من النهر إلى البحر وتزوير المعنى الحقيقي للشعار

من غرائب الأمور أن شعار «من النهر إلى البحر» مسموح استخدامه من لدن الصهاينة ولا يثير حساسية أحد، ولا يحتج على استخدامه أحد، أما عندما يستخدمه الفلسطينيون فيصبح برنامجا لمعاداة السامية، ودعوة لتدمير إسرائيل وقتل كل من فيها. وما أبعد ما يعينه الشعار عن ذلك عند الفلسطينيين. فما هو المقصود من طرح هذا الشعار من الجانبين الفلسطيني والصهيوني؟
الطرح الصهيوني للشعار
في الرابع والعشرين من سبتمبر 2023، وقف رئيس وزراء الكيان على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، مزهوا باختراق وشيك للتطبيع مع المملكة العربية السعودية، ورفع خريطة لما سماه دولة إسرائيل عام 2023 مقارنة بما كانت عليه عام 1948. وفي الخريطة اختفى أي أثر لفلسطين، لا ضفة ولا غزة ولا قدس شرقية ولا اسم ولا حدود، بل أضافت خريطة نتنياهو هضبة الجولان السورية المحتلة إلى «دولته المزعومة». ولم نجد يومها من يعترض على الخريطة، خاصة دول النفاق الغربية، التي صدعت رؤوسنا بحل الدولتين. سكت الجميع وبلعوا الطعم المسموم، ولم ينسحب وزراء الخارجية العرب، كما كانوا يفعلون في غابر الأيام.

استخدمت منظمة التحرير الفلسطينية عبارة «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» لتعني دولة علمانية ديمقراطية واحدة تحل محل إسرائيل يتمتع جميع مواطنيها بالمساواة

وهذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي كرر فيها زعماء الحركة الصهيونية بأن الهدف النهائي هو إقامة دولة يهودية خالصة من النهر إلى البحر، بل كانت طموحاتهم أكبر في بداية الحركة في ما سمي بـ»إسرائيل الكبرى». فمؤسس الحركة ثيودور هرتسل أصدر كتابه «الدولة اليهودية» عام 1896 قبل المؤتمر الأول الذي عقد في بازل بسويسرا، وأقر مبدأ إنشاء دولة يهودية خالصة، لكن الخلافات حول مكان الدولة لم تحسم إلا في المؤتمر السادس عام 1903، حيث أقرت فلسطين هي دولة المستقبل، ولم تكن نسبة اليهود آنذاك في فلسطين تزيد عن 6%.
فلاديمير جابوتنسكي، أحد مؤسسي الميليشيات اليهودية المتطرفة، كان يدعو إلى طرد جميع الفلسطينيين مما سماه «أرض إسرائيل». وكان أتباعه يرددون أغنية تقول «لنهر الأردن ضفتان: هذه لنا والضفة الأخرى لنا». ديفيد بن غوريون، قائد الهاغانا وأول رئيس وزراء للكيان، رفض ترسيم حدود دولة «إسرائيل» ليبقي الباب مفتوحا على التوسع والتمدد والسيطرة والضم. ورد على سؤال أين حدود إسرائيل قائلا: «حيث تصل بساطير جيش الدفاع». ومنذ اليوم الأول الذي احتلت فيه إسرائيل بقية فلسطين عام 1967 بدأت فورا عمليات الضم والتوسع والاستيطان. فأزيل السور الفاصل بين القدس الشرقية والغربية، وأزيلت القرى الثلاث القريبة جدا من الخط الأخضر: يالو وعمواس وبيت نوبا في منطقة اللطرون. وأنشئت مستوطنة رموت قرب القدس فورا، وبدأت عمليات الهدم وشق الطرق وبناء البؤر الاستيطانية. وذهب بهم الصلف أن أنكرت غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان آنذاك، والمولودة في كييف، في سبتمبر 1969 وجود الشعب الفلسطيني. في عام 1977 وأثناء حملة حزب الليكود الانتخابية بقيادة مناحم بيغن، طرح شعارا انتخابيا ينص على «من البحر إلى النهر لا توجد إلا سيادة إسرائيلية». ومع التغول الاستيطاني، وبعد أن بدأت الدول العربية تنسحب من ميدان المواجهة والمقاطعة، وتتوصل إلى اتفاقيات اعتراف مع الكيان بداية من مصر، انتشرت الأحزاب المتطرفة والأيديولوجيات الدينية القائمة على إنكار أي حقوق للشعب الفلسطيني. وقد أعطتهم اتفاقيات أوسلو عام 1993 التي فرطت بوحدة الشعب الفلسطيني ووحدة أرضه ووحدة هدفه، فرصة ذهبية لتوسيع الاستيطان، والعمل على إلغاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. فقد اعتمد الكنيست في 19 يوليو 2018 قانونا دستوريا أساسيا جديدا، يعتبر تحولا أيديولوجيا خطيرا في تاريخ الحركة الصهيونية وهو ما سمي بقانون القومية. وقد صادق عليه 62 عضوا في الكنيست وعارضه 55، إلا أن العودة إلى إلغائه يتطلب الثلثين، أي أن اعتماده كان بصعوبة بالغة وبأغلبية بسيطة ،إلا أن التخلص منه شبه مستحيل. ولخطورة هذا القانون، نقتبس منه أهم بنوده للتعريف بالمعنى الحقيقي والعملي لشعار من النهر إلى البحر بالنسبة للصهاينة:
أ- أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وفيها قامت دولة إسرائيل؛
ب- دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وفيها يقوم بممارسة حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي لتقرير المصير؛
ج‌- ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي.
والمادة الثالثة من القانون تنص على: القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل.
ومن أخطر مواد القانون ما جاء في المادة السابعة المتعلقة بالاستيطان اليهودي، حيث تنص على: «تعتبر الدولة تطوير استيطان يهودي قيمة قومية، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته». فالاستيطان المتفق عليه عالميا أنه غير قانوني، وينتهك البند 49 من اتفاقية جنيف الرابعة يصبح «قيمة يهودية يجب إقامته وتثبيته». فهل من شك ماذا يعني هذا الشعار بالنسبة للصهاينة.
نتنياهو في حملته الانتخابية في انتخابات نوفمبر 2022 أكد أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية بين النهر والبحر. وتفاخر أكثر من مرة بأنه هو من منع قيام الدولة الفلسطينية. وفي فبراير الماضي صوت الكنيست الإسرائيلي بغالبية 99 صوتا على إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الرافض لإقامة دولة فلسطينية «بعد تزايد الدعوات الدولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإحياء الجهود من أجل التوصل إلى حل الدولتين.
الفهم الفلسطيني لشعار من النهر إلى البحر
لا يوجد أي بيان أو ميثاق أو نظام داخلي يدعو إلى تصفية جسدية لليهود في فلسطين، كما يدعي غلاة الصهاينة. والمفهوم الذي ثبت في النظام الأساسي لحركة فتح عام 1965 ينص على أن «احتلال فلسطين لا يموت بالتقادم، وأن المشاريع والقرارات التي تنفي أو تنتقص من حق الشعب الفلسطيني في وطنه وأيا كان مصدرها، دولياً، عربياً أو فلسطينياً هي باطلة ومرفوضة ومدانة» حسب البند 6 من النظام. أما أهداف الحركة فتتلخص في تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، وتصفية الكيان الصهيوني، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافيا، وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة على كامل التراب الفلسطيني تحفظ للمواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة، دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة، وتكون القدس عاصمة لها، وبناء مجتمع تقدمي يضمن حقوق الإنسان ويكفل الحريات العامة للمواطنين كافة». الذي اتفق عليه الفلسطينيون في انطلاق مشروعهم الوطني هو بناء الدولة الديمقراطية لكل أبناء الوطن دون تمييز من أي نوع.
وفي مراجعة ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية الذي اعتمد عام 1968 وعدت منظمة التحرير الفلسطينية بالمواطنة المتساوية لجميع اليهود، بما في ذلك أولئك الذين هاجروا حديثا، إذا تخلوا عن الصهيونية. هكذا بحلول عام 1969، استخدمت منظمة التحرير الفلسطينية عبارة «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» لتعني دولة علمانية ديمقراطية واحدة تحل محل إسرائيل يتمتع جميع مواطنيها بالمساواة. إن شعار «من النهر إلى البحر» الذي انطلق في كل مظاهرات العالم، خاصة في الجامعات ليس معاداة للسامية، كما يدعي المدافعون عن المجازر، بل دعوة لإنهاء نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والتمييز والاستعباد والاحتلال القائم، على سيطرة مجموعة عرقية أو دينية على مجموعة عرقية أو دينية أخرى وإخضاعها بالقوة لتبقى تحت سيطرة القوة المهيمنة إلى الأبد، إن تمكنت. فمن من الطرفين يعمل على تصفية الآخر. ومن من الطرفين يحق له أن يرفع شعار» من النهر إلى البحر» دون أن يقصد سفك الدماء وقتل المخالفين وتصفية الأعراق والديانات الأخرى؟

(اللوحة للفنان احمد الخالدي)

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *