من “انتصارات” الأنظمة إلى “انتصارات” الفصائل

يغلب على التفكير السياسي العربي السائد طابعه الأيديولوجي والقدري والرغبوي. لذا فهو يتسم بالعناد والمكابرة والانفصام عن الواقع والتشبث بما يعتقد أنها قضايا كبرى (فلسطين والوحدة ومصارعة الإمبريالية مثلا). وبغض النظر عن أن “القضايا الكبرى” استثمرت، من قبل كثير من الأنظمة، لأغراض التلاعب والابتزاز والمزايدة والتغطية على الاستبداد والفساد، لتعزيز هيمنتها على مجتمعاتها، بوسائل القوة الناعمة، على مثال شعار النظام السوري السابق: “وحدة، حرية، اشتراكية” واعتبار قضية فلسطين ومقاومة إسرائيل بمثابة القضية المركزية، في حين كان هو أبعد شيء عن كل ذلك. ثم إن تلك الشعارات، عمليا، لم تكن تعني شيئا ملموسا، سوى تغطية تهرب الأنظمة من استحقاقات التنمية البشرية والاقتصادية والعلمية وحقوق المواطنين. وكانت الأنظمة العربية، المتصدرة بعد النكبة، قد أطلقت اسم “النكسة” على نتيجة حرب يونيو/حزيران 1967، رافضة تسميتها، أو تعريفها، كنكبة ثانية، أو كهزيمة، كأن إنكار الواقع يعني إخفاءه، أو التخفيف منه، علما أن تلك “النكسة” بات لها قرابة ستة عقود. وتفسير ذلك أن تلك الأنظمة، وبخاصة النظامين المصري والسوري، أرادا التغطية على واقع الهزيمة، والتنصل من تحمل المسؤولية عنها، وصد أي محاولة لمراجعة الواقع الذي أدى إليها، الذي لا بد أن يطال طبيعة الأنظمة الحاكمة، وخياراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، والفكرة أن إسرائيل لم تحقق هدفها بإسقاط الأنظمة الوطنية والتقدمية فيها (في سوريا ومصر)، لذا وبما أن تلك الأنظمة لم تسقط فهي لم تهزم، وتبعا لذلك فإن إسرائيل لم تنتصر.

أ ف ب عناصر من “منظمة التحرير الفلسطينية” يحتفلون بعد تدريب عسكري في مايو 1967 قبل الحرب العربية الإسرائيلية التي بدأت في 5 يونيو 1967

حينذاك ارتاحت الأنظمة لهذه التخريجة، رغم أن إسرائيل احتلت باقي فلسطين (الضفة وغزة)، وأراضي عربية (الجولان وشبه جزيرة سيناء)، بحيث زادت مساحتها أكثر من ثلاثة أضعاف، ثم إنها أخذت القدس كاملة، وطابقت بين “أرض إسرائيل” و”شعب إسرائيل”، بحسب منظور العقيدة الصهيونية، فضلا عن سيطرتها على الموارد الطبيعية ولا سيما موارد المياه في الضفة والجولان. وعلى الصعيد الخارجي فإن تلك الحرب عززت مكانة إسرائيل كدولة إقليمية قوية في الشرق الأوسط، في الاستراتيجيات الدولية، وبخاصة الأميركية.

ولعل أهم ما نجم عن تلك الحرب هو تحويل الصراع في المنطقة، من الصراع على وجود إسرائيل، من أساسه، إلى الصراع على شكل هذا الوجود، فبدلا من الصراع على تحرير فلسطين بات الصراع على انسحاب إسرائيل من 22 في المئة من الأراضي المحتلة عام 1967.

الآن، يبدو أن منهجية الأنظمة تلك انتقلت بعدواها إلى الفصائل، إذ خلال حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل، بوحشية غير مسبوقة، على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023)، والتي تمخضت عن نكبة مهولة تعرض لها أكثر من مليوني فلسطيني، تم ترويج كثير من المقولات، لأغراض الاستهلاك السياسي، والتغطية على كوارث تلك الحرب، وبدعوى رفع المعنويات، من مثل أن “إسرائيل حينما لا تنتصر، تُهزم، والمقاومة حينما لا تُهزم، تنتصر”، وأن “إسرائيل لم تحقق أهدافها”، وأيضا اعتبار أن “نجاحات إسرائيل تكتيكية في حين أن نجاحات المقاومة استراتيجية”.

عن المجلة

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *