النظام السياسي الفلسطيني أقوى من شعبه!
اعتدنا طويلاً على مقولة أن “قوة لبنان من ضعفه”، على رغم ما فيها من مفارقة، وتورية، لكن تلك المقولة باتت تنطبق على حال كيان السلطة الفلسطينية، فهي فعلاً تستمد قوتها من ضعفها. فهي مجرد سلطة ذاتية، على الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة فقط، ولا سلطة لها على الأرض، أو الموارد، أو المعابر، أو الأجواء، إلا وفقاً لما تسمح به إسرائيل، فهي سلطة ركّبت، من الأساس، لتكون تحت سلطة الاحتلال.
السلطة الفلسطينية، أيضاً، تعتمد في مواردها على الخارج (الدول المانحة)، وعلى عوائد “المقاصة” التي تجبيها إسرائيل من عوائد السلع الآتية إلى الضفة والقطاع، فتعطيها للسطة أو تمنعها عنها وقت تشاء، وبحسب الظروف.
أيضاً، تلك السلطة لا تتمتع بمشروعية شعبية أو تمثيلية انتخابية، فقد مضى على انتهاء شرعيتها 11 عاماً، وهذا ينطبق على سلطتي الضفة وغزة (فتح وحماس)، فكل واحدة منهما تدير المنطقة التي تسيطر عليها بطريقة أحادية، وإقصائية، سواء في ما يتعلق بالفصائل الأخرى، أو في ما يخص علاقتها بمجتمعها، بل إن كل واحدة منهما تبذل جهدها لإضعاف المجتمع المدني أو تهميشه.
بيد أن تلك السلطة الضعيفة، في واقع الأمر، قوية جداً إزاء شعبها، على رغم كل ما تقدم، فإذا استعرنا مقولة الثورة الأميركية في القرن الثامن عشر أن “لا ضرائب من دون تمثيل”، فإن السلطة لا تلوي على شيء، فواقع حالها (أي السلطتين) يقول أو يفرض “ضرائب من دون تمثيل”، أي بواسطة القوة والهيمنة، بل إن تلك السلطة تعطي نفسها الحق في مصادرة الرأي، والتنكيل بالمتظاهرين، والاعتقال، بل والتعذيب، كما حدث مراراً وتكراراً (في الضفة وغزة)، إلى الدرجة التي لم يعد بالإمكان تمييزها عن أي نظام عربي أخر، كأن الفلسطينيين لم يكن يكفيهم أن إسرائيل، والأنظمة، تقيد حريتهم، وتعتقل فيهم، وتمرمط عيشهم وكرامتهم!
هكذا، وخلال الشهرين الماضيين، فقط، ارتكب الرئيس الفلسطيني محمود عباس عديد من الأخطاء دون أن يحاسبه أحد، أو دون أن تقف جهة ما لمجرد مساءلته، لا اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولا الحكومة، ولا المجلس الوطني ولا المجلس التشريعي، إذ لا توجد إطارات لا للنقاش، ولا للمساءلة ولا للمحاسبة، لا سيما أنه يجمع بين يديه كل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، فهو رئيس المنظمة والسلطة وحركة “فتح”. هكذا قام، أولاً، بإلغاء العملية الانتخابية. ثانياً، أطاح بمباحثات الوحدة أو إنهاء الانقسام، التي كانت تُجرى مع الحركة أو السلطة الثانية، المنافسة، في غزة، والتي استهلكت العام الماضي بكامله. ثالثاً، خذلانه هبة القدس إذ لم يكن موقفه على قدر تلك الهبة الشعبية المجيدة، التي امتدت من النهر إلى البحر. رابعاً، أتت عملية قتل شخص تحت التعذيب من قبل أجهزة أمن السلطة من دون أن يتحدث شيئاً. خامساً، حصلت صفقة لقاح “كورونا” التي تبينت عن فضيحة، لتضاف إلى جملة الحوادث التي باتت توصم عهده، المشوب بالفساد والمحسوبية.
بيد أن كل تلك المسائل، على أهميتها، مجرد تحصيل حاصل، لأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يدير لوحده الكيانات الثلاث (المنظمة والسلطة وفتح)، ولا توجد هيئة محترمة، أو قائمة بذاتها، يمكن أن تخالف سطوته، ما يؤكد أن الرئيس أقوى من الكيانات الفلسطينية مجتمعة!
وكما أن الرئيس أقوى من الكيانات المذكورة، فإن القيادة الفلسطينية قوية إزاء شعبها، وما يؤكد ذلك هو تجرؤها على مواجهة المظاهرات بالهراوات وبالاعتقالات، وبمصادرة حرية الرأي، على رغم أن ذلك يجري تحت ظل السلطة الإسرائيلية.
إلا أن أبلغ تأكيد على قوة القيادة الفلسطينية إزاء شعبها هو تجرؤها على تجاوز أولويات الكفاح الفلسطيني الذي انطلقت على أساسه في منتصف الستينات، بعقدها اتفاق أوسلو، من وراء ظهر شعبها، بعد فتحها قناة سرية مع الطرف الإسرائيلي (1992 – 1993). وقد تم تمرير ذلك الاتفاق، على رغم أنه لا يوجد فيه أي بند يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، لا حقه في العودة ولا تقرير المصير ولا إقامة الدولة، ولا يتضمن أي بند يتعلق بعدم شرعية الاستيطان في الأراضي المحتلة (1967)، ولا أي بند يضع حداً لمحاولات إسرائيل تهويد القدس، ولا أي بند يعرف إسرائيل كدولة احتلال.
المهم أن القيادة الفلسطينية استطاعت تمرير هذا الاتفاق المجحف والمذل والناقص، وفوق ذلك تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى مجرد سلطة تحت الاحتلال، وتحويل الفدائيين، أو المناضلين، إلى موظفين وشرطة مرور، وأجهزة أمن.
وفي الحقيقة فإن القيادة الفلسطينية تتصرف بحكم إدراكها قدرتها على تمرير أي شيء، لا سيما في الظروف العربية والدولية الملائمة، فالشعب الفلسطيني، الذي يختزن روحاً كفاحية عالية، واستعداداً مشهوداً للتضحية، ونسبة كبيرة من المثقفين، مغلوب على أمره، فهو ضعيف، لأنه مشتت، ويخضع لأنظمة عدة، ما يحرم الفلسطينيين في تلك البلدان من أي وسيلة ضغط على قيادتهم، بخاصة مع عدم وجود إطارات جمعية وازنة. وفي فلسطين التاريخية، بين النهر والبحر، ثمة سلطات عدة، إذ يخضع الفلسطينيون لظروف متباينة، وشروط قانونية مختلفة، في إسرائيل والضفة وغزة والقدس، ما يساهم في تشتت طاقاتهم، بما في ذلك قدرتهم على مساءلة قيادتهم. وهذا ينطبق على أوضاع اللاجئين، الذين تكاد تختفي مجتمعاتهم، في لبنان وسوريا والعراق، في حين وضع اللاجئين في الأردن بمنزلة مواطنين أردنيين، ما يحول، أو يقيد، تعبيراتهم الوطنية كجزء من الشعب الفلسطيني.
ثمة عامل آخر أيضاً، وهو أن تلك السلطة (في الضفة وغزة) لا تتحكم بالفلسطينيين بواسطة صناديق الاقتراع، وإنما تتحكم بهم بقوة الواقع، أي الأجهزة الأمنية، أيضاً، وبحكم أنها أكبر مشغل، فثمة ربع مليون شخص، وربما أكثر، في الأجهزة الخدمية والأمنية، وهؤلاء يشكلون قاعدة اجتماعية واسعة.
السلطة الفلسطينية، فوق كل ما تقدم، قوية إزاء شعبها لجهة الافتقاد لواقع عربي أو دولي، أيضاً، يساند كفاح الفلسطينيين، بحيث بات هؤلاء في مواجهة إسرائيل، أو الأنظمة العربية، أو السلطة الفلسطينية.
كل ما تقدم يفسر مسائل مهمة، أولها، أن الفلسطينيين في الضفة وغزة كانوا قبل إقامة السلطة أكثر تحرراً ووحدة وتصميماً في كفاحهم ضد إسرائيل، منه بعد إقامتها. وثانيها، أن السلطة متحررة من أي التزامات تجاه شعبها، وتستقوي عليه، ليس بأجهزتها الأمنية وقاعدتها الاجتماعية، وحسب، وإنما أيضاً لأنها تستمد شرعيتها من الخارج (العربي والدولي والإسرائيلي بطبيعة الحال). وثالثها، أن التحرر الوطني، غير المحمول بمعنى الحرية، لن ينجم عنه سوى سلطة غاشمة تستقوي على شعبها، وهو ما أثبتته تجارب كثيرة.
باختصار الرئيس أقوى من الكيانات الفلسطينية، والنظام الفلسطيني أقوى من شعبه.
*عن موقع “درج”