مطالبة دولية بالتحقيق في جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة لكن الشيطان في التفاصيل

لا أعتقد أن الأمم المتحدة بكل أجهزتها المعنية قد أعطت أهمية لقضية اغتيال صحافي أو حتى زعيم سياسي مثلما أعطت لقضية اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، صباح الأربعاء 11 أيار/مايو الحالي، التي عملت مع قناة «الجزيرة» منذ عام 1997.

وهذا الاهتمام، في رأينا، راجع لأسباب مهنية وقانونية وأخرى شخصية: فمن الناحية المهنية والقانونية فهي جريمة كاملة الأركان في وضح النهار وأمام عيون العالم، وهي صحافية يضمن لها القانون الدولي الحق في حرية التعبير والحماية كما نصت على ذلك قرارات مجلس الأمن الدولي مثل القرار 1738 لعام 2006 الذي أدان الاعتداءات على الصحافيين ووسائل الإعلام والأفراد المرتبطين بهم، ودعا إلى وضع حد لهذه الممارسات، والقرار 2222 الذي اعتمد عام 2015 الذي ينص على أن «عمل وسائل الإعلام الحر والنزيه والمستقل يشكل أحد المقومات الرئيسية لأي مجتمع ديمقراطي وبالتالي يسهم في حماية المدنيين» ويطالب القرار بعدم استهداف الصحافيين أو اعتقالهم والإفراج عنهم إذا كانوا معتقلين أو إذا تعرضوا للخطف كرهائن، وضرورة احترام جميع أطراف النزاع استقلال الصحافيين المهني وحقوقهم.
أما من الناحية الشخصية فقد تأثر العالم باستشهاد شيرين أبو عاقلة لما تمثله كشخص. فهي فلسطينية وأمريكية في نفس الوقت، وهي مسيحية ولكنها أقرب إلى قلوب المسلمين جميعا، أيقونة فلسطينية تعمل على إيصال معاناة المظلومين والمقهورين من شعبها للعالم. وأخيرا فهي إمرأة كرست حياتها لقضيتها وعملها ودفعت ثمنا لهذا الموقف حيث كان بإمكانها أن تنتقل للعمل حتى مع نفس القناة خارج منطقة الصراع، بل عندما ذهبت لتعمل رئيسة لمكتب «الجزيرة» في مصر عادت إلى شعبها ومدينتها وأهلها وناسها.

ردود الفعل الدولية

تابعت منذ ساعات صباح يوم الجريمة ردود فعل المسؤولين الدوليين وأجهزة الأمم المتحدة. وسأحاول أن أوثق في هذا الاستعراض بعض تلك البيانات التي صدرت إما عن أشخاص رسميين أو عن أجهزة مهمة من المنظومة الدولية.
لقد صدرت بيانات من تور وينيسلاند، منسق عملية السلام وممثل الأمم المتحدة في فلسطين المحتلة، والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ومجلس الأمن الدولي ومجلس حقوق الإنسان، واليونسكو وهيئة الأمم المتحدة للمرأة وخبراء حقوق الإنسان.
تشابهت البيانات إلى حد ما لكن الفروقات في التفاصيل. فقد ضمت جميعها الإدانة ثم ضرورة التحقيق في الحادث ومحاسبة الجناة، وتقديم التعزية لأهل الضحية وقناة «الجزيرة».
– أطلق تور وينيسلاند، تغريدة على حسابه في تويتر في ساعات الصباح يوم الأربعاء بعد انتشار خبر الاغتيال. وجاء البيان واضحا في إدانة القتل بقوة ذاكرا أنها «قتلت برصاص حيّ وهي تغطي عملية تقوم بها قوات الأمن الإسرائيلية في جنين بالضفة الغربية المحتلة». ثم طالب بالتحقيق «الفوري والشامل» وإحضار المسؤولين (عن القتل) إلى العدالة.
البيان في جانبه الانشائي الانطباعي قوي، ولكن في الجانب العملياتي ضعيف وغامض وخطير. فهو يدعو للتحقيق من دون أن يقول لنا يدعو من؟ وهو يطالب بتحقيق «فوري وشامل» ولم يذكر لنا من هو الطرف الذي سيقوم بالتحقيق. وما من شك، حسب صياغة البيان، فالطرف الذي سيحقق هو المتهم أصلا أي أن يحقق القاتل مع نفسه. أما صفات التحقيق، فوري وشامل، فلا تعنيان شيئا، فقد يصل التحقيق إلى مئات الصفحات بدون أن يحتوي على نتائج حاسمة. وقد سألت بنفسي لماذا لم يستخدم وينيسلاند صفات مثل «حيادي، مهني، دولي، شفاف» لا جواب.
– أما بيان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، فقد تأخر لغاية الساعة السادسة مساء بتوقيت نيويورك، الواحدة بعد منتصف الليل في القدس، أي أنه تأخر نحو 19 ساعة بعد الجريمة. وهو أمر غير مبرر وغير مقبول، لأنه أطلق بيانات شديدة اللهجة بسرعة مطلقة يوم 29 آذار/مارس لإدانة عمليات الفلسطينيين في الداخل وكذلك أصدر بيانا في أيار/مايو 2021 بعد ثلاث دقائق من إطلاق مقذوفات المقاومة لوقف مسيرة الأعلام الصهيونية في القدس.
أعرب الأمين العام عن ذهوله لمقتل أبو عاقلة كما دعا «السلطات المعنية» إلى إجراء تحقيق «مستقل وشفاف» في الحادث وضمان محاسبة المسؤولين عنه. وقدم التعازي لأسرة شيرين وتمنى الشفاء العاجل لزميلها الصحافي علي السمودي.
نلاحظ أن الأمين العام، وبعد الاستماع إلى سيل من الأسئلة حول نواقص بيان ممثله وينسيلاند، أضاف نقطتين جديدتين: الطرف الذي سيحقق في عملية القتل «الأطراف المعنية» والتحقيق يجب أن يكون مستقلا وشفافا. بالتأكيد إضافة الصفتين «مستقل وشفاف» أقرب إلى المعايير الدولية فكيف يمكن أن يكون مستقلا إلا إذا خرج عن السيطرة الإسرائيلية؟ لكن ما المقصود بالأطراف المعنية؟ هذا مصطلح غامض لا نعرف كيف نحدد من هي تلك الأطراف وعندما نسأل لا نجد جوابا. وقناعتنا أن هذا المصطلح يعني موافقة من غوتيريش على دعوة إسرائيل لإجراء تحقيق مشترك مع السلطة الفلسطينية. لقد وجدنا أن هذا البيان مع أنه خطوة متقدمة عن بيان وينيسلاند إلا أنه ظل متناقضا وغامضا.
– جاء بعد ذلك البيان الصحافي لمجلس الأمن الذي صدر يوم الجمعة 13 أيار/مايو الذي تأخر كثيرا نتيجة معارضة مندوبة بريطانيا، باربرا وودوارد. وكان التوصل للبيان أمرا شاقا لأن البيان الصحافي لا يصدر إلا بالإجماع. وقد أدان المجلس بشدّة مقتل الصحافيّة الأمريكية الفلسطينيّة. ودعا إلى «تحقيق فوري وشامل وشفّاف وعادل ونزيه». لكن لم يقل المجلس من الذي سيحقق وكيف يمكن إجراء التحقيق. ودعا البيان إلى «ضرورة ضمان محاسبة» منفذّ عمليّة القتل هذه. ولا شك أن صفات التحقيق تكاد تكتمل تماما في بيان المجلس. وأهمية البيان الصحافي في صدوره أصلا، فهذه حالة نادرة لوحدة المجلس بشأن قضيّة تتعلّق بإسرائيل. لكن البيان الصحافي لا يمثل إلا نقطة تلاقي أعضاء المجلس في ما يقال للصحافة. فهو ليس وثيقة رسمية ولا يتم الاحتفاظ بها في أرشيف المجلس.
– المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، دعت في بيانها يوم الجريمة إلى إجراء تحقيق وافٍ في مقتل المراسلة التلفزيونية شيرين أبو عاقلة. وقالت «أدين مقتل شيرين أبو عاقلة، فقتل عامل في المجال الصحافي يحمل بوضوح شارة الصحافة، في منطقة نزاع، هو انتهاك للقانون الدولي. أدعو السلطات المعنية إلى التحقيق في هذه الجريمة ومقاضاة المسؤولين عنها». مرة أخرى نعود إلى لغة الغموض والتهرب في مصطلح «السلطات المعنية».
– ميشيل باشيليه، المفوضة السامية لحقوق الإنسان، أصدرت بيانين قويين، واحد حول اغتيال شيرين والثاني حول التعرض للجنازة. وقالت تعقيبا على ما جرى خلال مراسم التشييع في القدس الشرقية المحتلة، ضرورة إجراء تحقيقات مناسبة في تصرفات قوات الأمن الإسرائيلية، ومحاسبة أي شخص تثبت مسؤوليته عن ذلك بعقوبات جزائية وتأديبية تتناسب مع خطورة الانتهاك. وقد وصفت المفوضة المشاهد التي أظهرت الشرطة الإسرائيلية وهي تهاجم المشيعين في الجنازة في القدس الشرقية يوم الجمعة بأنها صادمة. وقالت إن عدد الصحافيين الفلسطينيين الذين قتلوا على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية منذ عام 2000 وصل إلى 48 فلسطينيا. واختتمت بيانها قائلة: «يجب أن تنتهي ثقافة الإفلات من العقاب الآن».
– خبراء القانون الدولي المستقلون أدانوا مقتل شيرين أبو عاقلة ودعوا يوم 13 أيار/مايو، إلى إجراء تحقيق سريع وشفاف وشامل ومستقل في وفاتها. وهذه الأوصاف أقرب إلى لغة مجلس الأمن. وقال الخبراء في بيانهم إن مقتل أبو عاقلة يأتي استمرارا لارتفاع معدل الاعتداءات على الإعلاميين، وخاصة الصحافيين الفلسطينيين، حيث بلغ عدد الضحايا منذ عام 2000 ما يزيد على 40 صحافيا أو إعلاميا وجرح المئات. كما أشار البيان إلى تعرض الصحافيات الفلسطينيات للعنف بشكل منتظم في سياق عملهن فقط لكونهن صحافيات. وطالب الخبراء بإجراء «تحقيق سريع ومستقل وحيادي وفعال وشامل وشفاف».
– أما بيان ريما بحوث، المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، فقد أثار قضية استهداف الصحافيات في مناطق النزاع قائلة: «إن مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة هو تذكير صارخ بأشكال العنف المختلفة التي تتعرض لها النساء والفتيات اللواتي يعشن في مناطق النزاعات». وقالت «سوف نواصل في هيئة الأمم المتحدة للمرأة العمل على دعم الصحافيات والمدافعات عن حقوق الإنسان وإيصال أصواتهن، والعمل من أجل إنهاء الحصانة على العنف ضدهن».
لقد جاء بيان الخبراء المستقلين الأقوى والأشمل والوحيد الذي وضع عملية القتل في إطارها الأوسع وهو الاحتلال وممارساته الطويلة ضد الفلسطينيين.
الذي لم نسمع منه لا من قريب ولا من بعيد هو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، الذي دفن رأسه في الرمال، مع أن هذه المسألة من صلب عمله، فالقتل المتعمد والمخطط له للصحافيين يعتبر جريمة حرب، ويعتبر انتهاكا لاتفاقية جنيف الرابعة.
صباح الخميس 19 أيار/مايو أصدر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بيانا يرفض فيه إجراء أي تحقيق في الموضوع خوفا من أن يسبب ذلك جدلا وانقساما في قوات الجيش. بالنسبة لإسرائيل الملف مقفل. فهل الملف زوبعة عابرة ومرت أيضا بالنسبة للمجتمع الدولي؟ وإلى متى تتصرف إسرائيل «ككيان فوق القانون لا أحد يجرؤ على مساءلته؟».

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *