محاولة نقاش الطوفان الذي جرف حماس والفلسطينيين والمنطقة كلها…

ما بعد عملية “طوفان الأقصى”، ليس كما قبلها، هذا ما كتبته يوم “الطوفان” هنا في مجلة “المجلة” بتاريخ (7/10/2023)، في أول مقال لي عن ذلك الحدث المهول، وفيه أكدت أننا لسنا في “الزمن الفلسطيني والعربي لتحرير فلسطين، مع كل التقدير للتضحيات والبطولات”، وأن “ما يخشى منه، هو تبلور معطيات تسمح لإسرائيل بالبطش بالفلسطينيين في غزة أو في القدس، أو تسمح للمستوطنين باستباحة بعض مناطق الضفة، أو اقتلاع وتشريد فلسطينيين من هذه المنطقة أو تلك”.
وأتبعت ذلك بمقال آخر بتاريخ (17/10/2023) عنوانه: “حرب غزة بين انتصار مرتجى ونكبة جديدة” جاء فيه: “نجحت (حماس) في عمليتها، لكن ثمن ذلك نكبة جديدة للشعب الفلسطيني… مقاومة الاحتلال، والظلم وإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية عمل إنساني، نبيل ومشروع، لكن الفلسطينيين الآن في كارثة مع أكثر من 2200 شهيد، وتشريد حوالي نصف مليون نسمة، فإذا لم تكن هذه نكبة، فما هي النكبة إذن؟”
الاستثمار الإسرائيلي في “الطوفان”
كانت تلك المقدمة ضرورية، للفت الانتباه إلى أن ثمة رأيا فلسطينيا آخر، يعتقد أن تلك العملية القوية، والمهولة، والمفاجئة، التي وجهت ضربة أمنية واستخباراتية ومعنوية، لم يسبق لإسرائيل أن تعرضت لمثلها منذ قيامها، أتت في ظرف دولي وإقليمي وفلسطيني وإسرائيلي غير مناسب البتة، وأنها أتت وفق حسابات غير مدروسة، ووفق رؤى قدرية وعاطفية متسرعة، وعلى أساس إدراكات من نوع أن إسرائيل “أوهن من خيوط العنكبوت”، وأنها آيلة إلى الانهيار، وأن “الملائكة ستقاتل معنا- بحسب خطاب محمد الضيف يوم الهجوم- مع المراهنة على أن أطراف محور “الممانعة والمقاومة” ستترجم عمليا شعار “وحدة الساحات”، وتشارك في المعركة، وكلها أمور تبينت، كما شهدنا، عن مجرد أوهام.
وبينما يؤكد هذا الرأي، أيضا، على مشروعية المقاومة ضد الاحتلال والظلم، إلا أنه ينظر إلى المقاومة كفعل شعبي إنساني، لا مجرد فعل لفصائل، وأن الكفاح المسلح أحد أشكال المقاومة، التي يجب أن تخضع لاستراتيجية سياسية واضحة وممكنة ومستدامة، وأن المعيار هو قدرة المقاومة على استنزاف عدوها، أي إسرائيل، وليس العكس، وتجنيب شعبها المخاطر، وعدم تحميله فوق ما يحتمل، وتجنّب زجّه في مواجهة خاسرة مع الآلة العسكرية العاتية للعدو، ما أمكن ذلك، والحذر من الاستدراج للوقوع في فخ الحرب، كجيش لجيش، وصاروخ لصاروخ؛ وهو ما مثلته عملية “الطوفان”.
وكما شهدنا، خلال العامين الماضيين، فإن إسرائيل استغلت تلك العملية، المفاجئة، وغير المسبوقة، والقوية، واشتغلت على استثمارها، في قلب واقع المشرق العربي، وفيما كانت عملية “طوفان الأقصى” بمثابة ذروة الخيار العسكري الفصائلي، أو الميليشياوي، مع إسناد “حزب الله” لـ”حماس” في غزة، والقصف الصاروخي ضد إسرائيل من “الحوثيين” في اليمن، ومن “الحشد الشعبي” في العراق، مع امتشاق شعار “وحدة الساحات”، فإنها كانت، أيضا، بمثابة ذروة إخفاق هذا الخيار، بطريقة مريعة وفاضحة وسريعة، إذ استطاعت إسرائيل، في ثلاثة أشهر (17/9- 17/12/2024)، تقويض قوة “حزب الله”، وتدمير قدرات الجيش السوري، بعد انهيار نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، وتحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي، بعد تدميرها غزة، وتشديد قبضتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، بحيث وضعت نهاية لكل “محور المقاومة والممانعة”، الأمر الذي تم بعد شن الحرب ضد إيران في يونيو/حزيران 2025، بمشاركة عسكرية من الولايات المتحدة…
في قصور إدراكات “حماس”
من كل ما تقدم يمكننا ملاحظة أن عملية “طوفان الأقصى” أفضت إلى كارثة، أي إنها بدل أن تستنزف إسرائيل، أو تضعفها، وهذا هو معيار المقاومة الناجحة، إذا بها تؤدي إلى عكس ذلك، حيث استثمرتها إسرائيل للبطش بالفلسطينيين، وتغيير المعادلات السياسية في المنطقة بمجملها، عدا عن الأثمان الفادحة، البشرية والاقتصادية والسياسية، التي نجمت عنها. وبشكل أكثر تفصيلا، فإن تلك الحرب بيّنت أن “حماس”، ورغم استعدادها الجدي لمعركة كهذه، طويلة وقاسية ومدمرة، ونجاحها في مباغتتها إسرائيل، وتكبيدها خسائر فادحة، غير مسبوقة في تاريخها، لم تحسب جيداً لجهة تهيئة مجتمعها لردود الفعل الإسرائيلية، ولا لجهة تحديد العنوان السياسي المناسب لتلك المعركة، كما أنها لم تحفظ خطا للرجعة، أو لسيناريوهات بديلة.
هكذا، فإن خطاب محمد الضيف، القائد العسكري لـ”كتائب القسام”، في أول يوم للمعركة (7/10/2023)، أشاع بأن المعركة الدائرة هي لتحرير فلسطين، وأشفعها بمطالبته كل الفلسطينيين، في 48، والقدس الشرقية، والضفة، بالانخراط فيها، ناهيك بمطالبته الأمتين العربية والإسلامية بدعم ذلك، ما يذكّر بخطابات بعض قياديي الحركة، عن زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، والتهديد بالمنازلة الكبرى، و بـ”وعد الآخرة”، بالقضاء على إسرائيل في ظرف أيام، دون أن ينسى الاستناد إلى تدخل “الملائكة”.
المسألة هنا لا تتعلق بمشروعية هذا الطرح، أو منطقيته، بل تتعلق بمدى ملاءمته للإمكانات، وموازين القوى وللواقع وللمعطيات العربية والدولية، وكلها مختلة كثيرا لصالح إسرائيل، ما يدفع إلى التساؤل عن طبيعة إدراكات قيادة “حماس”، وصوابية خياراتها. عدا ما تقدم فإن المسألة التي غابت، أو لم تكن واضحة، في ذهن قيادات “حماس” تكمن في الافتقاد لاستراتيجية كفاحية واضحة، وممكنة، ومستدامة، في مقاومة إسرائيل، علما بأن ذلك الأمر تتحمل مسؤوليته الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها، أيضاً، رغم تجربة طويلة وغنية عمرها 60 عاماً.
أيضا، يمكن في هذا المجال انتقاد استناد قيادة “حماس” لفكرة “وحدة الساحات”، وهو الأمر الذي انكشف عن مجرد وهم، إذ إن إسناد باقي الأطراف لـ”حماس”، كان دون المستوى، أو لا يتناسب لا مع مستوى الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، إذ معظم صواريخ “حزب الله” بقيت في مواقعها، أما الصواريخ التي أطلقها، هذا “الحزب” أو غيره، وحتى من إيران، فهي لم تؤثر كثيرا لا على إسرائيل، ولا على شدة حربها ضد الفلسطينيين.
في السياق ذاته، فقد ظلّت قيادات “حماس” تؤكد يوميا أن المقاومة بخير، أو أنها تنتصر طالما لم تنهزم، في حين كان كل سكان غزة في العراء، من دون ماء أو غذاء أو دواء أو كهرباء، مع دمار معظم البيوت كليا وجزئيا، ومع خراب بناها التحتية، علما أن لا شيء يعيب “حماس” أن تتحدث عن الواقع كما هو، بسلبياته وإيجابياته، بنقاط قوته وضعفه، إذ لا أحد يحمّلها مسؤولية هزيمة الجيش الإسرائيلي، وحدها وفي هذه الظروف…
الأنكى أنه وفي مناخات تلك الحرب المدمرة والفظيعة والمريرة روجت “حماس” لكثير من المقولات من مثل إن “إسرائيل لم تحقق أهدافها”، و”ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه”، و”خسائرنا تكتيكية وخسائرهم استراتيجية”، وأن “إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع للاعتداء على الفلسطينيين والبطش بهم”، وكلها لرفع المعنويات، وتأكيد مبدئية التشبّث بالمقاومة، بيد أنها في الأكثر تتوخى حجب مسؤولية قيادة “حماس” عما حصل، وعن انتهاج خيار بعينه، بدعوى أن القضية تحتاج إلى تضحيات…
على الأرجح فإن عملية “طوفان الأقصى”، التي بادرت إليها “حماس”، شكلت نهاية حقبة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي بدأت مع عملية “نفق عيلبون” التي بادرت إليها “فتح” في مطلع عام 1965، والتي شكّلت بداية انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني، أي إن ذروة الكفاح المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل، والذي تمثل بعملية “الطوفان”، هو ذاته شكل ذروة انهيار الكفاح المسلح، الذي طبع الحركة الوطنية الفلسطينية بطابعه، طوال الستين عاما الماضية، وهي نهاية تراجيدية بامتياز، لشكل كفاحي اعتورته كثير من الإشكاليات، والنواقص، مع مسيرة غنية ومريرة، وطويلة من المعاناة والتضحيات والبطولات.
في هذا السياق يمكن ملاحظة أن “حماس” لم تستطع تحقيق أي من الأهداف التي انطلقت من أجلها عملية الطوفان، بالنسبة لإضعاف إسرائيل، ودحر احتلالها للضفة، ورفع الحصار عن غزة، ووقف انتهاكات إسرائيل في القدس، وتبييض السجون، ومع التأكيد بأن “حماس” لا يمكن تحميلها كل ذلك، فإن وجود هذه الحركة هو الذي بات على المحكّ…
تبقى ملاحظة أساسية تتعلق بإسرائيل، فهذه رغم جبروتها، أو تفوقها، العسكري، والتكنولوجي، والإداري، والاقتصادي، باتت أكثر اعتمادية على الولايات المتحدة الأميركية، وأكثر انكشافا، وعزلة في العالم، بطبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، وأيضا كدولة إبادة جماعية. بيد أن هذه الحرب، على الصعيد الداخلي، عززت من تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية وعنصرية، على حساب طابعها كدولة ليبرالية وديمقراطية وعلمانية، ما يعزز التصدعات الداخلية فيها، بين الغربيين والشرقيين، والعلمانيين والمتدينين، والمعتدلين والمتطرفين، وكل هذه التحولات تجعل منها مجرد “غيتو”، على شكل قلعة، في المنطقة، الأمر الذي يتناقض مع كل المساعي للسلام أو للتطبيع معها.
من كل تلك الأوجه، فإن إسرائيل ما بعد “طوفان الأقصى”، وتداعياته، باتت في حالة جديدة، أو كإسرائيل جديدة، في شكل علاقتها الصراعية مع الفلسطينيين، وفي شكل تموضعها في المنطقة، وأيضا في رؤيتها لذاتها، في الإقليم والعالم، في محاولتها التحول من “إسرائيل الصغرى” إلى “إسرائيل الكبرى”، بحسب ما ذكر بنيامين نتنياهو، مؤخرا، عن الحلم الذي عاش من أجله، وأيضا، لجهة مصير تحولها، من دولة ديمقراطية ليبرالية إلى دولة يهودية دينية، وأيضا من اعتبارها ذاتها كملاذ ليهود العالم إلى كونها عبئا على اليهود في العالم، وعلى المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، سياسيا وأمنيا وماليا وأخلاقيا.
هكذا، ما بعد “الطوفان”، وحرب الإبادة الإسرائيلية، ليس كما قبلهما، بالنسبة لمختلف الأطراف، لإسرائيل، وللشعب الفلسطيني، وللحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها السلطة في الضفة وغزة، وحتى بالنسبة للمشرق العربي، وصولا لإيران أيضا.
عن المجلة