مع أهالي الأسرى ـ لا يعرف القهر إلا من يكابده
أحرص في كل مرة أعود إلى الوطن أن أزور بعض عائلات الأسرى لأعيش ساعة أو ساعتين مستمعا لتفاصيل الوجع الذي تعيشه العائلة، باحتجاز ولدها أو بنتها خلف القضبان لسنين طويلة. فلا شيء يثير الشجن مثل معاناة أهالي الأسرى، فالحزن على الشهيد يبدأ عظيما ثم يستقر في النهاية نحو قبول الأمر الواقع. أما الأسير فالمعاناة متواصلة يوميا للأسير وأهله وعائلته، دون توقف وتزداد ألما مع الأيام ولا تنتهي بالخروج من الأسر، بل تأخذ طابعا مختلفا يتعلق بالحالة النفسية والصحية وكيفية إعادة تأهيل الأسير ليصبح عضوا فاعلا ومنتجا في المجتمع.
الأسير ينشر ظلاله في تفاصيل البيت، ويشعر به أهله وذووه في كل دقيقة. كما أن زيارة الأسير تحمل نوعا خاصا من المعاناة لا يعرفها إلا من يجربها، فقد يحرم الأهل من الزيارة لشهور وسنوات عقابا للأسير أو رد فعل على مواجهات أو عمليات، حتى الزيارة نفسها معاناة وإذلال وقهر. وقد تستغرق يوما كاملا كما شرحت لي أم سامر العيساوي. تبدأ مع ساعات الصباح بالانضمام إلى سيارات الصليب الأحمر الذاهبة إلى السجون البعيدة التي أغلبها في النقب للمحكومين بمدد طويلة. ويتعرض الزوار لتفتيش دقيق عدة مرات قد يشمل خلع الملابس خوفا من تهريب شرائح الهواتف النقالة التي قد يصل سعرها آلاف الدولارات داخل المعتقل، تقسم التكاليف على أعداد الأسرى. تقف الأم أو الزوجة أمام الأسير مدة 45 دقيقة فقط بينهما حاجز مزدوج ويتحدثان مع بعضهما عبر سماعة مخصصة لهذا الغرض. يبدأ الحراس بالطلب من الزوار التوقف فورا عن الكلام مستخدمين الصراخ والمسبات والتهديدات. في هذه المرة قمت بزيارتين لبيت سامر العيساوي وبيت أحمد المناصرة، وقد حاولت مرارا أن أزور بيت إسراء الجعابيص لكن والديها، كما فهمت، يفضلان أن يبقيا بعيدا عن الإعلام
أخاطبها «يمة» وتخاطبني «يا بنيي». فأم سامر العيساوي، تعاملني كأنني واحد من أبنائها وأنا أضعها في مقام الوالدة التي فقدتها، وكنت يومها بعيدا في مدنية العيون بالصحراء الغربية فعزلت نفسي في غرفتي وبكيت عليها حتى الانهيار، لولا زملاء العمل الذين تنبهوا لغيابي فأقبلوا عليّ يواسونني، وأخرجوني من دوامة الكآبة. لذلك أحرص أن أزور من هي في مقام الوالدة كل مرة تطأ قدماي أرض الوطن. أجلس مع ليلى وطارق وشيرين وأشعر بدفء المكان وبراحة مطلقة كأننا عائلة واحدة، منذ تعرفت على والد طارق أحمد العيساوي عام 1982 الذي زارنا في الولايات المتحدة بعد استشهاد ولده أسامة، الذي تطوع للدفاع عن الثورة الفلسطينية ضد الغزو الصهيوني على لبنان، لمعرفة ظروف استشهاد ابنه. ظللت أتابع أخبار العائلة عن طريق الصديقة رحاب أحمد العيساوي أخت طارق. تجددت علاقاتنا عندما التقيت والدي سامر في المؤتمر الأوروبي الرابع لنصرة الأسرى الفلسطينيين في برلين عام 2016، وكانت أخبار إضراب سامر عن الطعام لمدة قياسية تملأ أركان الأرض. كان مدحت خلف القضبان وكذلك شيرين. تابعت أخبار إضراب سامر عن الطعام احتجاجا على إعادة اعتقاله بعد أن تحرر في صفقة شاليط. تجاوز إضرابه حد طاقة الإنسان ليضرب رقما قياسيا عالميا وصل إلى 287 يوما. احتفلت البلاد كلها بانتصار سامر على سجانيه عندما أطلق سراحه يوم 23 إبريل 2013 إلا أن العدو الغادر أعاد اعتقاله بعد ثمانية أشهر. ولم تتم محاكمته من جديد، بل اعتبرت الأحكام السابقة التي صدرت من قبل وتصل إلى 30 عاما نافذة المفعول. «جميع الأسرى الذين أطلق سراحهم وبقوا في الوطن أعيد اعتقالهم من جديد، ونفذت فيهم الأحكام السابقة، وكأن صفقة التبادل لم تحدث أبدا». تقول أم سامر. صور وملصقات للأبناء الأبطال تزين جدران البيت المتواضع في بلدة العيسوية «المغضوب عليها» من الفاشيين الصهاينة. فهذه عائلة نموذجية تنحني لها القامات لما قدمته للوطن وما زالت. فكل فرد فيها دخل الأسر أكثر من مرة. استشهد فادي طارق عام 1994 في المواجهات التي تلت مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل. والابن البكر رأفت سجن ست سنوات أما مدحت فهو ما زال خلف القضبان وقد أكمل محكوميته لمدة ثماني سنوات ليصل مجموع أحكامه 27 سنة وكلما عقدت المحكمة للنظر في انتهاء محكوميته يعاد للأسر مرة أخرى بحجة دعم المقاومة وجلسته المقبلة يوم 12 سبتمبر المقبل. أما شيرين التي درست القانون وأصبحت محامية مشهورة تدافع عن الأسرى وتتواصل معهم، فقد اعتقلت بتهمة التعاون مع «منظمات إرهابية»، كما جاء في نص التهمة، فقضت أولا عقوبة في الأسر سنة كاملة عام 2010 وسنة تحت الإقامة البيتية الإجبارية. ثم أعيد اعتقالها عام 2014 وحكمت أربع سنوات نافذة بالتهم الملفقة نفسها مثل نقل رسائل بين الأهل والأسرى وتقديم ملابس وكتب ومجلات وهواتف. هذه هي الأجواء التي أعيشها مع هذه الأسرة النموذجية في التضحية من أجل الوطن. أشعر وأنا أودعهم بأنني أصغر من حبة خردل لكني مشحون بطاقة هائلة من العزم والتصميم لمواصلة النضال.
اعتقل الطفل أحمد مناصرة يوم 12 أكتوبر عام 2015 وعمره ثلاث عشرة سنة. كان يسير مع ابن عمه حسن. رأى الجندي يصوب بندقيته نحو حسن ويرديه شهيدا أمام عينيه. أصيب بحالة من الهلع فهرب بطريقة هستيرية لاحقته سيارة وصدمته، ثم التم عليه مجموعة من الجنود وضربوه ضربا شديدا وأصابوه إصابات بليغة أدت إلى فقدانه للوعي، نقل على أثرها للمستشفى، كما شرح لنا صالح مناصرة والد الأسير. بعد عدة أسابيع في المستشفى نقل إلى معتقل الأحداث. وخضع أحمد لجلسات تحقيق عنيفة وقد سربت قوات الاحتلال الإسرائيلي فيديو لإحدى جلسات التحقيق مع أحمد، وكانت كلها تعنيفاً وتهديداً لطفل لم يتجاوز وقتها 13 عاماً، وظهر أحمد في الشريط باكياً وهو يواجه محققاً فظاً بقوله «مش متذكر»، وفي عام 2015 حكم بالسجن لمدة 12 سنة بتهمة ملفقة هي «محاولة قتل مستوطن وغرامة مالية بقيمة 180 ألف شيقل».
أبغ أحمد والدته في أول لقاء أنه اصيب بخوف شديد وهم يضربونه ويشتمونه «أحسست أن قلبي سيهرب من جسمي لكنني نمت ولولا أنني نمت لانفجر صدري من الخوف. لم يكن يعرف أنه أغمي عليه»، كما شرحت لنا أم أحمد عن ظروف اعتقاله. وبعد قضاء سبع سنوات وقف أمام المحكمة لإسقاط تهمة «الإرهاب» عنه لعله يخرج بعدها. إلا أن المحكمة رفضت ذلك وأعيد إلى زنزانة انفرادية في الشهور السبعة الماضية، ما أثر في نفسيته وقدراته الذهنية. زرت بيتهم في بيت حنينا وتعرفت على أم أحمد ووالده صالح المناصرة وابنهم عبر الرحمن وابنتهم أسيل والطفلة شام، اللتين ولدتا بعد اعتقال أحمد ولم يقابلهما أبدا فالزيارة للوالد والوالدة فقط. أحمد في فترة الاعتقال الأولى بعد نقله لقسم ما دون الثامنة عشرة، كانت معنوياته عالية وبدأ يمارس الرياضة وقدم امتحان الثانوية العام عام 2020 ونجح في الامتحان، كما أوضح والده صالح. تحول الطفل أحمد، إلى الرجل أحمد، سنا وجسما ووعيا. وكان يأمل أن يخرج من المعتقل في المراجعة لحالته، إلا أن الاستدعاء قد فشل بسبب ضغط الحكم العسكري على المحكمة. من هنا بدأت المأساة مع أحمد وبدأ يفقد توازنه وأدخل العزل الانفرادي الذي بدل أن يكون علاجا أصبح كارثة نفسية على أحمد. «بدأ يروي قصصا خيالية. طلبنا إدخال طبيب نفسي لمعاينة أحمد دون جدوى لمدة سنة بعدها دخلت الطبيبة النفسية في أول أيام العزل. اقترحت الطبيبة إخراجه من العزل، لكن مضى عليه أكثر من سبعة شهور في العزل ووضعه يزداد سوءا»، قال أبو أحمد. الإهمال الطبي أدى إلى تفاقم أزمة أحمد النفسية. ست جلسات لتخفيف المدة إلى الثلثين دون جدوى. بقيت نحو سنتان ونصف السنة لاستكمال المحكومية إلا أن وضعه في العزل الانفرادي، حطم نفسيته ووضعه يتفاقم باستمرار. «هناك لحظات يتذكر الأمور جيدا. ولكن كثيرا ما ينسى. عنده مشاكل نفسية كبيرة. «المهم أن يخرج من العزل»، قالت والدة أحمد.
هناك حملة دولية الأن لإطلاق سراح أحمد مناصرة. إنها الطفولة المعتدى عليها، دون إعطاء أي أهمية للقانون الدولي الإنساني. يريدون أن يرهبوا الأجيال القادمة لإبعادهم عن المقاومة لكن هذه الأجيال هي التي ستحرر الوطن بعد كل هذه المعاناة ودخول ربع الشعب الفلسطيني زنازين ومعتقلات الكيان. فكيف سينسى هذا الجيل أو يغفر؟
عن القدس العربي