من ذكرياتي مع جورج حبش ” الحكيم”
جــورج حــبــش “الــحــكــيــم”
مواليد: اللد/ فلسطين 2 أب (أغسطس) 1926
الوفاة: عمان/ الأردن 26 كانون الثاني (يناير) 2008
عاش محترماً، ورحل محترماً
قائد تاريخي، كاريزمي، أهم صفاته، برأيي، أنه كان إنساناً، وأنه كان يمتلك ثقافة الإصغاء.
من ذكرياتي مع الحكيم، حادثتان لا أنساهما:
1- في عام 1979 كنت عائداً لتوي من رومانيا بعد رحلة علاح لقدمي غير القابلة للشفاء، والتي ما زال فيها حتى الآن 60 شظية من الرصاص المتفجر “دمدم” الذي تلقيته، والحمد لله، في اشتباك مع الصهاينة الأعداء، وليس من الأشقاء في اقتتال داخلي، أو بالغلط !
أتت برقية من مكتب الجبهة الشعبية في دمشق إلى بيروت، كي أحضر لأرى أمي التي جاءت من الخليل لرؤيتي.
بعد عودتي من زيارة أمي، وكنت في مخيم شاتيلا في طريقي إلى بيتي في الحرش، قابلت بالصدفة أمام “المكتب السياسي” الحكيم ومعه اثنان من الرفاق، سلمتُ عليهم، وفوجئت بالحكيم يبادر إلى سؤالي: كيف حال أمك؟!
كان جورج حبش “الحكيم” إنساناً !
2- في عام 1994 أصدرت كتابي ” الثوب والعنب، في سوسيولوجيا الثورة الفلسطينية” في دمشق، على نفقتي الخاصة، ومن ثمن بيع أثاث بيتي في عمان.
تضمن الكتاب موضوعين أدعو من خلالهما إلى استقالة أبرز زعيمين فلسطينيين:
ـــ ياسر عرفات “أبو عمار”، بعد سقوط طائرته في الصحراء الليبية كان عليه أن يبادر إلى تهيئة غيره ويفكر في احتمال رحيله حتى لا يربك الوضع الفتحاوي والفلسطيني لأنه يمسك بكل المفاتيح والصلاحيات.
ـــ جورج حبش “الحكيم” الذي يعاني من وضعه الصحي، وهو ليس مذنب في مرضه، والحكيم المحترم والمحبوب من الناس عندما يستقيل ويهيء لغيره ولما بعده لن يقل احترام الناس له بل سيزيد احترامهم وحبهم له، وسيشكل سابقة في الساحة الفلسطينية ولدى الأحزاب العربية، حيث اعتدنا على زعماء يريدون البقاء إلى الأبد.. أو حتى القبر !!
بعض الرفاق، ممن يرون جورج حبش الحكيم كصنم أو كإيقونة لا ينبغي أن تُمس، وممن لا يدركون أن فلسطين والقضية أكبر من فرد حتى وإن كان قائداً ورمزاً، وأن مهمة الكاتب ليس مسح الجوخ والتسبيح بحمد الوضع القائم بل عليه أن يتحلى بصفة النقد والاستشراف من منطلق المسؤولية والاحترام، لم يعجبهم كتابي وانتقادي لجورج حبش الحكيم، حتى أن أحد الرفاق قال لي بين الجد والهزل: سأكسر رجلك الثانية !
وللأمانة، لم يصدر عن مسؤولي الجبهة الشعبية أي موقف تشنجي أو عدائي تجاهي بسبب الكتاب، وتراوحت مواقفهم بين أنني أعبر عن رأيي وأني حر في ذلك وبين أن استمرارية بقاء الحكيم أميناً عاماً للجبهة ضرورية لوحدة الجبهة.
ماذا كان موقف الحكيم؟
كان كبيراً ولم يأت معي على ذكر الكتاب. وهذه هي الحادثة ذات الدلالة:
في سوريا كنت أحد أعضاء الهيئة الإدارية لـ “رابطة الأسرى المحررين من السجون الصهيونية”. ارتأت الهيئة الإدارية تشكيل صندوق للرابطة يُعنى بشؤون الأسرى واحتياجاتهم ومساعدة الحالات الصعبة. وكان رأينا أنه لو قام كل تنظيم فلسطيني بالتبرغ لصندوق الأسرى بـ 100 دولار فقط شهرياً فهذا سيفي بالغرض وتكون خطوة رائعة.
أول من التقيناه كان الحكيم الذي وافق فوراً على التبرع للصندوق. في اللقاء ذكرت للحكيم عن حال أسيرة فلسطينية سابقة لديها ابنة وحيدة، كي تعيش بكرامة هي وابنتها عملت في مكتب أحد التنظيمات في دمشق، تعمل قهوة وشاي وتمسح الطاولات !
بكى الحكيم أمامنا وأنا أروي له حال تلك الأسيرة.
الحكيم إنسان حساس، ودمعته سريعة !
في اللقاء ذاته، طلب الحكيم من سكرتيره أن يحضر لنا نسخاً من كتاب الباحث اللبناني محمود سويد الذي ألفه عن الحكيم.
وحصل ما جعلني أستنتج أن الحكيم يحترمني ولم يزعل مني بسبب كتابي، لأن الحكيم إنسان كبير ويتحلى بثقافة الإصغاء.
طلب مني أن أكتب على نسخ الكتاب الذي أراد أن يهديه لنا عبارة باسمه. فكتبت:
“قد يخسر الإنسان أشياء كثيرة، لكن عليه ألا يخسر نفسه”
أريت العبارة له فوافق عليها، وكررت كتابتها على بقية النسخ الست، وتحت العبارة وقَّع الحكيم بيدة المرتجفة بسبب المرض.
بعد اللقاء، سألني الحكيم(كعادته في الاستفسار عن شؤون الإنسان الذي يقابله): ماذا تكتب الآن ؟
أجبته: أعمل على كتاب بعنوان “العرب وعصر ما بعد النفط”.
قال لي مشجعاً: هذا موضوع مهم وأريد أن تهديني نسخة بعد صدوره.
بعد صدور كتابي “الثوب والعنب” الذي دعوت فيه إلى التجديد وإلى استقالة الحكيم، قدمتُ استقالتي من الجبهة الشعبية كي أكون منسجماً مع قناعاتي وذاتي.
لا أنسى تاريخي وذكرياتي في الجبهة الشعبية. فأنا بالأساس من “منظمة السيخ” التي تتألف من شخص واحد، هو المؤسس والقاعدة والقيادة، عندما قمت في 5 حزيران 1969 أمام الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، وكان عمري17 عاماً، بطعن ثلاثة جنود إسرائيليين بسيخ كباب صنعته في مدرسة الأمير محمد المهنية الإعدادية، وأصبت بجراح في رقبتي وقدمي، وقضيت سبع سنوات ونصف في سجون الاحتلال الصهيوني، قبل أن يتم إبعادي عام 1976، وأنا أقر وأعترف، أنني قبل أن أنال شهادة الدكتوراة في الفلسفة في بلغاريا عام 1991، كنت تعلمت الديالكتيك في سجن عسقلان عام 1970 على يد رفيق من الجبهة الشعبية، قصير القامة، عملاق الإرادة، هو ربحي حداد (أبو رامز) الذي استشهد وبيده السلاح في نابلس القديمة، عام 2002، له أنحني.
بعد انتمائي لتنظيمين فقط، هما: تنظيم “السيخ”، سيخ فلسطين وليس سيخ الهند، وتنظيم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، لم أعد أنتمي، حزبياً، لأي تنظيم فلسطيني. أنتمي إلى مظلتنا الكبري “فلسطين”، أخدم القضية بقلمي وعلى طريقتي وبما ملكت من قوى عقلية وجسدية، وأعتبر أن فلسطين نهر وكل منا، صغر أم كبر، هو جدول عليه أن يصب في هذا النهر.
أعشق فلسطين والحرية..
أمقت الطغاة.. وأنتمي إلى الإنسان..
أدركت وما أزال: ليس لدينا قيادة فلسطينية بمستوى آلام وآمال الشعب الفلسطيني، بمستوى تعقيدات الصراع، وبمستوى ظلم وكفاءة ولؤم العدو الصهيوني.
لدينا حالات قيادية طيبة ورائعة، ولدينا قادة تاريخيون كاريزميون، لكن ليس لدينا نهج، وسياق، وتراكم، وتجديد، ومؤسسات.
نريد زعماء قدوة يدركون أهمية الوحدة الوطنية وتوحيد وتنظيم وتفعيل طاقات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، زعماء لا ينتمون إلى الكراسي، بل إلى زيتون البلاد !
بعد سنوات على صدور كتابي “الثوب والعنب” قدم الحكيم استقالته من منصب الأمين العام للجبهة وخلفه الرفيق أبو علي مصطفى.
لا أعرف إن كان لكتابي تأثير في تفكير وموقف الحكيم عندما استقال. لكني أعرف ومتأكد أن الحكيم إنسان كبير، رمز تاريخي، وقائد كاريزمي، أهم صفاته: أنه إنسان، وأنه يمتلك ثقافة الإصغاء.
.. عاش محترماً، ورحل محترماً.
عندما توفي الحكيم بكيت عليه بحرقة، مثلما بكى عليه كثيرون. وتشرفت، وشرفني الرفاق في مجلة “الهدف”، وأنا مستقيل من الجبهة، بكتابة مقال على الغلاف الأخير للمجلة بعنوان:
“وداعــاً يــا حــكــيــم”