مستقبل حركة فتح وحركة حماس

لقد عرض مؤخرا التقرير السنوي الاسترايجي لمركز مسارات في مؤتمره السنوي الذي عقد في رام الله في 3 و 4 من كانون أول/ديسمبر الحالي، ويعنى التقرير بعدد من جوانب الوضع الفلسطيني بما في ذلك الانقسام بين الضفة وغزة.

وسأتعرض هنا بإيجاز، لموضوعين محددين: مستقبل حركة فتح ومن ثَمَ السلطة الفلسطينية، ومستقبل حركة حماس، وفي المدى المرئي.

1- وأبدأ بالإشارة إلى أننا الآن في مرحلة انتقالية فيما يتعلق بالحركتين. وبالنسبة لحركة فتح، يشير التقرير “للمأزق” الداخلي الذي تمر به والذي من إماراته الصراع على الخلافة وعدم التمكن من عقد المؤتمر الثامن، من بين نواح أخرى. والواقع هو أن هذه المشكلة، أي عقد المؤتمر الثامن، ليست بجديدة ولها تبعات تتعلق بمستقبل الحركة، وقد تهدد بتفتتها في المرحلة القادمة، أي مرحلة ما بعد أبو مازن. وأشير بشكل محدد إلى جانبين: مشكلة العضوية، أي من هم أعضاء فتح، وطبيعة بنية الحركة.

هذا الإشكاليات كلها مدركة عند قيادات الحركة. وكانت هناك محاولات لإصلاح الوضع في العام 2005، وفي العام 2008 أيضا، عندما كان ابو العلاء مفوض التعبئة والتنظيم واستعدادا للمؤتمر السادس للحركة الذي عقد في مدينة بيت لحم في أواسط شهر أب من العام 2009. أما المحاولة التي جرت في العام 2005 واستعدادا للإنتخابات النيابية القادمة فكانت أول محاولة في تاريخ الحركة، وأكرر أول محاولة في تاريخ الحركة لحصر العضوية، أي، من هم أعضاء في حركة فتح، وتأسيس قاعدة بيانات يتم الرجوع لها لأغراض الحركة الداخلية، بما في ذلك إيجاد نوع من الإنضباط الحزبي المفقود حتى الآن. وتم تعيين لجنة تحت الإشراف المباشر لعثمان أبو غربية مع عدد من قدماء الحركة لمتابعة حصر العضوية ، وربما الأهم، الأقدمية في الحركة لأن الأقدمية أحد الأسس للأحقية في عدد من النواحي بما في ذلك الترشح للمجلس التشريعي ضمن قائمة فتح.

وفي كلا المحاولتين، في العام 2005، وفي العام 2008 في عهد أبو العلاء فشلت هذه المحاولات لسببين: الأول، عدم قبول الكثيرين داخل الحركة أن يتساوى في الاقتراع، وخاصة في الترشح، المنتسب الجديد مع المخضرم، بوجود إشكالية أساسية تتعلق بمعايير الأقدمية، لتكرر “الدخول” و”الخروج” من الحركة، عبر السنوات لكثيرين، دون وجود معايير واضحة لذلك، يمكن من خلالها احتساب سنوات العضوية. أما السبب الثاني الذي هو ربما الأهم، أن البنية الداخلية للحركة، والتي ما زالت قائمة حتى الآن، هي العلاقات الزبائنية كنظام معتمد فعلا الذي يؤدي إلى حلقات أو محاور ارتباط متحالف بعضها او متنافس مع محاور ارتباط اخرى. لكن جميعها تستمد دورها بما في ذلك أية منافع تتأتى بفعل الموقع والدور، في نهاية الأمر، من قمة هرم السلطة داخل الحركة. وقد كان الرئيس الراحل أبو عمار بشخصه الصمغ الاصق للحركة خاصة بعد استشهاد أبو إياد وأبو جهاد وآخرين من الرعيل الأول المؤسس، أي ليس البنية المؤسساتية لفتح. هذا هو نظام “الأبوات” الذي عرف خلال سنوات المنظمة في الخارج قبل إنشاء السلطة الفلسطينية، وانتقال النظام الزبائني للسلطة الفلسطينية نفسها وأن كان مع تغيير جوهري في التحالفات، أو محاور الإرتباط المكونة لبنية الحركة.

 غير ما هو أهم من ناحية الأثر على الحركة هو التغيير الذي حصل للتحالفات ومحاور الإرتباط الداخلية للحركة التي اندمج فيها عناصر جديدة مشكلة من عائدين ومقيمين، ومجموعات مصالح متنوعة، ورأس مال محلي ورأس مال”عائد” أتى ليجني ربحا ممن هم تحت الإحتلال و”بناء الدولة”. إضافة، ناب فتح ما ناب معظم أحزاب منظمة التحرير، أي ظاهرة مغتربي الأحزاب. وهي ظاهرة متعددة الأسباب، أحدها أفول “المشروع الوطني”، أو حل الدولتين بالفهم الفلسطيني له وتحول السلطة الفلسطينية إلى بلدية كبرى تدير شؤون المدنيين الفلسطينيين وتنسق “أمنيا” مع إسرائيل. هذا بالرغم من إدمان السلطة على الخطاب الدولاني حفاظا على ماء الوجه، إلى درجة أنه عندما تم حل المجلس التشريعى من قبل الرئيس أبو مازن قال البعض في نوع من الهذيان السياسي، أن حل المجلس يشكل خطوة نحو الدولة!

والواقع هو ان حزبا جديدا حل محل حركة فتح أسمه “حزب السلطة”. ويتشكل حزب السلطة من طيف واسع فيه أعضاء اللجنة المركزية وآخرين يعتبرون أنفسهم من فتح، ورجال ونساء أعمال، ورأس مال له مصلحة في بقاء السلطة، وبعض الأعضاء السابقين في المجلس التشريعي، وأعضاء في بعض احزاب منظمة التحرير كما هي الآن، ومثقفي بلاط، ومهنيين من مهن مختلفة، وهكذا.

 لقد استحوذ حزب السلطة على إسم الحركة ولم يتمكن أحد من مغتربي فتح التنافس على الإسم. لم تتفتت فتح ولكنها تبدلت وتغيرت ولم تعد فتح التي كانت. بالرغم من هذا، لم ولن يندثر إسم فتح بسبب تاريخها، وبسبب أنها حزب ياسر عرفات وآخرين من المؤسسين.

غير أن السؤال الأساسي بخصوص فتح هو: من سيستحوذ على إسم الحركة في المستقبل؟ أي بعد المرحلة الحالية، مرحلة أبو مازن ومرحلة الجيل الذي له ماض نضالي، أو من يتكؤون على هذا الماضي، كما يبان بوضوح في الخط الاعلامي لتلفزيون وإذاعة فلسطين على سبيل المثال لا الحصر، وكما يبان مثلا في استحضارهم بعض أغاني الثورة، من مرحلة الكفاح المسلح في لبنان، وفي مناسبات محددة، لغرض إضفاء “شرعية” على الحاضر، وفي مسعى للتعلق، وباستماتة، بأهداب ماضي الحركة. وإذا كان هذا المسعى فاقدا للمصداقية الآن، سيكون مهزلة إن تم بعد هذه المرحلة. ومن المرجح أن لا يتم لأن المفارقة بين أغاني الثورة وواقع السلطة في حينه، أي في المستقبل، بقيادة أخرى غير الحالية، ستكون مفارقة كبرى، وأليمة أيضا، وبدرجات. فمن سيتسلم السلطة بعد هذا الجيل لن يكون حائزا على هذا الماضي النضالي الذي انتهى مع هذا الجيل بعد العام 1982، اي بعد الخروج من لبنان. ونحن الآن في بداية هذه المرحلة.

ومع وصول حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل إلى الحكم، سيشتد الصراع على من هي فتح بفعل تعاظم سرقة الأرض والعنف المتزايد والمنفلت للمستوطنين، وحماية من السياسيين في الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وقد بدأ هذا الصراع ميدانيا كما في حالة كتائب شهداء الأقصى في جنين، وعرين الأسود في نابلس. وفي حالة كتائب شهداء الأقصى هو ايضا صراع على من هي فتح، ومن سيستحوذ على إسم فتح وجناحها المقاوم. وقد بدأ هذا الصراع سياسيا ايضا، كما في حالة الحركة الاصلاحية التي بدأها ناصر القدوة. وأتوقع أن ظاهرة مغتربي فتح، أي المغتربين عن فتح السلطة، وأعدادهم كبيرة جدا في الواقع، ستكون الحاضنة لفتح متجددة بعد المرحلة الحالية لفتح السلطة، وفي صراع مع السلطة القائمة في حينه.

2- أما بخصوص حماس، فبعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة في العام 2005، وإخلاء المستوطنات المقامة فيها، مرت العلاقة بين إسرائيل وحماس؛ السلطة القائمة فعلاً في القطاع، بمراحل مختلفة، انتهت، بعد مراحل دامية ومؤلمة للفلسطينيين في غزة، وارتكاب جرائم حرب من قبل إسرائيل، أن توصل الطرفان في العام 2018 إلى الحاجة للتوصل إلى وضع “مستقر” نسبياً كما هو الحال في الضفة الغربية. كان هذا تغييراً في السياسة الإسرائيلية. وقد تم هذا بفعل عدة عوامل منها موقف الجيش والمؤسسة الأمنية في إسرائيل التي فقدت الكثير من قوة الردع في غزة، كما جاء في تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب حول هذا الجانب.[1] وترى المؤسسة الأمنية في إسرائيل أن الطريق الأفضل هو التوصل إلى هدنة طويلة الأمد مع حماس، والعمل على إجراء تحسين جذري في شروط الحياة في غزة. بالمقابل، تبقى السياسة الإسرائيلية السابقة كما هي، أي أن تتحمل حماس المسؤولية “الأمنية” في القطاع بحيث تكون مسؤولة عن أي قذيفة تطلق باتجاه إسرائيل بغض النظر عمن قام بذلك. وستعتبر إسرائيل أن هذا يشكل خرقا من قبل حماس للهدنة المتضمنة في الخطة، أيا كان الفاعل. وقد أسهم أيضا في اقتناع حماس بضرورة وجود هدنة طويلة الأمد لغرض إعادة إعمار غزة بعد الدمار الكبير الذي حصل فيها، ضغط الرأي العام الداخلي بما في ذالك المظاهرات التي تمت في نهاية العام 2018 وبداية العام 2019 وتحت شعار “بدنا نعيش”. وقد تبجح نتنياهو في حينه أنه سينجز “خطة مارشال” في غزة، وبدعم من الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية. والإشارة “لخطة مارشال” هي لما قامت به الولايات المتحدة من إعمار في أوروبا بعد دمار الحرب العالمية الثانية.

وقد تعثر تطبيق الخطة لعدة أسباب منها عدم استقرار الحكومة في إسرائيل وإجراء خمسة إنتخابات للكنيست في اقل من أربعة اعوام، وأجواء المزايدة المرافقة لها بين الأحزاب الصهيونية المتنافسة. هذا إضافة إلى عدم الاتفاق بشكل نهائي على تبادل الأسرى الذي هو جزء من الخطة والهدنة المتفق عليها.

ختاما، ما هو حاصل انه متى تنشأ سلطة في بقعة جغرافية محددة تدير شؤون السكان فيها، بعدتها وعتادها وبيروقراطيتها، حتى لو كانت محدودة الصلاحيات، تنشأ معها مصالح شتى تقف حائلة أمام تغيير هذا الوضع خشية تضرر هذه المصالح وما معها من منافع متنوعة، حتى لو كانت محدودة. هذا هو الوضع في غزة وفي الضفة الغربية. حكم ذاتي محدود الصلاحيات في ظل الإحتلال. هذا هو “المشروع الوطني” الآن بفعل الأمر الواقع في كلا الحالتين.

*قدمت هذه الورقة في مؤتمر مركز مسارات السنوي الذي عقد في رام الله في 3و4 كانون أول/ديسمبر 2022.


[1] The Institute for National Security Studies, 19-3-2019 https://www.inss.org.il/publication/israels-exhausted-strategy-deterrence-vis-vis-hamas/?offset=1&posts=2154

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *