مقدمة كتاب: “الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين”

صدر كتاب “الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين” للمؤرخ عبد القادر ياسين، عن مركز دراسات الوحدة العربية، في بيروت (25/11/2022)، ولإعطاء فكرة عامة عن الكتاب، نكتفي بنشر مقدمة الكتاب، هنا:

يتشبث الماضي بتلابيب الحاضر، ويتضافران لصنع المستقبل؛ فحلول المستقبل من حِكمة الماضي، كما يقولون؛ ومع ذلك، فثمة من يرفض الاستنارة بمصباح التاريخ، في سبيل اختراق الظلمة، التي تلف المستقبل. ما جعل الإلمام بالتاريخ عمومًا، وبالتاريخ الوطني على نحو خاص، مهمة مُلحَّة، على كل مواطن، يريد أن يلج باب السياسة، أوالثقافة،أن ينجزها .

لعل من فُضلة القول بأن التاريخ الوطني هو بمثابة هُوية، وانتماء للمواطن، والمناضل، في آن. وتاريخنا الوطني حافل بالتجارب، والخبرات، والدروس المستفادة، من الهزائم، قبل الانتصارات، كما أنه يغصُّ بقصص البطولات، التي تشحذ الهمم، وتؤكد بأن الهزائم ليست قدرنا.

عليه، يستحيل إطلاق صفة “مثقف”، أو”مناضل” على من لم يلم بتاريخ وطنه الصغير، إضافة إلى وطنه الكبير. وهل يمكن لإنسان أن يتنكر لكل ما أنجزته البشرية، عبر مئات آلاف السنين، ويبدأ من حيث بدأوا، لا من حيث انتهوا، ضاربًا عرض الحائط بكل ما ابتكروا، واخترعوا؟! فيمارس المعني حياته، وكأنه الإنسان الأول.

قبل ما يربو على ثلاثة عقود، أصدر أكاديمي بريطاني كتابه “عِلم التاريخ”1؛ وفي فصله السابع، حدَّد “فوائد التاريخ”. وفي رأيه، أن قراءة التاريخ تبني الأخلاق، وتُهدي الناس، وتوسِّع مداركهم، وتحثُّهم على النزاهة، وتخلق إنسانًا بعيد النظر، واسع الأُفق؛ إلى المتعة التي تسببها قراءة التاريخ؛ فهي رياضة للعقل، تُنشَط الفكر، وتُفتَقه، وتساعده، بطرق شتى؛ وتمد الإنسان بتصوُّر كامل متزن للعالم. لذا، لم يكن غريبًا أن يشدِّد الحكام المستبدون الرقابة على كُتب التاريخ، وحتى حظرها.

التاريخ مدرسة سياسية؛ فهو سياسة الماضي، بينما الصحافة تاريخ راهن، لأن كليْهما يحاول الوصول إلى البواعث المحرِّكة الخفيَّة، وراء ما للوقائع من حُجب مشكوك فيها. ولا مفر لكلٍ من السياسي، والمؤرخ من الاستنتاج من مواد مؤكدة، على الرغم من أن لا سبيل إلى التغلُّب عليها، من أن يصل السياسي، والمؤرخ إلى الحقيقة المطلقة.

لكيلا يفقد الإنسان الثروة الضخمة، المتجمعة  لديه من تجارب الماضي، وجب أن تنشأ له ذاكرة؛ وذاكرة الجنس البشري هي التاريخ؛ فبالتاريخ يتوافر للإنسان الشعور الذاتي، بما يجعله مسيطرًا على مستقبله؛ وبدون التاريخ، تستحيل على الإنسان تلك السيطرة، وبواسطته يستطيع التحكُّم في مصائره، وأن يمضي قُدمًا في طريق الوعي، والفلاح؛ فيخرج هذا الإنسان إلى الدنيا، و كأنه الإنسان الأول! يقول ديفيد هيوم: “إذا تأملنا قِصر حياة الإنسان، ومعرفتنا المحدودة بما يقع في زماننا، فلاشك أننا نشعر بأننا كنا نبقى أطفالاً في إدراكنا، لو لم يُقيَّض لنا هذا الاختراع، الذي يرجع بخبرتنا إلى شتى العصور الماضية، وإلى أقدم الأمم، ويجعلها تمدنا بأسباب التقدم في الحكمة، كما لو كانت تحت بصرنا، وسمعنا”. وقديمًا قال شاعر عربي:

مَن وعى التاريخ في صدره                  أضاف أعمارًا إلى عمره

ومَن لم يعِ التاريخ في صدره                 لم يدرِ حلو العيْش من مُرِّه

وهذا أمير الشعراء، أحمد شوقي، يحذِّرنا:

                   مَثَلُ القوم نسوا تاريخهم             كَلَقِيطٍ عَيَّ في الناس انتِسابًا

                   أو كمغلوبٍ على ذاكرةٍ              يشتكي من صِلة الماضي انقضابًا

إن دراسة التاريخ مدرسة لتعليم طريقة البحث العلمي؛ فهي تعلّمنا الدقة، والموضوعية، والتجرُّد . كما أن دراسة التاريخ تبعث فينا شعورًا بتعقُّد الظواهر، الاجتماعية والنفسية، وتقلُّبها.

إن دراسة التاريخ مهمة لنا، لأنها تُكسبنا مَلَكة عصيَّة: الاستدلال، بالأفعال الظاهرة، والبواعث، وما بطُن من الأفكار.

بيد أن التاريخ أكبر من مجرد مدرسة، نتعلم فيها السياسة. إنه – إضافة إلى ذلك – مستودع السوابق السياسية.

عندما ينضج الإنسان، تُهديه، وتحكمه تجاربه، التي تعيها ذاكرته، ومبادىء السلوك التي يستخدمها حكمه من التجارب المذكورة.

لا يتم تناول السياسة باعتبارها عِلمًا نظريًا مستقلاً عن تجارب التاريخ، وعِبَره. فالتاريخ يمد الناشط السياسي بأكثر من سوابق، تمت تجربتها، إنه يعطيه الأصول الواقعية للمشاكل الراهنة؛ فكل المشاكل الكبيرة الراهنة، سياسية كانت أو اجتماعية، تضرب بجذورها عميقًا في التاريخ.

***

لكن، كيف نقرأ تاريخنا، وبأي منهج ؟!

ثمة من تمسَّك بالتأثير الكبير لأنف كليوبترا على التاريخ (باسكالBlaise pascal)*، إلى من أكد بأن الرؤساء هم الذين يصنعون التاريخ، تمامًا كما تجرُّ

الأحصنة العربة (توماس كارليْل Thomas Carlyle)**. بينما المنهج الأخير يُفضي إلى إهمال مجتمع القُطر المعني، وشعبه. في حين أن الشعب هو من يُنتِج التاريخ، والحكام، والزعماء. فضلًا عن أن التاريخ ليس مجرد أحداث عشوائية. ناهيك عمن رأى في حماس ملك بريطانيا، هنري الرابع، للمذهب البروتستانتي، على حساب الفاتيكان، وبابا روما، حتى يتمكن الملك من تطليق زوجته، علَّه يُرزق بولي للعهد! فضلاً عمن زعموا أن طمع الملك نفسه في أملاك الكنيسة ببريطانيا هو السبب؛ وفي هذا كله تسطيح يضر بفهم الظاهرة البروتستانية، ويفصلها عن سياقها الاقتصادي- الاجتماعي- السياسي- الثقافي، بما جعل البرجوازية، البريطانية والألمانية، ترغبان في التخلص من القيود، التى كان يفرضها الفاتيكان، وبيعه أراضٍ في الجنة، بموجب “صكوك الغفران”، إلى “صكوك الحرمان” من الجنة، ضد كل من لا يرُوق للفاتيكان! ما دفع أحد الظرفاء إلى أن يطلب  من الفاتيكان بيعه أراضٍ في جهنم، فما كان من البابا إلا أن منح صاحبنا كل جهنم، مجانًا؛ فاتخذ الأخير من سلَّم الفاتيكان مقامًا له، وأخذ يرد كل الراغبين في شراء أرض بالجنة، مؤكدًا لهم بأنه احتكر مِلكية جهنم، ولن يسمح لأحد بالدخول إليها! وبذا، قطع صاحبنا رزق البابا من الصكوك إياها.    

أي أن جميع هؤلاء تجاهلوا كوْن الاقتصاد هو محرِّك التاريخ، بينما تقطر الحرب ذلك التاريخ؛ أما السياسة فهي التعبير المكثَّف عن الاقتصاد2.

معروف بأن عِلم التاريخ يختص بدراسة تطور المجتمع، الذي يتحدد بحركة قوى الإنتاج، والتغيير في علاقات الإنتاج، دون إغفال دور العلاقات السياسية، والفكرية. واعين – في الوقت نفسه – بأن التاريخ إنما يتجلَّى كصراع بين الطبقات؛ وكل صراع طبقي هو صراع سياسي.

التاريخ ليس مجرد رصّ للوقائع، والأحداث، كما أنه لا يُعيد نفسه، إلا مرتيْن، أُولاهما على شكل مأساة، والأخرى في صورة ملهاة. وإن كان صحيحًا أن سرد الوقائع يُوفِّر مادة خام للمؤرِّخ؛ وعليه، فقد قالوا إن الأخبار الصحافية هي تاريخ راهِن.

التاريخ لايُعيد نفسه – كما سبق وبيَّنا – فما من حادث يقع، إلا وهو يزيد في محيط كل حادث، يترتب عليه، بمقدار كونه عِلَّة في حدوثه؛ وبذلك يكون مجرد وقوع حادث ما، مرة، سورًا مانعًا من حدوثه، أبد الدهر، مرة أُخرى. الأمر نفسه، بالنسبة لحياة الفرد؛ فما من أحد يجد نفسه، مرتيْن، في موقف واحد، بالدقة. وليس في وسع إنسان ملاحظة أن علاقاته بأقرانه تجري، من حيث تتابع العلل، والمعلومات، على وتيرة واحدة.

علمًا بأن المعطيات العينية، كتغييرات تاريخية، من شأنها تحديد الانتظامات الموضوعية لهذه التغييرات. مع ملاحظة أن كل ظاهرة لا توجد في ذاتها، بل كحركة من مكوِّنات العملية التاريخية. ولا مفرمن دراسة كل ظاهرة في تطورها.

إن مهمة أي دراسة تاريخية تتمثل في اكتشاف الاتجاه الرئيسي (القانون)، وتتبُّع تأثيره على تنُّوع العملية التاريخية.

أما مفهوم التكوين الاقتصادي – الاجتماعي، فيشتمل على النسق بالغ الدقة للبنية الفوقية*.

***

غنيٌ عن القول بأن الدراسة التاريخية تتطلب جمع المواد من المصادر، والمراجع، ودراستها، وتحليلها، قبل تصنيفها، وإعادة تنظيم أحداث الماضي، مع ربط كل حدث بغيره من الأحداث المحيطة، وبعد إخضاع كل مرجع، للتمحيص الدقيق، قبل اعتماده.

إلى ذلك، يتطلب الأمر رصد التأثير المتبادل بين شتى الظواهر المتداولة، والمقارنة بينها، وتحديد أوجه الشبه، والاختلاف، فضلًا عن رصد خصائصها المميِّزة.

ما من يقين لكيفية وقوع حدث تاريخي، أو سياسي. ويحفل ذهن الكاتب السياسي بالاحتمالات المتضاربة، يُقلّبها، ليرسو على بعضها. والفارق الوحيد أن التاريخ بارد، بينما السياسة ساخنة.

***

إن ثمَّة بونًا شاسعًا بين الانتماء الأيديولوجي لباحث التاريخ، وبين التحيُّز السياسي لهذا الباحث. فالحالة الثانية تُوقع الباحث في محذور الدعاية السياسية. لذا، على الباحث في التاريخ التحلي بأعلى درجات الموضوعية، والنزاهة، عند تناوله أحداث التاريخ؛ بينما يتسلح الباحث بالمنهج المادي الجدلي، الذي يُعينه في التقاط نقطة البداية الصحيحة، واختيار طريقه من بين الطرق، والمتاهات، في الظواهر محل الدرس، حسب ماركس، وإنجلز.

***

أما المؤامرة، فإن التاريخ لا يخلو منها، وإن كانت المؤامرات لا تصنع التاريخ. تبقى المصادفات، وهي أكثر من نادرة؛ ونستدعيها، ولا تحدث من تلقاء نفسها. بينما انقضى زمان المعجزات ، منذ قرون.

***

اقتحمت “لوْلا” التاريخ العربي، منذ “معركة أُحد”، التي أصرَّ بعض من أرَّخوا لها، بأنه لوْلا نزول رُماة النبال من فوق الجبل، لجمْع الغنائم، لما كانت هزيمة المسلمين تلك. هذا بينما ثمَّة إصرار أكاديمي على استبعاد لو، ولوْلا من أي بحث تاريخي، أواستراتيچي، ناهيك عن أن “لو” تفتح عمل الشيطان.

أما الآفة الثانية، فلعلها في استمرائنا الهروب إلى تاريخنا القديم، والتغني بأمجاد أجدادنا الأوائل، غداة كل هزيمة نُمنى بها.

تبقى ثالثة الأثافي، حين يستسلم بعضنا لمقولة إن المنتصرين هم مَن يكتبون التاريخ. بينما الأجدى، والأوْلى بالمهزوم أن يلوذ بتاريخه؛ بحثُا عن نقاط ضعفه؛ فيعالجها، ونقاط قوته؛ فيثمِّرها، ونقاط قوة عدوه؛  فيعمل على تحييدها، ونقاط ضعف العدو؛ فيتم التركيز عليها، والعمل على اختراقها. ولنلتقط الإجابات الموضوعية الشافية، عن أسباب تلك الهزائم، التي حاقت بنا، في توالٍ عجيب، دون أن نلوذ بالخرافات، حتى نُخرس كل من يحاول التفتيش عن جذور أسباب هزائمنا المتلاحقة.

***

لقد خَلت الأسواق من كُتب التاريخ السياسي الفلسطيني، التي كفَّت عن الصدور، منذ نحو خمسة عقود، ما يعني أن الأجيال الجديدة لن تجد ما تقرأه من تاريخها الوطني. فمَن هو المسؤول عن غياب تلك الكتب؟!

أولاً، ثمَّة نأيْ دور نشر عربية كثيرة بنفسها عن نشر تلك الكتب، وقد قلَّ الاهتمام بالقضية الأساس (القضية الفلسطينية).

ثانيًا، عدم إيلاء المستوى السياسي الفلسطيني التاريخ الأهمية اللائقة به، أغلب الظن لعدم إدراك هذا المستوى مدى أهمية التاريخ في إعداد المواطن، والمناضل، على حد سواء.

ثالثًا، لن نتغافل عن الإحباط، الذي استبدَّ بشعبنا العربي الفلسطيني، وبالأُمة العربية، بعد توالي الهزائم، التي حاقت بالعرب، على مدى نحو ثلاثة أرباع القرن. والمُحبَط لا يقرأ، لأنه لا يمتلك أحلامًا، بل يعاني من الكوابيس!

***

حتى لا نهبط بالحركة الوطنية على القارىء بالمظلّة، لعل من الحكمة البدء بمدخل، لا غنى عنه، متضمناً خلفيات الموضوع، من التضفير بين الحركة الصهيونية، وأطماع بريطانيا في  فلسطين، التي تُوِّجت بأعمال التنقيب، والتخطيط في فلسطين، ولها؛ ثم ألقينا الضوء على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لفلسطين، عشية احتلال القوات البريطانية لها.

ليبدأ الباب الأول  “تحت الاحتلال البريطاني 1918- 1948″،  وقد قُسِّم إلى ثلاثة فصول، خُصِّص أولها للمرحلة الأولى من الحركة الوطنية، التي امتدت ما بين سنتىيْ 1918و 1929م، حين انتهت مرحلة، وبدأت أخرى في حياة تلك الحركة، اتسمت بالحسم، بعد أن دخلت البرجوازية شريكًا صغيرًا لكبار الملاك في قيادة الحركة الوطنية، وإن رجحت كفة تلك البرجوازية، بقوة برنامجها السياسي، واستقوائها بالحركتيْن، العمالية والفلاحية. بينما اتسمت تلك البرجوازية بالثورية، آنذاك، لأنها وليدة، أولاً؛ وترزح تحت ضغط مزدوج (الاستعمار البريطاني، والصهيونية)، ثانيًا؛ ولرغبتها في الاستقلال بسوقها المحلية، ثالثًا؛ ولانقطاع صلتها بالسوق الرأسمالية العالمية، رابعًا.

في سياق المرحلة الثانية، جاءت انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1933م، و”حركة القسَّام” (تشرين الثاني / نوفمبر 1935م)، وتُوِّجت المرحلة بثورة 1936 الوطنية الفلسطينية، والتي امتدت نحو ثلاث سنوات متصلة، بدأت بأطول إضراب سياسي في تاريخ البشرية، حتى الآن.

تضافرت عوامل، ذاتية وخارجية، فأخفقت الثورة في تحقيق أهدافها. وأرادت بريطانيا التفرُّغ لمواجهة الخطر النازي، فعمدت إلى تخدير المستعمرات بالوعود المعسولة؛ وفي هذا السياق، أصدرت الحكومة البريطانية “الكتاب الأبيض”، في أيار/ مايو 1939م، وفيه وعدت بمنح فلسطين استقلالها، بعد عشر سنين! تُقيَّد خلالها الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وكذلك انتقال الأراضي للصهاينة، ومؤسساتهم. وبعد أقل من أربعة أشهر، اندلعت الحرب العالمية الثانية، واستمرت نحو خمس سنوات متصلة، وزادت تلك الحرب الأوراق اختلاطًا، خاصة بعد انتقال مركز الصدارة في المعسكر الامبريالي، من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، ما جعل الحركة الصهيونية، كدأبها دائمًا، تنقل مركز ثقلها من لندن إلى واشنطن.

مع انتهاء تلك الحرب، بدأت مرحلة فرز الأوراق، وتسارعت إجراءات تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين. حتى تُوِّجت المرحلة بصدور قرار تقسيم فلسطين، عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة (29/11/1947)؛ فطُويت مرحلة، وانفتحت أخرى في حياة الحركة الوطنية الفلسطينية، غداة الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى (1948م)، والهزيمة التي حاقت بالجيوش العربية، وما ترتب عليها، خاصة النكبة الفلسطينية.

حفلت سنوات ما بين نكبة 48، و”نكسة” 1967، بأحداثٍ كبيرة؛ كاستمرار الشعب الفلسطيني في مقاتلة الصهاينة، وذلك بقوة القضية الوطنية، وعلى الرغم من افتقاد شروط الصمود. وبعد نحو عقد من النكبة، فإن الاقتصاد الفلسطيني بدأ في التعافي؛ ما وفَّر الشرط الرئيسي لإحياء الكيان السياسي الفلسطيني، الذي برز من بين الشقوق في صف النظام السياسي العربي، على هيئة فصائل مقاومة، ثم منظمة التحرير، التي رأى فيها ذاك النظام ما يقطع الطريق على من يريد “توريط” الأنظمة العربية في حرب، لا تريدها، مع إسرائيل. لكن الحرب فرضت نفسها. فكانت الهزيمة العربية المُدوِّية (1967)، وشتى تداعياتها، في الداخل (الضفة، والقطاع، وعرب 48)، وفي الخارج، الأمر الذي تولاه الباب الثاني بفصوله الثلاث.

***

ضم الكتاب الثاني خمسة أبواب؛ حمل أولها عنوان “من (النكسة) إلى التحريك ]1967 – 1973[“، بدءاً من الفصل الأول: “في دول الطوق”، وغطى ما جرى، عن تلك المدة، في منظمة التحرير،  والمقاومة الفلسطينية، إلى ملابسات صدور القرار 242، عن “مجلس الأمن الدولي”، قبل التنقل ما بين لبنان، ومصر، وسوريا، فضلًا عن جدولٍ للعمليات الخاصة لـ “المجال الخارجي للجبهة الشعبية”، فحرق المسجد الأقصى، ثم جدول عن عمليات “أيلول الأسود”. وخُتم الفصل بملابسات التحضيرلحرب تشرين الأول/  أكتوبر 1973.

لقد اضطرتني مشكلة الحجم إلى تخصيص الفصل الثاني عن الضفة الشرقية للأردن، التي غدت قطب الرحى في العمل الفلسطيني، ما بين صيفي 1967، و1971، خاصةً بعد “معركة الكرامة”، وتشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد، واقتحام شعار “الدولة الديمقراطية” الساحة الفلسطينية، وبدء “صدامات التطويع، ومع المشروع الأول لروجرز، بدأت “هجمات التكسيح”، ربيع، وصيف، وخريف/ 1970، بمجرد أن أطلت “مبادرة روجرز الثانية” برأسها، تحت وطأة الاستراتيجية الذكية لجمال عبد الناصر، التي أشعرت الإدارة الأميركية بأنها على وشك الدخول في مواجهة مسلَّحة، لا تريدها، مع الاتحاد السوفياتي، في الشرق الأوسط؛ ما جعل هذه المبادرة الأولى المتوازنة في كل المشاريع الأميركية، بصدد الصراع العربي – الإسرائيلي. وكان طبيعيًا أن تستاء إسرائيل من هذه المبادرة، بينما قبلها عبد الناصر، وبعد بضعة أيام، قبلها الملك حسين. ولم تفهم غالبية قيادات المقاومة الفلسطينية ما جرى، على نحو صحيح، خاصةً وأن عبد الناصر كان في أمس الحاجة لوقف إطلاق النار، بضعة أسابيع، بما يُمكِّنه من بناء “حائط الصواريخ”، على جبهة قناة السويس، فضلًا عن أن موقف إسرائيل، المعادي للسلام والتسوية، سينكشف، تمامًا، أمام الرأي العام العالمي. وتوفي عيد الناصر، في عِز حاجة القضية الفلسطينية إليه، فبدأت مذابح جرش، وعجلون (صيف 1971)، والتي انتهت بإخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن.

أما “داخل فلسطين” فتولاه الفصل الثالث، بدءاً من “الضفة المهيضة، والقطاع المهيأ وعرب 48 المضيَّعون” مع تفسير الهبوط الثوري في الضفة، مقابل النهوض الثوري في قطاع غزة. وفي الفصل نفسه، تمت معالجة “عرب 48 سرعان ما يستعيدون توازنهم”، غداة صدمة هزيمة 1967، والحركة السياسية لعرب 48، ورد إسرائيل السريع، بالعصى والجزرة.

عالج الباب الثاني “من لا نصر ولا هزيمة إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان ]1974 – 1982[“. وجاء فصله الأول ” خارج فلسطين: تدهور متأرجح”؛ من الاصطفافات المتوالية، إلى الميل للتسوية، فالسادات يصالح الأعداء؛ ما أنهى ظاهرة قبول التسوية، ورفضها، في الساحة الفلسطينية؛ فخصَّب السادات بخطوته تلك الأرض إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان. بينما تولى الفصل الثاني أمر “داخل فلسطين المنتشي”.

ألقى الباب الثالث حزمة من الأضواء على “الخارج يتبعثر والداخل يتجمع ]1983 – 1987[“، وعن “خارج فلسطين يتبعثر”، جاء الفصل الأول بالانشقاقات المتوالية في فصائل المقاومة، في مقدمها “فتح”، ما شق الساحة الفلسطينية في الخارج إلى ثلاث كتل؛ تصدرت الأولى “فتح” الأم، وتجمعت في مواجهتها كل من “الشعبية – القيادة العامة”، و”الصاعقة”، و”فتح الانتفاضة”، و”النضال الشعبي”، و”الشيوعي الثوري”. بينما حاول الفريق الثالث، عبثًا، إعادة الاتزان إلى ساحة فلسطين الخارج؛ فشكَّل هذا الفريق “التحالف الديمقراطي”، الذي ضم كلًا من: “الديمقراطية”، و”الشعبية”، و”الشيوعي”، و”التحرير الفلسطينية – جناح طلعت يعقوب”. وإن انفرط عقد هذا التحالف، وذهبت الثانية، والرابعة إلى “التحالف الوطني”، المعارض لتوجهات عرفات، وشكَّلتا مع التحالف الأخير “جبهة الإنقاذ”. إلى أن يأس عرفات من “الوسيط الأميركي”، وصُدمت “الشعبية” من الحرب ضد المخيمات الفلسطينية في لبنان (1985 – 1988)، فانسلخت ومعها جناح يعقوب، وانعقد المجلس الوطني “التوحيدي”، في الجزائر ربيع 1987. وسرعان ما انشق الأمين العام لجبهة النضال الشعبي، سمير غوشة، والتحق بهذا المجلس؛ وتبعه ياسر عبد ربه، الأمين العام المساعد للجبهة الديمقراطية الذي تصدر انشقاقًا عن الجبهة المذكورة؛ كل هذا حتى يشارك عبد ربه ومن معه في صنع كارثة “أوسلو” .

أما لماذا انحسرت ثقة أهالي الضفة، والقطاع، وعرب 48، بقيادة الخارج، والتفتوا إلى شأنهم الداخلي، باطراد، وأخذوا في الابتعاد التدريجي عن فصائل الخارج، فإن الفصل الثاني تولى  الإجابة على هذا السؤال .

عن “الانتفاضة المغدورة وتداعياتها” جاء الباب الرابع، وغطى السنوات من 1987 – 1991؛ بفصوله الثلاثة، أولها عن “انتفاضة الحجارة”، وثانيها عن “خارج فلسطين: القيادة المتنفِّذة متلقية”، وحين طوَّرت الانتفاضة موقف عرب 48، متجاوزين التضامن، الأمر الذي تولاه الفصل الثالث، اعتمادًا على كلٍ من البُعد الديموغرافي لعرب 48، وتعليمهم، والتطورات السياسية داخلهم.

غطى الباب الخامس “(أوسلو) وتداعياتها ]1993 – 2000[“، وفيه تساءل الفصل الأول عما إذا كان “أوسلو” تسوية أم تصفية؟! وكيفية انتقال هذا الاتفاق من الورق إلى الأرض. بينما استعرض الفصل الثاني الخطوط العريضة لما جرى في الضفة، والقطاع، على مدى “سبع سنوات عجاف” من الحكم الإداري الذاتي المحدود، في بعض الضفة، والقطاع. وعبثًا، حاول عرفات إصلاح ما أفسده بـ “أوسلو”. وهيهات له أن ينجح، وهو أسير الفخ الإسرائيلي، أو كمن هبط درجات السلم، وحرص على نسف كل درجة كان يتخطاها، فكيف له أن يعود فيصعد، من جديد؟! كان طبيعيًا أن تضع “أوسلو” أهالي الضفة، والقطاع أسرى “سبع سنوات عجاف”، على أيدي سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، بمجرد انتقال “أوسلو” من الورق إلى الأرض. واقتحمت تلك السلطة حلقة التفاوض المفرغة، مع عدونا الصهيوني.

في الفصل الثالث “عرب 48 يُصدمون فيستفيقون”، تحت تأثير ” أوسلو”، ما جعلهم يلتفتون إلى المُهجَّرين في وطنهم، بعد أن كانت الانتفاضة مسحت الفوارق بين عرب 48، وبين بقية التجمعات الفلسطينية، ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى الإسراع باتخاذ الإجراءات الكفيلة بإعادة السيطرة على عرب 48.

***

لا أنسى ما قدًّمته المرحومة زوجتي، من توفير أجواء، ساعدتني في إنهاء هذا السِفر، في نحو خمس سنوات. تلتها نحو أربع سنوات أخرى، وفَّر لي أبنائي كل الأجواء المشجِّعة (جيهان، وأبناؤها: فرح، عمر، وحنين/ غيفارا، وأبناؤه: رضوى، جميل، ودميان/ رضوى، وإبناها: حسن، ويوسف). أما جميل، فله الله في منفاه.

ثمة شكر واجب لصديقيَّ العزيزيْن، أحمد الدبش، على تدقيقه الكتاب الأول، وهشام عبد الرءوف، على تدقيقه الكتاب الثاني.

كما ما كان لهذا الكتاب أن يصدر لولا دعم الصديقين العزيزين، د. عايد أحمد، وبسام الهربيطي.

الشكر موصول لكل الذين أمدوني بالمراجع، وفي مقدمهم الأصدقاء الأعزاء: خالد عطا، عبد الله حموده، عبد العال الباقوري، غازي الصوراني، عدلي صادق، وحسام أبو النصر، ومُيَسَّر أبو علي ود. إلهام الشمالي، وروضة مرقص مَخُوُل، وأمير مَخُوُل، وسهيل الناطور، ويوسف النعنع، وعبد معروف، ود. محسن صالح، وإقبال عميش، وأروى خضر البرعي، والإخوة، والأخوات العاملين في مكتبتيْ جامعة الدول العربية، ومعهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة. والشكر موصول لكل الذين أسهموا، فنيًا، في إعداد مخطوط هذا الكتاب: مريم ياسر، دينا العشري، منى عوض، ريهام رافع، نظيمة سعد الدين، سارة إبراهيم، آية رشاد، آلاء السيد، ومروان حمدي. على أن أيًا منهم غير مسؤول عما قد يكون لحق بالكتاب من أخطاء، أو سلبيات، فهذه مسؤوليتي، وحدي.


1 هيرتشو، علم التاريخ ، ترجمة عبد الحميد العبادي، سلسلة “ذاكرة الكتابة” (98) ، القاهرة،  الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2009، ص 102-114.

* هو فيزيائي ،ورياضي ،وفيلسوف فرنسي، وُلد في19/6/1623م، وتوفي، في 19/8/1662م.

** هو كاتب، وناقد ساخر ، ومؤرخ بريطاني.  ترك أثرًا واضحًا على العصر الفيكتوري. وقد أودع آراءه في كتابه “الأبطال وعبادتهم”.

2 ن.أ.إيروفييف، ما هو التاريخ؟ موسكو، دار نشر دفكة، 1976. لنظر عرضًا له بقلم: س.وايسلد تسكييف، ترجمة فؤاد عبد الحليم، دراسات اجتماعية (القاهرة)، العدد الأول، 1979، ص 111 ـ 113؛

ـ يفجيني زوكوف، بعض القضايا المنهجية لعلم التاريخ، ترجمة أحمد القصير، دراسات اجتماعية، العدد نفسه، ص 41 ـ 54.

* البنية الفوقية: تشتمل على نسق القانون، والأخلاق، والأيديولوجية، وأسلوب الحياة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *