ملاحظات أولية على مقال” الطوفان وما بعده “

أتيح لي بالصدفة الاطلاع على مقال للأستاذ مهند عبد الحميد نشره في صحيفة الأيام الفلسطينية بتاريخ 5/11/2024، وافاني به صديق كنت قد أرسلت له مقالي المعنون “استحضار التاريخ لفهم حاضر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واستشراف مستقبله وسبل حله» في 2/11/2024 والمتاح على موقعي الإلكتروني ghaniamalhees.com  ومواقع  عدة / الملتقى الفلسطيني، ومسارات، وساحة التحرير، وبوابة الهدف الإخبارية/ وبعض مواقع التواصل الاجتماعي. 

وقد تناول الأستاذ مهند مقالي ومقال آخر للأستاذ منير شفيق – كان قد نشره قبل شهرفي 8/10/2024، ولم يتح لي الاطلاع عليه بعد. واتهم كلانا بالانفصال عن الواقع وتجاهل “أن الشعب الفلسطيني بدأ يخسر وجوده في الحرب التي تريدونها وجودية وحاسمة”. وخلص إلى استنتاج ملفت يأخذ علينا نحن “العلمانيين” وفقا لتعبيره. توصيفنا للصراع الفلسطيني مع الكيان الصهيوني بأنه صراع وجودي. والبناء على ذلك باستبعاد إمكانية التعايش معه قبل هزيمة العقيدة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية العنصرية القائمة على التفوق اليهودي، والحق الحصري لليهود في فلسطين بوعد إلهي لا يخضع للتفاوض، ولا يقبل الاحتكام إلى القوانين الوضعية التي ارتضاها بني البشر للتعايش فيما بينهم على كوكب الارض. والتي باعتقادي لا تقتصر كما يقول في مقاله على عقيدة اليمين القومي والديني، الذي يحكم سيطرته حاليا على القرار في المستعمرة الصهيونية. وإنما تشكل جوهرالعقيدة الصهيونية بشقيها العلماني والديني. كما تثبت الوقائع التاريخية التي تناولها مقالي بإسهاب. وشكلت أساس المشروع الاستعماري الاستيطاني الغربي الصهيوني العنصري. منذ إدراجه في إطار المشروع الاستعماري الغربي العام لغزو المنطقة العربية- الإسلامية في نهاية القرن الثامن عشر. وعرض المقال مراحل تطوره ومضامين الوثائق ذات العلاقة، وجميعها متاح للراغبين على الشبكة العنكبوتية.

ولم يكتف الاستاذ مهند بالتشكيك بصحة توصيف طبيعة الصراع مع النظام الصهيونى باعتباره صراع وجودي، وما ينجم عن ذلك “باستبعادي بالمطلق لإمكانية الحل والتسوية السياسية، وإن وجدت التسوية فهي قد تكون لفترة زمنية محددة” وهو في ذلك دقيق.

لن أتوقف عند الإيحاءات الملتبسة التي تضمنها مقال الاستاذ مهند بالخلط بين ما ينسبه لحركة حماس، وبين فهمي لطوفان الأقصى. فالمقالان متاحان للراغبين في التدقيق.

وسأقصر ملاحطاتي على الجوانب الفكرية التي تتصل بالثوابت والمنطلقات والحقائق الثابتة. وتتعدى الاختلاف في الرأي حول المناهج والأساليب والوسائل.

يقفز الاستاذ مهند في مقاله إلى اتهام لافت بالمطابقة بين المنطلقات الفكرية التي ارتكزت عليها. وبين المنطلقات التي ارتكزعليها التوظيف السياسي للدين اليهودي بعد أن سطت عليه الحركة الاستعمارية الغربية الصهيونية العنصرية واحتكرت حق تمثيله. والادعاء بتماثل ” أساس البناء الفكري السياسي للصراع، وهو موجود في الخندق الآخر والمعبر عنه في برنامج حكومة نتنياهو – بن غفير وفي قانون القومية الذي يتعامل مع أرض فلسطين التاريخية – أرض ميعاد وهبها الله لليهود – وهي حق حصري لليهود دون سواهم”. 

وأنا هنا أتحدث بالأصالة عن نفسي فقط، وليس نيابة عن الأستاذ منير شفيق، الذي قد يرد إذا قدر له الاطلاع على مقال الأستاذ مهند عبد الحميد. وأبدأ بالاستفسار عن المنطلقات التي ارتكز عليها الاستاذ مهند في مقاله، وتتجاوز مسألة الاختلاف في الرأي. ولا يساورني أي شك بأنه يتفق معي بأن الاختلاف في الرأي يثري الحوار ويطور الوعي. حيث الهدف الرئيس للنقاش إثراءه بالحجج والبراهين لبلورة توافق عام نحتاجه فلسطينيا لفهم الواقع الدامي، الناجم عن إستئناف حرب الإبادة الجماعية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن، والمحتدمة حلقتها الأخيرة في قطاع غزة وعلى امتداد فلسطين الانتدابية للعام الثاني على التوالي. وأعتقد شخصيا بتعذر إمكانية التعامل مع الحرب الجارية خارج السياق التاريخي للصراع الفلسطيني مع المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري.

لكن اللافت في استنتاجات الأستاذ مهند مساواته بين:

  • الحق الوطني والتاريخي الثابت للشعب الفلسطيني في فلسطين “الانتدابية ” وهي بالمناسبة ليست ” التاريخية” (بعد أن وافقت عصبة الأمم عام 1923 على طلب سلطات الانتداب البريطاني بتعليق تنفيذ وعد بلفور في شرق الأردن وفصل انتدابه عن فلسطين. واقتصار تنفيذه على فلسطين الانتدابية الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وأغلب الظن لعدم توفر الظروف الموضوعية / كبر المساحة المستهدفة وثقل الوجود السكاني للشعب العربي الأصلاني فيها /. وللاعتبارات الذاتية /الخاصة بنقص الديموغرافيا اليهودية الممكن استقدامها/ لاستيطان فلسطين وشرق الأردن معا خلال الفترة الزمنية المحددة لإقامة الكيان الصهيونى.
  • وبين الادعاء الصهيوني بحق اليهود الحصري في أرض إسرائيل (المناقض لتعاليم الدين اليهودي الذي يرى بدولة إسرائيل خطيئة تتعارض مع النصوص التوراتية التي تؤكد أن خلاص اليهود سيكون مع عودة المسيح). وبالمناسبة فالادعاء الصهيونى بالحق التوراتي الذي يشير اليه الأستاذ مهند في مقاله لا يقتصرعلى فلسطين الانتدابية التي يسميها تجاوزا بالتاريخية. وإنما يمتد وفقا للرؤية الاستعمارية الصهيونية، كما تشير الوثائق، وتظهرها رمزية علم دولة إسرائيل المستهدف إقامتها منذ إنشاء الحركة الصهيونية، وخرائط نتانياهو وسموتريتش. وجميعها تشير إلى المساحة الواقعة بين نهري الفرات والنيل / فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وأجزاء من السعودية والعراق ومصر/. ووفقا للعلماني ديفيد بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل في تعريفه لحدودها المرنة، قابليتها للتمدد وفقا لموازين القوى وما يمكن أن يصل إليه الجيش الصهيوني.

ولا أحسب الأستاذ مهند يخالفني الرأي بأن الحاضرالذي نحن بصدد فهمه ليس سوى حلقة وسطى في سلسلة الزمن بين الماضي والمستقبل. وبأن حقائقه القائمة حاليا لم تكن قدرا محتوما. وأنها تشكلت نتيجة لتفاعل منظومة متكاملة، يتوجب علينا التبصر والتدقيق في بنيتها. والبحث في أسبابِ وعوامل وظروف تشكلها. والتعرف على مكنوناتها الفكرية. وتركيبة القوى الرئيسية فيها. وتبين أهدافها وتشابكات مصالحها. وفهم صيغ وآليات تفاعلها داخليا وخارجيا. ذلك أن تغييرالواقع المريرالقائم الذي يسعى له كلانا. يستدعي حكما التعرف على طرق ومستلزمات تفكيك المنظومة التي شكلت وقائعه. وتحديد سبل ووسائل إعادة تركيب منظومة جديدة مؤهلة لتغييره، بخلق حقائق جديدة مستهدفة، وفتح الآفاق للتأسيس لمستقبل فلسطيني مغاير.

ويبدو أنه بقفزه مباشرة لقرار تقسيم فلسطين رقم 181 لعام 1947. والانطلاق منه كأساس للبناء عليه في حل وتسوية الصراع بمهادنة الحركة الصهيونية، وإمكانية اقتسام الوطن الفلسطيني معها، بقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، ودون التدقيق في خلفيات صدور القرار، الذي ارتكز على توصيات لجنة بيل التي ابتعثتها الحكومة البريطانية بعد اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى في نيسان/ أبريل/ 1936. وتواصلت حتى 1939) وضمنت تقريرها الذي نشر في 8/7/1937 اقتراحا بإنشاء ثلاثة أقاليم في فلسطين: إقليم تحت الانتداب البريطاني يضم القدس وبيت لحم وممرا إلى يافا على البحر المتوسط. ودولة يهودية في الجليل والجزء الأكبر من السواحل الغربية. وأن يتحد باقي فلسطين مع شرق الأردن ويكونان دولة عربية. وهو المبدأ الذي ارتكز عليه لاحقا قرار التقسيم رقم 181 عام 1947 بعد الإخفاق في تغيير الواقع الديموغرافي جذريا في فلسطين لنحو سبعة عقود متصلة (1881-1947). فلم تزد نسبة المستوطنين اليهود في فلسطين الانتدابية عن 31% من اجمالي سكانها. ورغم وضوح مقاصد صدورالقرار: بتشريع إنشاء إسرائيل، ثم منع قيام الدولة الفلسطينية، ليس فقط على الأجزاء التي خصصها القرار للدولة الفلسطينية، وإنما أيضا على الأراضي الفلسطينية التي بقيت خارج الاحتلال الصهيوني قرابة عقدين – بعد توقف الحرب عام 1948- قبل ان يتم استكمال احتلالها عام 1967، مع أراض عربية أخرى.  

وعليه فان الاستاذ مهند يغفل أن الواقع الفلسطيني والعربي المرير القائم حاليا ما هو إلا نتاج تراكمي للقصور والتقصير الفلسطيني خصوصا، والعربي، والتقدمي العالمي عموما، في إدراك طبيعة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري وأهدافه وتشابكاته المحلية، والعربية، والإقليمية، والدولية. والإخفاق، بسبب ذلك، على مدى أكثر من قرن، في بلورة مشروع نهضوي تحرري إنساني نقيض مؤهل لهزيمة الغزاة الاستعماريين الغربيين، الذين استباحوا العالم عموما، وبلادنا العربية من محيطها الى خليجها خصوصا. دون نفي فترات محدودة جرت فيها محاولات متواضعة ومحدودة في بعض الأقطار العربية للتمرد، سرعان ما تبعها نكوص الأنظمة. وبالرغم من سعي الشعوب العربية للانفكاك من التبعية للغرب، إلا أنه كان يتم إجهاض محاولاتها بالقوة القاهرة للقوى الاستعمارية الغربية والنخب السياسية المحلية والعربية والإقليمية المتغربة المرتبطة مصلحيا وتبعيا بالمراكز الاستعمارية. 

وأحسب الاستاذ مهند، يوافقني الرأي بأن أيا من الأقطار العربية ال 22 حاليا مستقلة أو تمتلك سيادة على أراضيها ومواردها. 

ولا أدري إن كان يتفق معي بأن السيطرة على فلسطين منذ فجر التاريخ كانت هدفا مركزيا لكل الامبراطوريات والقوى المتنفذة الساعية للهيمنة العالمية. وأن تاريخ فلسطين كان منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد محكوما، بموقعها الجيو استراتيجي في مركز العالم العربي- الإسلامي. الذي، بدوره، يتموضع في الموقع الجيوسياسي الأهم في مركز العالم. 

وأن تحررفلسطين -كما هو ثابت تاريخيا – يرتبط، فقط، بقدرة شعبها وشعوب الأمة العربية والإقليم على إحقاق حقوقهم الأساسية في العيش الحر الكريم وتقرير مصيرهم والسيادة في أوطانهم.

ولو راجع الاستاذ مهند عبد الحميد التاريخ قديمه وحديثه، لرأى أن كل الإمبراطوريات التي حكمت العالم سيطرت على فلسطين، بعد أن عبثوا بجوارها العربي (الفرس واليونانيون والرومان والبيزنطيون والسلاجقة والفرنجة / الصليبييون/ والفرنسيون والعثمانيون والبريطانيون الخ..). ولأدرك، أيضا، أنهم جميعا رحلوا- رغم تفوقهم الحاسم في موازين القوى. وباتوا أثرا عابرا في تاريخ فلسطين التي بقيت عصية على الزوال، وبقي شعبها العربي الفلسطيني عصيا على الفناء. 

وبالرغم من صحة ما ذهب إليه بأن التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري يسيطر حاليا على كامل فلسطين الانتدابية، وله وجود دولي وازن، وسطوة في عموم المنطقة والإقليم. ويتحكم بالقرار في كامل الوطن العربي من محيطه إلى خليجه (باستثناء محور المقاومة). إلا أن هزيمته ممكنة رغم التباين الهائل في موازين القوى. 

وتشككه بإمكانية هزيمة التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري التي أراها ممكنة. ويراها الاستاذ مهند متعذرة بسبب فائض القوة التدميرية التي يمتلكها التحالف. ودليلي على ما أقول شواهد التاريخ الإنساني منذ بدء تدوينه. ولا أجافي الحقيقة بالقول بأن طوفان الأقصى، تخطيطا وتنفيذا وتوقيتا، شكل المحاولة الأولى للتأسيس لعكس مسارالتاريخ الفلسطيني والعربي والإقليمي انطلاقا من مركز الصراع في فلسطين.

فقد استغرق التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري في التخطيط والإعداد لاستبدال إسرائيل بفلسطين واستبدال المستوطنين الأجانب اليهود بشعبها العربي الفلسطيني أكثر من قرنين. ووظف حربين كونيتين لإنجاز هذا الهدف. وقد توقف المقال عند أهم المراحل المفصلية التي مكنت من إقامة الكيان الصهيونى. وكان جليا- كما سبقت الإشارة- أن غياب رؤية فلسطينية وعربية نهضوية لمواجهة الهزائم المتتالية التي منيت بها بلادنا تباعا في شمال إفريقيا خلال القرن التاسع عشر. والهزيمة الكبرى التي تبعتها ومني بها المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى. والتي لم تصح منها الأمة بعد. وتوافق النظام الدولي ثنائي القطبية الذي أنشأته القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية- كل لأسبابه ومصالحه- على إنشاء الكيان الصهيونى في فلسطين. ومواصلة الفلسطينيين والعرب مواجهة الهزائم المتتابعة بردود الفعل، والتنازل بعد كل هزيمة عما سبق أن استحوذ عليه العدو، بالمطالبة بالعودة إلى ما كان قائما قبلها عله يكتفي. ما فتح شهيته للمزيد بتثبيت إنجازاته بالتدريج، والتقدم بثبات نحو بلوغ أهدافه الأساسية التي لم يحد عنها قيد أنملة.

وجاء طوفان الأقصى كأول مبادرة جسورة لعكس المسار وإعادة الصراع إلى جذوره. وإعادة طرح القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني للشعب الفلسطيني الأصلاني في مواجهة التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري. 

ونظرة عاجلة لما حققه طوفان الأقصى – رغم هول المجازر والدمار وارتفاع الكلفة البشرية والمادية غير المسبوقة وفقا لكل المقاييس – إنما تدلل على بداية التراجع الاستراتيجي للمشروع الاستعماري الاستيطاني الغربي الصهيوني العنصري على جميع الصعد: 

عسكريا: رغم عودة الجيش الاسرائيلي لقطاع غزة وجنوب لبنان، بدعم ومشاركة أمريكية وغربية غير مسبوقة في حجمها وإمكاناتها، وتواطؤ النظام الرسمي الفلسطيني/ باتهام المقاومة بتوفير الذريعة/ والنظام العربي الرسمي بدعم البعض وصمت البقية وامتناعهم عن الفعل المؤثر رغم توفر القدرة على وقف حرب الإبادة، لو وظفوا، فقط، إمكاناتهم السياسية والدبلوماسية والاقتصادية.

ومع ذلك لم يتمكن التحالف من تحقيق أي إنجاز سوى القتل والتدمير والتهجير. وهو ما كان يفعله على الدوام بالتجزئة منذ استحداث الكيان الصهيوني عام 1948. واعتقد أن الأستاذ مهند ملم – ربما أكثر مني، بالمجازرالصهيونية بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة العربية. ويعلم أن الكيان الصهيوني ماض في تنفيذ مشروعه الاستعماري الإجلائي- الإحلالي بدون ذريعة. وأنه لم يتوقف عن إبادة الشعب الفلسطيني وتدمير وطنه وتهجيره حتى اللحظة.  واعتقده يعلم، أيضا، أن قرية العراقيب الفلسطينية الواقعة في صحراء النقب شمال بئر السبع، داخل الأراضي المحتلة منذ العام 1948 التي أقيمت إسرائيل فوق أنقاضها إثر الهزيمة الكبرى (التي اصطلح على تسميتها بالنكبة عام 1948 لإضفاء سمة قدرية عليها، رغم وضوح المتسببين بها). وتمتد أراضيها على مساحة 1050 دونما فقط، ولم يمارس سكانها الكفاح المسلح، بل ولم يشفع لها أن بعضهم يخدمون بالجيش الإسرائيلي. فقد تعرضت العراقيب للهدم 227 مرة. وهي واحدة من 45 قرية عربية في النقب لا تعترف اسرائيل بها، وتعتزم هدمها جميعا وتهجير سكانها البالغ عددهم نحو 150 ألفا. وما يجري حاليا في 25 قرية منها، وتلقي سكانها الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية منذ فترة وجيزة إنذارا بالإخلاء، أكبر دليل على تعذّرإمكانية مهادنة النظام الصهيوني العنصري. الذي يواصل السعي لبلوغ أهدافه والافلات من العقاب على جرائم الإبادة والتطهيرالعرقي والتهجير. كما سبق وأفلت أربابه الأمريكيون والأوروبيون وما يزالون. 

 لقد تعذرعليّ، أيضا، تبين الأسس التي استند إليها بالقول بأن “المجتمع والمؤسسة الإسرائيلية لم يكونا موحدين على سياسة اليمين الديني القومي، نصف الإسرائيليين كانوا مع الحل الدولي سابقا، وثلث الإسرائيليين ما قبل طوفان الأقصى”(حل الدولتين) 

والغريب أن الأستاذ مهند عبد الحميد قد أغفل الوثائق التاريخية التي تناولها عشرات المؤرخين والكتاب الإسرائيليين واليهود (إيلان بابيه، وميكو بيلد، والبروفسور اليهودي الأمريكي نورمان فينكلشتاين المتخصص في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. بل وبعض المفاوضين الإسرائيلين أمثال دانييل ليفي، والصحفي جدعون ليفي) حول غياب حل الدولتين منذ بدأ المشروع الصهيوني وحتى اللحظة.

ومع ذلك، ما يزال الأستاذ مهند عبد الحميد يدعو له دون أن يبين أسباب استعصاء تنفيذه، رغم التوافق الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي عليه. ودون أن يقدم دليلا واحدا على إمكانية حل الصراعات مع المشاريع الاستعمارية الاستيطانية عبر تقاسم الوطن بين أصحابه الأصلانيين والغزاة المستوطنين. وما إذا كان هناك نموذج رابع أجهله لحل الصراعات مع المشاريع الاستعمارية الاستيطانية، بخلاف النماذج الثلاثة التي دونها التاريخ. والتي حلت إما: بانتصار حاسم للغزاة المستوطنين كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلاندا. أو بانتصار حاسم للسكان الأصلانيين كما حدث في فلسطين قبل أكثر من ثمانية قرون بهزيمة الاستيطان الإفرنجي/ الصليبي/، وكما حدث في الجزائر في مطلع ستينيات القرن الماضي.  أو بهزيمة النظام الاستعماري العنصري وتفكيك بناه والتوافق بين السكان الأصلانيين والمستوطنين على العيش في دولة واحدة يتساوى جميع مواطنيها أمام القانون، كما حدث في جنوب إفريقيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

 وإذا استطاع الاستاذ مهند أن يقدم دليلا مقنعا على وجود نموذج رابع يتقاسم الوطن بين أصحابه الأصلانيين والغزاة المستوطنين، فسأعتذر له وأعترف بخطئي على الملأ. وأنضم إليه وباقي الداعين لحل الدولتين في المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل وفقا للقرار الدولي لتقسيم فلسطين رقم 181. الذي أضفى الشرعية على الدولة الإسرائيلية. وارتكز عليه الأستاذ مهند لإثبات أهلية تقاسم فلسطين عبر حل الدولتين لانهاء الصراع.

وحتى ذلك الحين، يتعذرعلي القبول برؤيته لطوفان الأقصى باعتباره مقامرة غير محسوبة، والتشكيك بقولي بأن طوفان الأقصى يشكل مرحلة مفصلية في مسار الصراع وقد هز أساسات المستعمرة الصهيونية، حيث: 

  • لم تعد إسرائيل منذ الطوفان ملاذا آمنا لمستوطنيها اليهود كما كانت على مدى 75 عاما.
  • ولم تعد مركزا جذب ليهود العالم للاستيطان: أمنيا، وسياسيا، واقتصاديا، وأخلاقيا.
  • وتنامت الشكوك اليهودية والإسرائيلية بجدوى الصهيونية وإسرائيل في حل المسألة اليهودية. ما يؤسس تعمقها لإنهاء التماهي بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل. وهي الخطوة المركزية في إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.
  • ولم تعد إسرائيل قادرة على خدمة المراكز الاستعمارية الغربية كما خطط لها، بخوض الحروب نيابة عنها لإدامة السيطرة الأمريكية والغربية على عموم المنطقة ونهب مواردها. بل أصبحت عبئا ثقيلا على تلك المراكز الاستعمارية. وباتت غير قادرة على البقاء في المنطقة بدون حماية الولايات المتحدة الأمريكية وعموم الغرب الاستعماري عسكريا، وأمنيا، وسياسيا، ودبلوماسيا، واقتصاديا الخ.
  • ولم تعد إسرائيل الضحية المظلومة المحاطة بالاعداء المتوحشين كما جرى الترويج عالميا على مدى عقود طويلة.
  • وفقدت الشرعية الدولية التي رافقت وبررت إنشاءها، بتصويرها كنتاج لكفاح تحرري مماثل لحركات التحرر والاستقلال التي نجحت في طرد الاستعمار الأجنبي المباشر بعد الحرب العالمية الثانية.
  • فتكشف للعالم أجمع أنها إستعماراستيطاني غربي عنصري إجلائي- إحلالي. وأعاد سلوكها الإجرامي الوحشي لأذهان شعوب العالم حروب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي قام بها الغرب الأوروبي وتأسس عليها العالم الحديث.
  • وعرى طوفان الأقصى الجوهر المادي اللاأخلاقي للحداثة الغربية

“اللاحضارة “. وكشف منظومتها القيمية والثقافية العنصرية الإجرامية.

وفرزالبشر إلى أعداء للإنسانية، وهم أقلية نيوليبرالية عنصرية معولمة. وأصدقاء للإنسانية وهم الأغلبية الساحقة من شعوب العالم من مختلف الأعراق والإثنيات والأجناس والألوان، والأديان، والطوائف، والمذاهب. فبدؤوا يعون الحقائق. وبالرغم من أن حراكهم ما يزال محدود التأثير لوقف حرب الإبادة حتى الآن. إلا أنه آخذ بالتجذر والتمدد، ويكفي متابعة ما أصاب المراكز الاستعمارية الغربية من تصدعات داخلية عميقة بدت جلية في الولايات المتحدة الامريكية أثناء الانتخابات الرئاسية، وعزلة خارجية / التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة مؤشرا/. 

  • وبمراجعة عاجلة للصحافة الاسرائيلية والأمريكية والغربية والعالمية، ومقالاتي السابقة، ومقالات العديد من الزملاء التي رصدت التحولات الجوهرية التي أحدثها طوفان الأقصى وتداعياته على الصعد كافة/ إسرائيليا ويهوديا وفلسطينيا وعربيا واقليميا وعالميا/. يؤكد ما ذهبت إليه من استنتاجات في ختام مقالي حول النصرالذي تتبدى مؤشراته. وقد لا يكتب لي وللأستاذ مهند المزيد من العمر لنشهده، حيث أعمار الشعوب أطول من أعمارالأفراد مهما طالت. لكنني على يقين بأن أبناءنا سيشهدونه في السنوات القريبة القادمة. 
  • وآخر ما أختم به مقالي بالتعقيب على الملاحظات التي أوردها الأستاذ مهند في مقاله. أن كلفة التحرير كانت على الدوام باهظة بسبب الفوارق الهائلة في موازين القوى بين المستعمر / بكسر الميم / والمستعمر / بالفتحة فوقها /. وأن الكلفة تتصاعد وتتضاعف كلما تم تأجيل التحرير.  

لقد دفع شعبنا الفلسطيني ثمنا باهظا على مدى أجياله المتعاقبة منذ تم استهداف فلسطين وشعبها بالاجتثاث من الجغرافيا، والديموغرافيا، والتاريخ، والمستقبل. وما يدفعه الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة والعالم من كلفة بشرية ومادية هائلة، لا تقارن بما يمكن أن تدفعه الأجيال القادمة لعقود طويلة إن استمرّ الكيان الصهيونى في توغله في بلادنا وعقولنا. 

لقد تحققت هزيمة الفاشية والنازية بكلفة هائلة، ولا اعتقد أنه كان يمكن لأحد المطالبة، آنذاك، بضرورة تفاديها في مواجهة ما تنطوي عليه من مخاطرتهدد الوجود الإنساني. 

وهزيمة الصهيونية العالمية ممكنة ومتاحة أكثرمن اي وقت مضى، بتضافر الجهود الإنسانية، التي تتعاظم بالصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، والتي ستلهم الملايين وستشعل فتيل الثورات على امتداد المنطقة والعالم.

      فقد أثبت التاريخ منذ بدء تدوينه انتصار الشعوب على الطغاة، وتفوق قوة الحق على حق القوة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *