ملاحظات بعد مرور سنة على طوفان الأقصى (2/2)
في الجزء الأوّل من هذه المعالجة، توسّعنا في بحث جوانب عينيّة في السياق الإسرائيليّ لتأثير طوفان الأقصى، وبعده حرب الإبادة الإجراميّة الّتي تشنّها إسرائيل على غزّة والضفّة، وحاليًّا على لبنان. هذه الحرب الّتي أسماها نتنياهو بأثر رجعيّ حرب النهوض، بدلًا من اسمها الأوّل “حرب السيوف الحديديّة”، في محاولة لتعزيز الفكرة الكاذبة أنّها حرب وجوديّة لإسرائيل من ناحية، ولتمويه مسؤوليّته عن فشل كلّ المنظومة الدولاتيّة الإسرائيليّة في السابع من أكتوبر 2023. في هذا الجزء سنعالج جوانب وسياقات تأثير عمليّة طوفان الأقصى على المجتمع، أو بالأصحّ على المجتمعات الفلسطينيّة، وعلى القضيّة الفلسطينيّة والوضع العربيّ بشكل عامّ، ومآلات هذا التأثير لتحديد التغييرات المطلوبة والمنشودة، بعد مضيّ أكثر من سنة على طوفان الأقصى، ونتائج حرب إسرائيل الإجراميّة الكارثيّة.
ملاحظات بعد مرور سنة على طوفان الأقصى (2/2)
لنبدأ بذكر وتعريف النتائج والظواهر العامّة الّتي نتجت عن طوفان الأقصى، وما أعقبه طيلة ما ينيف عن سنة كاملة من الحرب والقتل والدمار والإبادة، وما سيكون له من تأثير على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة. ولا يهمّنا هنا فيما إذا كانت هذه النتائج قد تطوّرت وتبلورت بتخطيط مسبق، وبإرادة وسعي المبادر لعمليّة الطوفان، أو أنّها تطوّرت نتيجة العوامل الموضوعيّة الموجودة والمستجدّة والمتطوّرة خلال الوقت الّذي امتدّ لأكثر من سنة، بفضل الصمود الأسطوريّ للمقاومين.
1. عودة القضيّة الفلسطينيّة بكلّ قوّة، كونها قضيّة عادلة لشعب مستعمر ومهجّر ومسلوب الحرّيّة والعدالة، لتتصدّر الأجندة العالميّة في كافّة المحافل والمؤسّسات الدوليّة، بعد أن عانت من غياب وتغييب لسنوات طويلة. وبدا فيها وكأنّ إسرائيل نجحت في تجميد وتقزيم القضيّة، بعد أن نجحت من خلال اتّفاقيّة أوسلو في تطبيع حالة الاحتلال، والقضاء على المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، واستبداله بمشروع سلطة مجزّأة بدون سيادة، ونشوء طبقة من النخب المستفيدة والمستكينة للوضع القائم، وتشبه دولة تحت الاحتلال الّذي تتحكّم فيه إسرائيل بكلّ شيء. لسان حال هؤلاء يقول إنّ المهمّ أن نعيش ونضمن لقمة العيش، وهكذا نصمد. إن كنّا نتفهّم أن يكون هذا واقع حال السواد الأعظم من الشعب الواقع تحت الاحتلال، فلا نتفهّم أبدًا أن تكون هذه هي أيضًا نفسيّة النخب والفصائل والقيادات.
2. كادت المقولة الاستعماريّة الشهيرة “السلام مقابل السلام” أن تتحقّق مع ازدياد وتوسّع عمليّات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربيّة، طبقًا لاتّفاقيّات أبراهام الّتي فرضتها الولايات المتّحدة تحت ترامب، لخلق واقع جديد في الشرق الأوسط. لا خلاف أنّ طوفان الأقصى سحب البساط من تحت كلّ ذلك، وأعاد فلسطين والقضيّة الفلسطينيّة إلى الموقع الّذي تستحقّه كقضيّة تحرّر وطنيّ لم يتحقّق بعد ٧٦ عامًا على النكبة.
3. أيّدت الغالبيّة الساحقة للشعب الفلسطينيّ هذه العمليّة في بدايتها خصوصًا، ولكن حتّى الآن، ورغم التراجع التدريجيّ المفهوم في التأييد الشعبيّ إزاء الدمار الهائل والإبادة الجماعيّة للمدنيّين في قطاع غزّة، لا تزال غالبيّة كبيرة لمن يؤيّد ويوافق على أنّ إطلاق عمليّة طوفان الأقصى كان عملًا ضروريًّا ومستحقًّا، ولا ينتقد حماس على القيام به، وثمّة أغلبيّة أكبر ترى أنّ الكفاح المسلّح هو الوسيلة الفضلى لمقاومة الاحتلال لتحرير فلسطين.
من الطبيعيّ أنّ نسبة التأييد لهجوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ تقلّصت مع الوقت، ومع تفاقم الثمن الهائل الّذي يدفعه المدنيّون خاصّة. (انظر/ي نتائج استطلاع الرأي الّذي أجراه المركز الفلسطينيّ للبحوث السياسيّة والمسحيّة خلال شهري أيّار وحزيران ٢٠٢٤، في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، حيث هبطت نسبة التأييد لعمليّة طوفان الأقصى في غزّة لأوّل مرّة إلى ما دون ال ٥٠٪). الحقيقة الواضحة والثابتة تاريخيًّا أنّ كلّ عمل مقاوم للاحتلال، مهما كان ثمنه، يلقى التأييد والتعاطف الشعبيّ النابع من الفطرة الوطنيّة الصافية الموجودة لدى كلّ شعب للتحرّر ونيل الحقّ في تقرير مصيره، ولاسترداد الكرامة وعزّة النفس الّتي تداس يوميًّا من قبل جنود هذا الاحتلال الجاثم على صدور الناس.
4. استثارت المقاومة والقضيّة الفلسطينيّة تعاطفًا وتأييدًا منقطع النظير وغير مسبوق، إذ خرج عشرات الملايين في مختلف المدن في العالم كلّ أسبوع للتظاهر ضدّ الحرب الإجراميّة والإبادة وتأييدًا للحقّ الفلسطينيّ، آلاف المؤسّسات المدنيّة والحركات الشعبيّة في كلّ دول العالم أصبحت حليفة حقيقيّة للشعب الفلسطينيّ، وأصبحت فاعلة على مدار الساعة، ومناهضة للحرب والإبادة الجماعيّة ومؤيّدة للحقّ الفلسطينيّ. هذا التأييد الجارف والمستمرّ يجب ألّا يذهب هباء، وإنّما يجب أن نضمن استمراره وتصاعده، وأن يأخذ شكلًا ممنهجًا في الضغط على الحكومات والمؤسّسات الدوليّة. ويحوّل موضوع فرض العقوبات والمقاطعة إلى مطلب شامل ودائم. في هذا المضمار، بوسع الجاليات الفلسطينيّة والعربيّة والإسلاميّة لعب دور هامّ كما فعلت حتّى الآن بتقوية التنسيق وعلاقات التعاون والتحالف مع الحراكات والجمعيّات والاتّحادات المختلفة في كلّ الدول لضمان أكبر تأثير على سياسات هذه الدول.
5. هذا الصعود المبهر في تأييد فلسطين، ترافق مع تقزيم وتهميش للدعاية الصهيونيّة وكسر غير مسبوق، ولا يمكن ترميمه لمكانة إسرائيل كدولة بين الأمم، فقد فقدت الكثير من شرعيّتها حين داست بهمجيّة ليس لها مثيل على أبسط حقوق الإنسان، وقيامها بكلّ ما تقتضيه سياسة الإبادة والتهجير، وانكشفت عنصريّة المجتمع الإسرائيليّ وتطرّفه لدرجة الفاشيّة بوقوفه مع الجرائم ودعمه لها بدون أيّ معارضة تذكر. لقد استنفذت إسرائيل والحركة الصهيونيّة حتّى النهاية لعب دور الضحيّة، واستثمار النازيّة والمحرقة لكي تنال دائمًا تعاطف وتفهّم المجتمع الدوليّ حتّى لجرائمها في الاستيطان، واستمرار الضمّ والاحتلال والحصار. يبدو أنّ هذه البطاقة انتهى تاريخها فعلًا، مع أنّ شرّ البليّة ما يضحك، حيث حتّى في أحداث أمستردام الّتي أثارها ألوف مؤيّدي فريق كرة القدم مكابي تلّ أبيب، وهم شِلَل من عصابات الزعران العنصريّين الإرهابيّين المعروفين لكلّ إسرائيليّ، بمدى عنفهم في الملاعب وكرههم لأجانب، وخاصّة للإسلام والمسلمين، فقد فشلت الدعاية الصهيونيّة في تحويلها إلى أحداث شغب ضدّ اليهود من منطلقات لاساميّة.
6. جاء طوفان الأقصى في واقع فلسطينيّ مرير من الانقسام والتشظّي وغياب مشروع وطنيّ موحّد للتحرّر من نير الاحتلال وتفكيك نظام الفصل العنصريّ، واندثار شبه كامل لوجود القضيّة الفلسطينيّة في الساحة والمحافل الدوليّة، وغياب استراتيجيّة عمل ونضال تمثّلت في خطاب الرئيس محمود عبّاس الأخير في الأمم المتّحدة، وتوجّهه للجمعيّة العامّة لنداء استغاثة واستجداء (يا ناس يا عالم احمونا منوكل قتل كلّ يوم احمونا). نداء كهذا يجب ألّا يصدر عن زعيم شعب عريق صاحب ثقافة وعلم وعزّة نفس وأمجاد كالشعب الفلسطينيّ، والّذي ثار ضدّ الاستعمار البريطانيّ عام 1936، وأعلن أطول إضراب وعصيان مدنيّ في تاريخ الدول المستعمرة، وثار ضدّ واقع النكبة واللجوء منذ 76 عامًا، ولا يزال يتكبّد في هذه المسيرة مئات آلاف الشهداء، ومع الأسف، هناك سلطة فاقدة للشرعيّة الدستوريّة أو الشرعيّة الكفاحيّة، وهذا يمثّل ربّما الدرك الأسفل الّذي وصلت إليه قضيّة فلسطين.
7. في بوتقة حرب الإبادة الإجراميّة الّتي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة، لا يتبدّى فقط الواقع الفلسطينيّ المأزوم والمأساويّ، وإنّما انكشف الواقع العربيّ العامّ في عوراته كما لم ينكشف من قبل. وأقصد ليس فقط واقع الأنظمة العربيّة المتراوحة بين أنظمة عميلة وحليفة لإسرائيل وأميركا، أو دكتاتوريّات فاسدة، وأنظمة لا تزال في الحكم بالحديد والنار، وحروب أهليّة تأكل الأخضر واليابس، وإنّما واقع الشعوب العربيّة الّتي لم يكن مستوى تضامنها وخروجها للشوارع بالمستوى المطلوب، ويستثنى من ذلك اليمن وربّما الجزائر. صحيح أنّ فلسطين قضيّة العرب الأولى، وتسكن قلوبهم ووجدانهم، ولكنّ مآسي الوضع العربيّ من حروب أهليّة وصراعات دمويّة ولجوء الملايين سواء داخل أوطانهم أو لدول مجاورة، ودفع المبالغ الطائلة للوصول إلى أوروبا، لا تبقي للكثيرين أيّ إمكانيّة للتضامن مع فلسطين، ولكنّ التجربة التاريخيّة تشير إلى أن تراكم النقمة على الأنظمة الخائنة والمتآمرة، سيطيح بها مهما سعت لنيل الحماية من إسرائيل وأميركا.
السؤال المركزيّ الّذي نواجهه… ماذا بعد؟
لا نطمح هنا، ولا يهمّنا أن نسهب في تحليل وتشخيص المرحلة القادمة وتأثير انتخاب ترامب أو الردّ الإيرانيّ وما إلى ذلك من متغيّرات، فهذا ما سيتناوله الكثيرون خلال الأيّام والأسابيع المقبلة، وسنقرأ اجتهادات مختلفة، وأحيانًا متناقضة، والكثير من اللغو، وبدون التقليل من أهمّيّة تشخيص المرحلة وتحليل مختلف العوامل المحلّيّة والإقليميّة، فإنّ تأثيرها في المدى القصير على الواقع يؤول إلى الصفر، أريد أن نناقش ماذا بعدُ فلسطينيًّا؟ فهذا برأيي هو العامل المركزيّ والأهمّ، والّذي لدينا تأثير مباشر عليه نحن الفلسطينيّين، وليس بحاجة إلى أيّ تدخّل خارجيّ من أيّ نوع، وليس بحاجة إلى مؤتمرات قمّة ولا مجلس أمن وأمم متّحدة. أوّلًا وقبل كلّ شيء لماذا لا يتمّ تحقيق مصالحة، ولو بالحدّ الأدنى بين حماس وفتح، والاتّفاق على تشكيل حكومة وفاق وطنيّ، تتحدّث باسم الشعب الفلسطينيّ كلّه، وتوحّد قطاع غزّة مع الضفّة الغربيّة والقدس، وتكون العنوان لأيّ مفاوضات ولأيّ ترتيبات بعد وقف الحرب وإعادة الإعمار؟. يوجد إجماع فلسطينيّ كامل حول هذا الموضوع، كيف إذًا من الممكن أن يبقى وضع الانقسام كما هو، بينما بوسع المصالحة أن تقلّب الطاولة رأسًا على عقب، وأن تعطي الطرف الفلسطينيّ أوراق قوّة عديدة في كافّة الميادين. كيف من الممكن أن نقبل استمرار هذه الوضع المخزي، بينما يجوع مئات الآلاف في شماليّ القطاع، ويتعرّضون للقتل والإبادة اليوميّة. أليس من الأجدر أن نوجّه كلّ ما نستطيعه من طاقات للضغط على الفصائل والقوى السياسيّة الفلسطينيّة؟ خاصّة قيادة فتح، بمعنى قيادة السلطة الوطنيّة في رام اللّه، لكي تقبل فورًا بتشكيل حكومة الوحدة الوطنيّة، وفي حين يجري الاتّفاق على تشكيل حكومة مهنيّين (تكنوقراط)، يمكن تشكيل قيادة موحّدة تشكّل المرجعيّة للحكومة، ريثما يتمّ إعادة بناء منظّمة التحرير وانتخاب مؤسّساتها.
المبادرة لعقد مؤتمر وطنيّ شامل، والّتي انطلقت بتوقيع أكثر من 1700 شخصيّة فلسطينيّة، هي مبادرة تاريخيّة بمقدورها أن تغيّر المشهد السياسيّ الفلسطينيّ تغييرًا استراتيجيًّا، ولكن كما يتّضح فإنّها تحتاج إلى وقت لتنفيذها على أرض الواقع.
مواصلة الجهود لعقد المؤتمر الوطنيّ لا تمنع فعاليّات ونشاطات سياسيّة فوريّة، خاصّة في الضفّة الغربيّة بمشاركة من فلسطينيّي الداخل، من أجل الدفع باتّجاه المصالحة، وهي ليست بالوعظ والتبشير (كما أفعل في هذا المقال) ولا بالتشاطر في تسجيل المواقف والتسابق في إثبات أنّ عمليّة طوفان الأقصى كانت خطأ فظيعًا تتحمّل مسؤوليّته حماس، وإنّما واجب الساعة الّذي لا يحتمل أيّ تأجيل للقيام بحراك شعبيّ جماهيريّ لتغيير حالة الانقسام الّتي أصبحت بمثابة خنجر في خاصرة القضيّة والوطن. “الشعب يريد من القيادة التوحيد”. لماذا لا تجري اعتصامات وإضرابات جلوس وخيام اعتصام وصولًا إلى الإضراب عن الطعام في المقاطعة في رام اللّه ومدن أخرى. لدينا الكثير ممّا نقوم به فلسطينيًّا في الميدان، وأقصد الميدان السياسيّ، وهو المقرّر أوّلًا وأخيرًا.
عن عرب48