محاولة لتفكيك أسطورة رفض التوطين

ماجد كيالي

موقع “درج”، 11/7/209

تشكّل قصة التوطين أو رفضه، واحدة من الأساطير التي تأسّست عليها مفاهيم مقاومة المشاريع الإمبريالية والصهيونية، منذ 7 عقود. وكما في كل أسطورة فإن الهزيمة هي دائماً، بل وحتماً، من نصيب تلك المشاريع. ويبدو أن ذلك سيحصل مع ما يسمى خطة “صفقة القرن“، التي يفترض أن تطرحها إدارة ترامب، ويروج لها صهره جاريد كوشنر، الذي نبش مجدداً تلك القصة، أو تلك الأسطورة، بتأكيده أن الخطة المذكورة تتضمن توطين اللاجئين الفلسطينيين في البلدان التي يقيمون فيها، ما أثار ردود فعل معارضة ورافضة كالعادة. 

عموماً، ووفقاً لتلك الأسطورة فإن الشعوب في بلداننا رافضة دائماً، كأنها تمتلك الإرادة والقدرة على الفعل حقاً، والمقاومة دائماً منتصرة بدليل بقاء الأنظمة السائدة، على ما شهدنا في النكبة الأولى (1948) والنكبة الثانية (1967)، والنكبات التالية التي توالت. وفي غضون كل ذلك لا ينبغي أن يسأل أحد، مثلاً، لماذا لا تنتصر تلك الشعوب في معاركها من أجل حقوقها وحريتها، طالما أنها بتلك القوة التي تجعلها تنتصر دائماً على المشاريع والمخططات الإمبريالية والصهيونية المتوالية؟ ثم إذا كان اللاجئون من الفلسطينيين انتصروا في معاركهم ضد مشاريع التوطين المشبوهة، فلماذا لم ينتصروا في معاركهم من أجل حقهم في العودة؟ أو لماذا لم ينتصروا في معارك الدفاع عن حقوقهم وكرامتهم كبشر، في البلدان العربية التي تمتهن تلك الحقوق والحريات؟ وفوق كل ذلك، ماذا عن الفلسطينيين الذين باتوا مواطنين في الأردن، منذ 70 عاماً، مع العلم أن هؤلاء يشكّلون أكثر من نصف عدد اللاجئين الفلسطينيين في العالم (حوالى 3 ملايين نسمة)؟ أيضاً من هم إذاً أولئك الذين ذهبوا، طوال السنوات السبعين الماضية، إلى الدول الإسكندنافية والدول الأوروبية الأخرى، وإلى القارة الأميركية، وحتى إلى أستراليا، وباتوا مواطنين فيها، ويقولون إنهم فلسطينيون، ومن حيفا ويافا وعكا والقدس وصفد واللد والخليل ونابلس ورام الله وغزة وجنين والجليل؟

طبعاً تلك مجرد أسئلة، أي أنها لا تتوخّى القبول بأي شيء أو أي مشروع أو خطة، بقدر ما تتوخّى تفحّص الواقع في التجربة المتعيّنة، وتفكيك تلك الأسطورة، التي تنطوي على توهّم، أو تخيّل، كما في كل أسطورة. أيضاً تتوخى تلك الأسئلة البحث عن حقيقة وضع اللاجئين الفلسطينيين في البلدان العربية، بخاصة في مواطن اللجوء الأساسية في الأردن وسوريا ولبنان والعراق. 

ففي الأردن، الذي تحول من إمارة شرق الأردن إلى المملكة الأردنية الهاشمية (في الضفتين الشرقية والغربية للنهر)، تم حسم موضوع الجزء الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، بامتصاص قضيتهم منذ نشوئها (بعيد النكبة)، واستيعابهم في نطاق المواطنة. ومع ذلك ظل خطاب الأردن الرسمي مناهضاً للتوطين حتى الآن، كأن ذلك مجرد ضريبة كلامية واجبة، أو كأنه ضرورة للانسجام مع الخطاب العربي السائد. 

والمعنى من ذلك أن قضية اللاجئين الفلسطينيين كانت محسوسة أكثر في مواطنهم الأخرى، في لبنان وسوريا (وفي العراق ومصر بصورة أقل)، بيد أن مجمل تلك البلدان تعاملت مع قضية اللاجئين باعتبارها مجرد قضية إنسانية (تقع تحت مسؤولية وكالة أونروا)، أو كقضية أمنية (تفترض الضبط والربط)، كما باعتبارها دائماً موضوعاً للتوظيف السياسي، للمزايدة أو للابتزاز أو للاستخدام، سواء قبل نشوء المقاومة الفلسطينية (أواسط الستينات أو بعدها، وحتى الآن). 

هكذا منحت حكومات سوريا ولبنان والعراق ومصر اللاجئ الفلسطيني وثيقة سفر، كتعبير عن وجود موقت، إلا أنها حرمته من حقوقه السياسية، ومن المواطنة، بدعوى الحفاظ على وطنيته وصيانة قضيته والتمسك بحقوقه، علماً أن أقصى درجات الحرمان تلك تجلت في لبنان، الذي تذرع بتركيبته الطائفية، وخشيته على نسيجه الوطني، من وجود اللاجئين الفلسطينيين، حتى لو كانوا في مكانة المقيمين الموقتين، في تناقض مع المعايير الدولية سواء المتعلقة بحقوق الإنسان أو المتعلقة بحقوق اللاجئين. أما في سوريا فقد تمت مساواة الفلسطيني بالسوري، في ما عدا الحق في الترشح والانتخاب. لكن في ما بعد، أي في ظل نظام الأسد (بخاصة الابن) تم توظيف القضية الفلسطينية للمزايدة على الأنظمة الأخرى وابتزازها، وكانت محاولات عنيفة للهيمنة على القرار الفلسطيني، ومحاولات أخرى للقضم من حقوق الفلسطينيين في معاملات التملك والزواج، وفي الترفع في المناصب. 

ثمة حقائق يفترض إدراكها من قصة اللاجئين، أو من أسطورة التوطين ورفض التوطين، أهمها، أولاً، أليس ما حصل في الأردن توطيناً للجزء الأكبر من اللاجئين؟ ثم هل توطين هؤلاء تناقض مع انتمائهم لشعبهم الفلسطيني، أو قلّل من وطنيتهم الفلسطينية؟ ثم أليس ملايين من البشر في العالم اليوم يستحوذون على حقوق مواطنة في دولتين أو ثلاث دول، وضمنهم لبنانيون وسوريون وعراقيون ومغاربة وطليان ويونانيون وصينيون وهنود وروس؟ والفكرة أن المواطنة الثانية لا تلغي الأولى، ولا ضرورة لتحل محلها، أي أن رفض منح المواطنة للاجئ الفلسطيني مجرد ذريعة، ونوع من ممارسة عنصرية، وتخل عن معايير حقوق الإنسان الدولية. بيد أنها، لا سيما في المثال اللبناني، لا تشتغل من أجل تدعيم حق العودة، بقدر ما تشتغل باتجاه تطفيش الفلسطينيين وتشريدهم مرة ثانية، أي أنها تصب باتجاه تصفية قضيتهم؟ ثانياً، ثمة مئات آلاف الفلسطينيين اللاجئين (للمرة الثانية) من لبنان وسوريا والعراق باتوا في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، وباتوا مواطنين في تلك البلدان، في بحثهم عن حياة أكثر إنصافاً لهم كبشر، ما قد يمكّنهم من التعبير عن ذواتهم وعن حقوقهم الوطنية، لو توفرت السياقات السياسية المناسبة لهم. ثالثاً، إن فكرة رفض التوطين، هي فكرة الأنظمة السائدة ذاتها، التي لا تعترف بحقوق المواطنية لمواطنيها، أصلاً. وهي هنا تحجب أو تغطي على فكرة اضطهاد الفلسطينيين اللاجئين ومرمطتهم، ما يدفعهم إلى الهجرة بعيداً من أرضهم. رابعاً، يفترض لفت الانتباه إلى أن فكرة التوطين، رفضه أو قبوله، لم تطرح على الفلسطينيين اللاجئين المغلوب على أمرهم في بلدان اللجوء، فهؤلاء ليس لديهم ترف أو إمكان ذلك القبول أو الرفض، لأن الأمر مرتبط بالأنظمة التي تنفذ السياسات التي تراها إزاء الفلسطينيين، كما إزاء مواطنيها، أو من يفترض أنهم مواطنوها. خامساً، أليس غريباً وفاضحاً أن القيادات الفلسطينية، التي تدعي رفض التوطين، تحرص على الاستحواذ على أكثر من جنسية، لها ولأفراد عائلتها في حين تحرّم ذلك على شعبها، تماماً كما حرصها على بقاء المخيمات البائسة في حين هي تقطن في أحياء راقية في المدن. سادساً، هذا يحيلنا إلى التمييز بين الرفض النظري، والواقع العملي، الذي يدفع اللاجئ الفلسطيني للهجرة، والتوطن حيث يتاح له ذلك، مع تأكيد أن الفلسطينيين يتوقون للعودة إلى وطنهم فلسطين، ويكافحون من أجل حقهم في العودة.

قصارى القول، ثمة أساطير كثيرة، للحجب والتلاعب والتوظيف، ينبغي فحصها وكشفها وتفكيكها بدل السكوت عنها. وفي ما يخص اللاجئ الفلسطيني، فهو إنسان، أولاً وأخيراً، وهو يعيش حياة واحدة، ومن الأفضل له أن يعيشها كشخص طبيعي، وفي أحسن ظرف ممكن، أما الكفاح ضد مشاريع الإمبريالية والصهيونية، فيحتاج إلى أكثر من حياة، والقصة طويلة…

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *