين القوى وفتح الطريق نحو الأفق. ما يحتاجه الشعب هو توفير بيئة فلسطينية مؤاتية لانطلاقته المتجددة. وقد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة أمام القيادات الفلسطينية، وليس الحاكمة وحدها، وليس في رام الله وحدها، بل أيضاً في غزة، بل أمام مجمل الحركة السياسية والفصائل لإنقاذ الصدقية وتوثيق العلاقة بالشعب. فلدى شعب فلسطين وحده القدرة على حسم الأولويات وجدول الأعمال السياسي الفلسطيني والعربي والعالمي.
“البشائر” لإسرائيل بالدمج غير مضمونة النتائج
في المقابل، أتى بايدن بالبشائر لإسرائيل بتكرار خطة المساعدات العسكرية بـ 38 مليار دولار لعشرة أعوام، وهي نفسها التي أُقرّت في عهد أوباما في أيلول/سبتمبر 2016، ومليار إضافي لتعزيز منظومة القبة الحديدية التي تآكل مخزونها في إثر العدوان على غزة في أيار/مايو 2021، والتي كان أقرها الكونغرس في العام الفائت، بالإضافة إلى التعاون الوثيق في تطوير منظومة مضادات الليزر، وكذلك تصريحه بأنه صهيوني وتأكيد التزام بلده أمن اسرائيل، بينما الأهم تأكيد بلده إدراج إسرائيل في منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، والتي تشرف على العمليات العسكرية والعلاقات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ودمج اسرائيل أيضاً في حلف اقتصادي غير مضمون النتائج، هو I2U2 (الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات) في مسألة الأمن الغذائي، باستخدام المال الإماراتي والخبرات والمستثمرين الإسرائيليين والبنية الزراعية الهندية والتسيّد الأميركي. كما جاء بايدن بخطاب اندماج إسرائيل في المنطقة وخلق سياق ومنظومات لهذا الدمج في إطار سلسلة من التحالفات العالمية والإقليمية، العسكرية والاستخباراتية، والاقتصادية والتجارية، ضمن تحديد الولايات المتحدة لحلف الأعداء ونفوذه في المنطقة والعالم، وهو الصين وروسيا، بينما لا تزال الإدارة الأميركية تعطي الأولوية لاحتواء الملف الإيراني من خلال الدبلوماسية والاتفاق، وخلق محور إقليمي، إسرائيلي عربي، هدفه التخلص من “وكلاء إيران” ونفوذها في أربعة بلاد، هي لبنان والعراق واليمن وسورية. ناهيك بالمسألتين الاستراتيجيتين بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهما النظام الاقتصادي والمالي العالمي والأمن الغذائي، الناتجان من تداعيات الحرب في أوكرانيا وأثرها في مجمل النظام العالمي والأميركي.
بناءً عليه، هناك تغييرات طرأت في الاستراتيجيا الأميركية القائلة بالانسحاب التدريجي العسكري المباشر من المنطقة، وإقرار بايدن بأن الولايات المتحدة باقية ونفوذها باق، لا بل سيتعمق فعلياً على شاكلة شبكة التحالفات والسعي لخلق مسارات التفافية على منظمة الدول المصدّرة للنفط، أوبك. إسرائيلياً، وعلى الرغم من إخفاق إسرائيل في إيجاد أي حليف عربي مستعد للمواجهة مع إيران نيابةً عنها، فقد جاءت مسألة حرب الأطراف (بروكسي) توخّياً لخلق نوع من التقاء المصالح. من الدلالة على إعادة الإدارة الأميركية النظر في استراتيجيتها، هو أن الولايات المتحدة دعت حلفاءها العرب قبل عامين لترتيب أمورهم الإقليمية، استعداداً لتخفيض الحضور الأميركي العسكري، وكانت محادثات إماراتية، ثم سعودية مع إيران، وكان التقارب الإماراتي السوري. لقد سعت إدارة بايدن للتلويح بصفقة مع السعودية، مفادها زيادة إنتاج النفط اليومي مقابل التصعيد مع إيران، إرجاء الاتفاق معها، لكنها اكتشفت أن مصالح دول الخليج الحقيقية قد تنوعت عناوينها، وأن أولوياتها جميعها هي التفاهمات والتعاون بصيغة معينة مع إيران وروسيا والصين. كما أن تعليق كل آمال أنظمة هذه الدول على الولايات المتحدة في مرحلة تحوّل في النظام العالمي بات مخاطرة كبرى.
الانتقال إلى حرب الأطراف
بعيداً عن صخب زيارة بايدن، فقد تعاملت وسائل الإعلام الإسرائيلية، كخبر إجرائي عابر، مع قرار المستشارة القانونية للحكومة، المصادقة على استمرار وزير الحرب غانتس في إجراءاته في ظل حكومة موقتة وفترة انتخابات، لتسمية قائد الأركان الجديد الذي من المفترض أن يباشر مهماته أوائل سنة 2023. ما لفت النظر في هذا السياق ليس القرار، وإنما التبريرات المنمقة بشأن حيوية التعيين؛ “من المتوقع أن تشكل سنة 2023 بداية مرحلة استراتيجية جديدة”[1]. إن أحد السيناريوهات المحتملة في هذا الصدد هو تغيير جدي في الأولويات الإسرائيلية، والتحول من المواجهة الحربية المباشرة مع إيران، إلى البدء من الحلقة الأوسع قبل الوصول إلى إيران. وهي عقيدة عسكرية ليست بجديدة، إلا أنها باتت أكثر راهنيةً. يتماشى هذا الاحتمال مع دراسة تفصيلية أعدها لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، يقترح خلالها الجنرال إيال زمير[2] المرشح من ضمن ثلاثة لتولي منصب رئيس الأركان، حرباً مستدامة ومتعددة الأدوات والأدوار والأبعاد والجبهات والأساليب مع ايران، واستخدام كل الأدوات الممكنة بشكل تكاملي ومُدمَج، والوقوف في وجهها كحلف وائتلاف لعدة دول معنية، كلٌّ منها من باب مصالحها العليا، كما يقترح أن يكون الهدف إعادة نفوذ إيران إلى حدودها الإقليمية فقط لا غير، والحيلولة دون أي نفوذ إقليمي. بناءً عليه، يقترح زمير إيلاء أولوية متقدمة لتسديد الضربات الساحقة لـ”وكلاء ايران”، أو ما يطلَق عليه “بروكسي”. وهذا يعني احتمالية حرب في الجبهة الشمالية لفلسطين مع حزب الله في لبنان، وخصوصاً أن منسوب التوتر يتعاظم مع قرب بدء تشغيل إسرائيل لمنشأة كاريش للغاز الطبيعي.
هناك قناعات في أوساط واسعة في المؤسسة الصهيونية الحاكمة بأن حرب البروكسي من شأنها خلق مصالح لدول عربية، وبالذات الخليجية، للاندماج فيها بقيادة إسرائيل. وتنطلق هذه التقديرات من الهجمات الصاروخية الحوثية على منشآت أرامكو في السعودية وتعطيلها لفترة، أو الهجمات الصاروخية على مطار أبو ظبي. إلا أنها من الحروب التي قد تضبط فيها إسرائيل موعد هجومها، لكن لا يمكنها التحكم في نتائجها، والأمثلة كثيرة.
إن كثرة الخطط الاستراتيجية والتغييرات التي حدثت في الأولويات الأميركية والإسرائيلية هي مؤشر إلى السعي لملائمتها للمتغيرات، وفي المقابل، لتعثُّرها نوعاً ما، وهذا لا يقلل من جديتها ولا من خطورتها. بينما تعثُّرها البنيوي والأكبر، هو أن قضية فلسطين لا يمكن تجاوزها، ولا إخفاؤها، ولا الاستعاضة عنها بسلام المستعمر، وهذه ينبغي أن تكون رسالة فلسطين.
[1] تلفزيون كان 13/7/2022.
[2] انظر الرابط الالكتروني.