“تتّخذ التّفاصيل الرّديئة شكل كمّثرى
وتنفصلُ البلاد عن المكاتب
والخيولُ عن الحقائب”
درويش
منذ ان بدات الهيئة الأهلية أعمالها وانشطتها ، ضمّت في صفوفها افرادا من منابت ومشارب سياسية واجتماعية مختلفة ، كان منهم المستقل والمنظّم والمحزّب ؛ مثلما كان منهم الغني والفقير ومتوسط الحال، إضافة الى تواجد لافت لاصحاب مهن واختصاصات متنوّعة.. إنما ، وللحق ، شكّل الشباب جسم الهيئة الأساسي مما منحها قدرة واسعة على الحركة والسرعة في اداء المهام. وللحق ، ايضا ، فإن ماجمعهم وجعلهم على قلب رجل واحد هو قضية مخيم اليرموك. الذي بناه آباؤهم وأخوانهم بجهد وتعب مضنيين ؛ ربما من أجل هذا كانوا يقبلون على العمل بعزيمة لاتلين وتصميم قلّ نظيره.
عليه ، أعتقد ان ماغاب عن قادة الفصائل كان حاضرا عند شباب الهيئة وبقوة: اقصد القضية الجامعة.
فإذا كان غياب القضية هو ما حال دون أن يكونوا على قلب رجل واحد. وهو ايضا ما كرّس ، ولازال يكرّس وسيستمر ، حالة التشتت والتّباعد بين الفصائل عموما وبين فتح وحماس بصورة خاصة. فهذا يؤكّد ، وبما لايدع مجالا للشك ، ان قضية فلسطينيي سورية ، شأنها شأن القضية الأم كانت آخر همّهم ، لتتقدّم بدلا عنها قضيتهم هم:
عنيتُ المناصب والامتيازات والمكاسب التي غنموها خلال عقود ، وعلى جثث مئات آلاف الشهداء وعشرات آلاف الأسرى والمصابين.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه إذا كانت حاجة المخيم الى فريق عمل موحّد يقف على مختلف متطلبات سكانه قد تجسّدت في الهيئة الاهلية فهذا لا يعني ، بأي حال من الأحوال ، انها كانت الوحيدة ؛ فقد شهد المخيم تجارب مهمة لكيانات وهيئات شبابية نشيطة ومخلصة لم تكن أقل شأنا ، منها:
– الهيئة الخيرية الفلسطينية (حركة الجهاد الاسلامي)، لها عدة مراكز في دمشق لتوزيع الاعانات. مركزها في المخيم يقع في مدرسة الفالوجة ش المدارس. من ابرز نشطائها على ما اذكر : ابو العبد عريشة ، ابو العبد شمدين ، ابو أيمن شمدين ، الأخوين التوأمين ، الرّائعين جدا ، دياب و رضوان عيسى ، وعدنان قاسم (سائق الميكرو الخاص بالهيئة الخيرية) شاب في مقتبل العمر صاحب قلب حاضر ، كان يتنقّل بميكرو الهيئة الخيرية ، الوحيد في المخيم ، بسرعة مذهلة بحثا عن اصابات إثر سقوط كل قذيفة، لينقلها الى مشفى فلسطين او الى مشفى الجمعية الخيرية الفلسطينية قرب حديقة جامع عبد القادر.
– هيئة فلسطين الخيرية (حركة حماس) كان لها مركزان لتوزيع المواد الغذائية الاول في مدرسة الجليل بجانب جامع عبد القادر الحسيني والثاني خلف الجامع المذكور مباشرة كان من ابرز نشطائها ابو صهيب الحوراني وأبو معاذ الشرعان.
– التجمع الأهلي الفلسطيني ، جعل من مركز مكافحة المخدرات ، الواقع خلف مدرسة اعدادية المنصورة ، مقرّاً له. ضمّ نخبة من مثقّفي مخيم اليرموك الأنقياء ، أذكر منهم ابو سلام السعدي ، لؤي الكبرا ، وفيق النعيمي ، عادل عمر ، عامر خرما ، محمود شواهين ، نبيل ابراهيم ، ابو العبد عصام ، ماهر الشهابي وعبدالله الطيب.
– مؤسسة جفرا كان مركزها في استراحة جفرا الواقعة في ش اليرموك بجانب مكتبة الرشيد وتضم ناشطين شباب أذكر منهم :.احمد برغيس ، اسامة موسى ، احمد عباسي ، ياسر عمايري.
– مؤسسة بصمة كان مقرها الاساسي بجانب صالة السوار من جهة ش الثلاثين سوق الخضرة. مجمل نشطائها من الشباب المتحمس مثل: أحمد كوسا ، منير الخطيب ، فراس الناجي ، سمير عبدالفتاح ، يزن عريشة ، قصي قاسم ، خليل احمد ، احمد حجو ، معتصم ابو خميس، أبوسلمى خليل ، عبدالله الخطيب
ما ميز الهيئة الأهلية عن غيرها من الهيئات والمؤسسات المذكورة هو طابعها الأهلي ، المخيمجي البحت ، من جهة ووقوفها على مسافة واحدة من طرفي الصّراع من جهة ثانية واتصالاتها المباشرة مع الفصائل الفلسطينية بدمشق ومع الحكومة والمعارضة( رغم الأخطار الهائلة التي كانت ترافق ذلك) من جهة ثالثة.
والآن على فرض ان ماسبق ذكره يسجّل في ميزان ايجابيات الهيئة الأهلية فثمة مايجب تسجيله ، للحق ، على انه في ميزان سلبياتها ، هذه المرّة ، سلبيات من النوع الذي قد يرقى الى مستوى الجرائم ؛ خاصة عندما يتعلق الأمر باستغلال حاجات الناس وعوزهم الشديد لأغراض لاأخلاقية١.
خلال الخمس سنوات الاولى من عمر الأزمة قدمت منظمة التحرير سلالا غذائية على ثلاث دفعات كانت المدة الزمنية الفاصلة بين الدفعة والأخرى حوالي السنتين بالإضافة الى مبلغ 1500 ل.س على دفعتين او أكثر ربما ، لست متأكدا ، لكن من المخجل فعلا الحكي بمبلغ تافه كهذا ، ومع ذلك ثمة من هو بحاجة إليه ؛ وما علينا سوى أن نقدمه له من فم ساكت اولا ولأنه من حقه ثانيا ولأن ذلك من واجبنا اولا وثانيا وثالثا.
حين تقوم السلطة الفلسطينية بتقديم الاعانات للمخيم فلأنها تعلم ان ثمة ارتفاع في معدلات البطالة وتراجع ملموس في سوق العمل وبالتالي ازدياد عدد ذوي الاحتياجات المادية إلى حد كبير.
وحتى تنفذ السلطة عملية توزيع السّلال الغذائية و الأموال النقدية وسواها ، يفترض والحال هذه انها ستحتاج الى أفراد ، او جماعات ، يتمتعون بمؤهلات محددة كي يتمكنوا من انجاز مهمتهم على نحو أمثل وبما يعود بالنفع اولا واخيرا على عموم مستحقّيها.
من هذه المؤهلات على سبيل المثال :
١- رحابة الصدر ورجاحة العقل والبال الطويل.
٢- التواضع الجم وإشعار الناس ان وظيفتك هذه من اجل خدمتهم وليس للتّسيّد عليهم اواستغلال حاجتهم.
٣- حسن التواصل اللفظي والمرونة العالية اثناء تلبية حاجات الناس؛ يعني من غير زعيق وصراخ وتفريغ شحنات عدوانية بأناس لاحول لهم.
٤- كلّ من لا تتوفر لديه هذه المؤهلات ، وهذا امر ممكن وأقل من عادي ، عليه ألا ّيتقدم من أصله للفوز بهذا الشرف ، شرف خدمة ابناء شعبه.
أزعم ان جميع هذه المؤهلات لم تنطبق يوما على من عيّنته حركة فتح ٢، لتوزيع اعاناتها المالية ، ومساعداتها الغذاية لابل كانت ممارسته في هذا السياق تناقض ذلك وعلى طول الخط.
فحيث يجب ان يكون حليما طويل البال كان نزقا سريع الهياج شديد الغضب٣
وفي الوقت الذي يفترض فيه أن يكون خادما متواضعا لابناء شعبه المكلومين تجده متغطرسا متسيّدا فاقدا ادنى درجات اللباقة.
وإذ ينبغي ان يكون حلو اللسان لطيف الحديث كان شتّاما سبّابا إلى أبعد الحدود.
في هذا السياق عليّ ان اذكر نقطة لاتخلو من الطرافة ؛ جميع الهيئات التي كانت تصلها مساعدات غذائية ؛ كانت توزّعها بسلاسة وهدوء من فم ساكت ومن غير أي شوشرة ، إلا المساعدات التي كانت تصل الى الهيئة الأهلية ويقوم على توزيعها السيد علي عبده الشهابي ، لا أبالغ إذا قلت أنكم ستكونوا شهودا على فضيحة ماكنتم لتتخيّلونها بإطلاق!
فوضى ومدافشة صياح وصراخ وبهدلة وقلّة قيمة لها اول وليس لها آخر..
لا شك ان الاحتكاك المباشر بالناس الذين يعانون نقصا في احتياجاتهم المادية ليس بالأمر السهل اطلاقا ، وان العمل الأهلي هو من أقسى الأعمال الاجتماعية وأكثرها إجهادا وارهاقا وذلك لعدة أسباب ؛ منها مايتعلق بانعدام الوعي الجمعي عند أغلب السكان ومنها ماله علاقة بصعوبة إرضاء جميع الأفراد والأسر ، ومنها مايرتبط بحاجتهم الضاغطة ذاتها ، إذ ليس عبثا قيل أن “صاحب الحاجة أرعن” !
إلا أن ضبط النفس أثناء التوزيع مع قليل من الإرشادات الجماعية والفردية بين الحين والآخر إضافة إلى بعض التعزيزات الايجابية اوالسلبية في آن ؛ لا بد وأن ينعكس ايجابا على سير عملية التوزيع.
أذكر أنني ، أنا وزكريا عبدالله (ابو ربيع) وأبو أحمد هواري ، تعرّضت لتجربة توزيع سلال غذائية لمدة أسبوع كامل ، من الساعة السادسة صباحا ولغاية الخامسة مساءا ، اي كلما كان ليل كانون يدنو من سماء المخيم.
بعد ذلك الأسبوع الشاق والعسير ، تنفست الصعداء ما أن انتهينا من توزيع جميع المواد ، لابل أعترف أنني شربت وابو ربيع ليترا كاملا من عرق الريان ، بعد أن أقسمت على ألاّ اعيد التجربة ثانية مهما كان الثمن !
بدأت الحكاية عندما حاولت ، كتيبة من لواء ابابيل حوران أحد فصائل الجيش الحر ، الاستيلاء على كميات هائلة من المؤن الموجودة في مستودعات مركز الأعاشة التابع لوكالة الغوث الدولية ، والمخصصة عادةً للاسر عديمة الدخل في المخيم.
علمنا ، فيما بعد ، انه كان من المفروض ان توزّع على مستحقيها في موعدها المحدد إلا أنه وبسبب مغادرة موظفي المركز على أثر “ضربة الميغ” بقيت المؤن في المستودعات على حالها. ويبدو ان احد جواسيس الجيش الحر قد بلّغ عنها٤.
في صبيحة ذلك اليوم واثناء محاولة نقل المؤن إلى الشاحنات المتوقفة بجانب المركز في ش القدس ، أحسّ الجيران ، والنساء بخاصة ، بمحاولة السرقة فما كان منهم إلا ان هجموا على المسلحين بالعصي والحجارة.. ومنعوهم من سرقة المؤن ؛ لا بل و أجبروهم على إعادتها الى المستودعات كما كانت٥.
هذه الواقعة نبهت الهيئة الأهلية الى ضرورة العمل على إفراغ المستودعات وذلك بتوزيعها على السكان وبسرعة ، قبل ان تأتي كتائب أخرى ، مشبوهة وغير مأمونة الجانب، وتستولي عليها٦.
بداية جرى الاتصال بمسؤول عمليات الاغاثة بمكتب الاونروا بدمشق آنذاك (السيد عبدالله اللحام) حيث احيط علما حول رغبة الهيئة في إفراغ مستودعات مركز الاعاشة وتوزيعها على سكان المخيم ٧، خاصة وان الجميع في فاقه وعوز شديديْن ، بعد الموافقة تم الاتفاق على توزيع الكميات بالتساوي وارسال جدول يتضمن اسماء الأسر مع الرقم الرمزي لكل اسرة٨.
كانت المستودعات مليئة باكياس الطحين والسكر و الارز و الفاصولياء والعدس وكراتين ضخمة تكدّس فيها أعدادا هائلة من علب حليب الأطفال وعبوات زيت عباد الشمس.
بالإضافة لشباب الهيئة تبرّع عدد كبير من الجيران للمساعدة في إعداد السلال الغذائية وتجهيزها للتوزيع. كان اغلبهم من النساء وخاصة ممن منعنَ المسلحين من الاستيلاء عليها.
وما لم تخني الذاكرة ، تم توزيع نحو 4500 سلة غذائية٩.
كنا في كل يوم ما أن ينتهي نهار التوزيع حتى نغلق ابواب المستودعات باحكام وننبه الجيران على ان يبقوا متيقظين ، نعود في رتلين متجاورين إلى مكتب الهيئة القريب. لاخذ قسط من الراحة مع الشاي وتحضير جداول التوزيع لليوم التالي.
يتبع…
………………………………………………………..
١ من الجريمة استغلال حاجة الناس لأغراض دنيئة وغير اخلاقية، خاصة وأن الإعانات أتت من أجلهم ؛ فلولا وجودهم لما كان هناك إعانات أصلا.
٢ المقصود هنا السيد علي عبدو الشهابي (ابومحمد)
٣ اذكر انه تعرّض اكثر من مرة لردود افعال جسدية خشنة كانت ، بكل تأكيد ، تثير حنق وغضب شباب الهيئة على المعتدين. وعلى امل ان يعدل سلوكه ، لكن الطّبع كان يغلب التّطبّع دوما.
٤ مثلما كان لنظام الأسد جواسيسه ومخبريه في المخيم ، صار للجيش الحر عملائه وعواينيّته ايضا. على أساس ما حدا احسن من حدا !!
٥ لكم ان تتخيّلوا المشهد لو كانت احدى كتائب الأسد هي من يقوم بعملية السّطو وليس الجيش الحر ، هل كان ليكفيهم قتل جميع سكان الحي ؟!
٦ كعموم الوية الحجر الاسود وخاصة لواء صقور الجولان و لواء الجولان.
٧ سبق هذا التنسيق مع مكتب الإغاثة لقاء بعض نشطاء المخيم ، في دمشق ، بالسيد مايكل كينجسلي نيناه ،مدير شؤون وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، كان قد مهّد له السيد علي مصطفى مدير الهيئة العانة للاجئين الفلسطينيين.
٨الكرت الأبيض وعليه الرقم الرمزي خاص بفلسطينيي سوريا المسجّلين في الأونروا. و للحق ، كان مكتب الاونروا متعاونا ، إذ حين علم ان ثمة أسر سورية ، اي لاتملك كرتا أبيض ورقما رمزيا ؛ جاء الرد “في هذه الحالة يرجى كتابة اسم رب الأسرة الثلاثي ومكان سكنه في المخيم”
٩ على ما أذكر ، حوت كل سلة غذائية على : 5كغ طحين 5كيلغ سكر 5كغ رز 4 كغ فاصولياء 4 كغ عدس 3 علب حليب أطفال (وزن العلبة اكغ) 5عبوات زيت.
الصورة الأولى
رضوان عيسى (من نشطاء الهيئة الخيرية الفلسطينية)
محمد ابو المجد (احد ابرز نشطاء حركة فتح في المخيم)
زرعوا بعض الخضار في ش الثلاثين وهاهم يحصدون.