من أي نوع هي «الثورة الفلسطينية»؟

حتى الآن (أي الستينيات)، كان تعبير الثورة يطلق على ظاهرة من نوع ثورة 1789 في فرنسا، أو ثورة 1917 في روسيا (ثورة شعب ضد حاكم، ثورة طبقات ضد طبقات، في إطار مجتمع واحد)، أو من نوع ثورات أوائل القرن التاسع عشر في أمريكا اللاتينية ضد الحكم الأجنبي الإسباني، أو ثورة 1954 ـ 1962 في الجزائر ضد الحكم الأجنبي الفرنسي، أو على ظاهرة يتشابك فيها النموذجان: الوطني ـ القومي ـ ضد الأجنبي، والاجتماعي ـ الطبقي ـ الداخلي. وبالحقيقة أكثر ثورات هذا العصر فيها هذا «الاختلاط» .

من أي نوع هي «الثورة الفلسطينية»؟.

قد تقولون: بالضبط، إنها من النوع المختلط!

ونحن نقول: النوع الأول، والنوع الثاني، والنوع المختلط، لها كلها قاسم مشترك، كل ثورات التاريخ (اجتماعية، قومية، فلاحية، بروليتارية، برجوازية، قديمة، حديثة، كبيرة، صغيرة، ناجحة، فاشلة، مختلطة، طاهرة) لها قاسم مشترك. وهذا القاسم المشترك تتميز عنه الثورة الفلسطينية. تنفرد «الثورة الفلسطينية» بكونها تتميز عن جميع الثورات بشيء ما، علينا أن نحدده: ثورة مصر ضد الفراعنة في أواخر عهد الإمبراطورية القديمة، ثورة عبيد سبارتاكوس، ثورة جان هوس، الثورات الفلاحية في تاريخ الصين، ثورات القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثورة الإسبان ضد نابليون، ثورة أمريكا اللاتينية ضد الإسبان، ثورات 1830 و1848 و1871 في أوروبا، ثورات 1905 و1917 في روسيا، الثورات الدستورية في إيران وتركيا، ثورات العراق وسوريا والمغرب ومصر ضد الإنكليز والفرنسيين في 1919 ـ 1927، ثورة فييتنام، ثورة أندونيسيا، ثورة كوبا، ثورة الملايو أو لاوس أو موزامبيق… في كل هذه الثورات، نجد إما صراعاً داخل مجتمع واحد أو كفاحاً ضد محتل أجنبي، أو الأمرين معاً، ولكن دائماً في الحالات الثلاث: الثائرون، أو المرشحون للثورة هم أكثرية السكان في الأرض، أكثرية المجتمع، أكثرية الدولة، الخ… بينما في فلسطين الأمر مختلف جوهرياً، وفي «فلسطين المحتلة» سابقاً، في إسرائيل قبل حزيران/يونيو 1967، المرشحون للثورة هم أقلية صغيرة من السكان [كان العرب، يومئذ، يشكلون 35٪ من السكان]. وأعداء «الثورة» ليسوا عساكر محتلين، أو طبقات محددة هي جزء من مجتمع وحسب، بل دولة/مجتمع، أو مجتمع/دولة، كيان اجتماعي ـ سياسي بالكامل.

والمقاومة الفلسطينية لا يمكن ((على صعيد النظرية، إذا كانت النظرية شيئاً ما له قيمة، إذا كانت دليلاً للعمل، لعمل الكفاح المسلح بالذات، ولو بأصغر مقدار )) إلا أن تنطلق من الواقع العربي الحقيقي، واقع الطبقات والدول والأقطار والجيوش والخطوط العملية والأفعال التي ليست الألفاظ، من الواقع العالمي، من الواقع الفلسطيني، وأخيراً وليس في المقام الأخير، الواقع الإسرائيلي، الموضوع ـ العدو المباشر.

هل من الواجب إذن أن نُسقط تعبير «الثورة الفلسطينية» من عداد المصطلحات؟ كلا. ولكن من الواجب، عندما نكون قيد التفكير السياسي، قيد التنظير لحركة المقاومة، «للثورة الفلسطينية» ـ وليس في قرض الشعر أو إطلاق |الشعارات» ـ عندما نكون قيد «النظرية» وفي معارضة العفوية، من الواجب أن لا نستخدم هذا المصطلح دون أن نتبعه فوراً بتسجيل فردية الثورة، طابعها الفرد، الذي يميزها عن جميع الثورات الأخرى المعروفة، القديمة والحديثة، الوطنية والاجتماعية والمختلطة، الفلاحية والبرجوازية والبروليتارية والمختلطة، التي نجحت والتي لم تنجح، التي حدثت والتي لم تحدث (التي بقيت في حيز الإمكان ولم تنتقل إلى حيز الفعل). حين نسجل فوراً هذه الفردية، هذه الوحدانية، نعصم أنفسنا من عملية السحب الاستنتاجي، من عملية استنباط تكتيك ومستقبل الحركة من قوانين ما عامة لنموذج ثوري عام، أياً كان (سواء كان وطنياً ـ عاماً، أو اجتماعياً ـ عاماً، أو مختلطاً ـ عاماً)، وإلا فسحنا المجال لهذا السحب الاستنتاجي القادر على أن يحوّل كل حقيقة ـ كل حقيقة تتثبت وتظهر في تجارب الثورات ـ إلى غلطة وأكذوبة (…)

في تلمّسها لهذا الموضوع ـ العدو المباشر، ولقواها الحاضرة والمقبلة، ترتكب حماقة بالغة وقاتلة إذا جعلت الألفاظ تركب الفكر، إذا استنتجت «استراتيجية الثورة الفلسطينية» من لفظ «الثورة الفلسطينية»، من مقولة «الثورة» ونموذج «الثورة» العام، إذا «سحبت» على حالها فييتنام أو كوبا أو حتى الجزائر، إذا استسلمت لآراء الناصحين، الفاهمين لكوبا وبوليفيا والبرازيل، البعيدين عن فلسطين، إذا تلهت بلعبة الألفاظ التي تسمي إسرائيل «الرأسمالية اليهودية وأداتها القمعية»، إذا نسيت أن لعبة الألفاظ ليست للثوريين، وبالأحرى ليست للثوريين المحاربين»

الياس مرقص /”نقد الفكر المقاوم :عفوية النظرية في العمل الفدائي”1970.

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *