«سرقت دموعنا يا ذئب. تقتلني وتسرق جثتي وتبيعها؟» هكذا اختصر محمود درويش في كلماته طبيعة هذا الكيان الوحش الذي أقيم على المجازر ثم ما فتئ يملأ الدنيا صراخا ضد ما يسميه الإرهاب، متهما الضحية بالتمرد على شروط قتلها عندما يمددها للذبح. كيان هجين وجدت فيه الدول الكولونيالية ضالتها للسيطرة على المنطقة وثرواتها الطبيعية من جهة، وتدفيع العرب ثمن المجازر التي اقترفها الأوروبيون بحق الجاليات اليهودية هناك، متوجين سنوات العنصرية والتمييز والإقصاء والتحقير بمحرقة اليهود المعروفة بالهولوكوست. فليس من الضرورة التخفيف أو التقليل أو إنكار المحرقة التي تظهر بشاعة العنصر الأوروبي الجرماني المتعالي، وليس هذا موضع اهتمامنا، ولكن أن تستخدم المحرقة غطاء وتبريرا لجرائم الكيان ومذابحه، السابق منها واللاحق، فهذا أمر يجب التصدي له وفضحه.

حدثان مهمان احتلا مواقع أساسية من أخبار المنطقة والعالم: انفضاح أمر مذبحة الطنطورة ونشر تقرير منظمة العفو الدولية حول نظام الأبرتهايد الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين. في الفترة نفسها اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بالإجماع يوم 20 كانون الأول/ديسمبر الماضي حول إنكار المذبحة أو التخفيف منها كليا أو جزئيا ومطالبة العالم بالتثقيف حولها، والاحتفال السنوي باليوم العالمي لذكرى المحرقة يوم 27 كانون الأول/ديسمبر. لكن الصخب الإعلامي حول قرار إنكار المحرقة والاحتفالات باليوم العالمي للمحرقة لم يتمكن من إخفاء قضية مذبحة الطنطورة وما أثاره الفيلم الوثائقي حولها والذي عرض في مهرجان «صندانس» في الولايات المتحدة وأثار ضجة كبرى كونه منتجا إسرائيليا لا أحد يشكك في انحيازه ومعاداته للسامية. الفيلم أساسا اعتمد على البحث الذي قام به أكاديمي إسرائيلي في تسعينيات القرن الماضي، لكن القوى المعادية لنشر الحقيقة استطاعت أن تجبر الكاتب على الصمت وسحب البحث. ودعنا نعود للقصة من أولها.

حقيقة المذبحة

تقع بلدة الطنطورة جنوب مدينة حيفا. كان عدد سكانها عام 1945؛ 1490 نسمة، ولها طريق معبدة تربطها بحيفا، وفيها سكة حديد، وميناء ومدرستان: واحدة للبنين والأخرى للبنات. كانت تعتمد على صيد السمك والزراعة مثل الحمضيات والموز والحبوب والزيتون.
المذبحة جاءت بعد أكثر من شهر على مذبحة دير ياسين وبعد أسبوع على إعلان ما سمي بـ«الاستقلال». لكن قرار المجزرة اتخذ يوم 9 ايار/مايو وكلفت الكتيبة الثالثة والثلاثون من لواء السكندروني في «الهاغانا» بتنفيذ المجزرة ليلة 22/23 ايار/مايو 1948.
لقد اختيرت القرية لسهولة مهاجمتها ولتعميم الرعب في قرى الساحل الفلسطيني الجميل كي يتم اقتلاع الوجود الفلسطيني من منطقة كان قادة الصهاينة يريدونها خالية من الوجود العربي وما كان ذلك يمكن إلا عن طريق المجازر والرعب.
بدأ الهجوم مساء 22 من البحر وبعد قصف متواصل للبلدة استمر عدة ساعات قامت قوات الكتيبة 33 من لواء السكندروني باقتحام البلدة من كافة الجهات بعد أن رفض أبناء البلدة الاستسلام. قاوم رجال البلدة حتى آخر طلقة واستشهد منهم عدد كبير نذكر منهم قاسم الدسوقي وعبد الرحمن الدسوقي وعيسى الحمدان (و11 من العائلة) وحسن أبو ماضي ومحمد شحادة وقاسم الدقناش ومحمد العوض وموسى عبد الرحيم. بعد انتهاء الإمكانية للمقاومة بدأت المجزرة بعد ذلك. وقد كان يتم إعدام الرجال في مجموعات من ستة إلى عشرة رجال. وكانوا يطلبون منهم أن يحفروا حفرة قبل قتلهم ليدفنوا فيها بعد إعدامهم. وقد تم إعدام نحو 230 رجلا وفر أو طرد نحو 1200 من سكان القرية من نساء وأطفال وكبار السن كانوا يفتشون بعناية ويسلبون كل ما لديهم. تم تغيير معالم المقابر الجماعية وتحولت بعدها إلى مواقف سيارات لمرتادي شاطئ موشاف دور.

التوثيق

لقد تكتمت السلطات الصهيونية عما جرى في حرب عام 1948 وأقفلت الملفات حول موضع المذابح والتطهير العرقي المدروس والمتعمد والممنهج. لكن عددا من المؤرخين الإسرائيليين أطلق عليهم «المؤرخون الجدد» وبعد السماح بنشر الأرشيف بعد 40 سنة من إنشاء الكيان أي عام 1988 بدأ عدد من الأكاديميين درسوا في الغرب ينبشون في الملفات وينشرون بعضها لأسباب منها قناعتهم بانتفاء الخطر الوجودي على الدولة مثل بني موريس وأفي شليم وتوم سيغف أو صحوة من ضمير أو لأنهم ينتمون إلى قوى اليسار الرافض للصهيونية أصلا مثل إلان بابيه. لكن الذي كشف عن مجزرة الطنطورة من المؤرخين الإسرائيلين هو ثيودور كاتس، أحد طلبة إلان بابيه، الطالب في دائرة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وقدم رسالة الماجستير بعنوان «تهجير العرب من القرى المحاذية لجبل الكرمل» ووثق المجزرة التي قام بها الجنود الإسرائيليون في ايار/مايو عام 1948 في الطنطورة بعد استسلامها. وثق المجزرة باستخدام منهج التاريخ الشفوي أي بجمع الشهادات من الشهود، حيث جمع شهادات من عشرين فلسطينياً من سكان الطنطورة وعشرين جندياً إسرائيلياً من فرقة الجيش التابع للهاغانا الذين شاركوا في تلك المجزرة أو كانوا شهوداً عليها. كان يلتقي بمن تبقى من الفلسطينيين في المناطق القريبة من القرية وكان يسألهم عما جرى في القرى العربية. ولاحظ أن كلمة «مذبحة كبيرة» تتكرر كلما ذكرت بلدة الطنطورة. يقول: «أذكر أن الصدفة جمعتني برجل تسعيني أخبرني عن المجزرة التي حدثت هناك، وللتأكيد على صدق قوله، بدأت أدقق في قضية القرية إلى أن توصلت إلى نتيجة قاسية، لقد شهدت القرية أكبر مجزرة تعرض لها الفلسطينيون في العام 1948 حين قامت وحدة السكندروني بقتل 230 فلسطينياً بدم بارد».
أكد كاتس في رسالة الماجستير في التاريخ في تسعينات القرن الماضي، أن الجيش الإسرائيلي (الذي تشكل من قوات الهاغانا بعد قيام الدولة بأسبوع) قتل الفلسطينيين العزل في الطنطورة خارج سياق المعركة، وأن ما حدث في الطنطورة كان مذبحة على نطاق جماعي. ويذكر أن القرية سقطت في يد الجيش الإسرائيلي، وانهمك الجنود لعدة ساعات في مطاردة دموية في الشوارع، وبعد ذلك أخذوا يطلقون النار بصورة مركزة على السكان لقتلهم حيث وصل عدد الضحايا نحو 230 دفنوا في مقابر جماعية حولت لاحقاً إلى ساحة لوقوف السيارات كمرفق لشاطئ مستعمرة دور على البحر المتوسط جنوب حيفا.
تم في البداية الترحيب برسالة الماجستير وحصلت على أعلى التقديرات من أساتذة جامعة حيفا، لكنها أثارت في ما بعد جدلا وطنيا واسعا بعدما وجدت طريقها إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية عام 2000. فقام قدامى المحاربين في وحدة «لواء السكندروني» التي ارتكبت مجزرة الطنطورة دعوى قضائية ضد كاتس بتهمة التشهير. وما لبث أن اعتذر وتراجع عن خلاصاته، الأمر الذي يقول عنه اليوم إنه «من أكبر الأخطاء» التي ارتكبها في حياته.

الفيلم الوثائقي

الذي أعاد نبش مذبحة الطنطورة هو الفيلم الوثائقي الذي أنتجه ألون شوارتس تحت عنوان «الطنطورة» الذي يتحدث فيه عن المذبحة التي نفذتها القوات الإسرائيلية عام 1948 والذي عرض في مهرجان صندانس في الولايات المتحدة، الذي يُعدّ أحد أفضل مهرجانات العالم المخصصة للأفلام التسجيلية، وكذلك تسليط المزيد من الأضواء على المجزرة في أعمدة صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بمناسبة عرض الشريط.
يشمل الفيلم اعترافات لجنود الجيش الإسرائيلي بأنهم شاركوا في المذبحة ويثبت مرة أخرى أن ما جرى عام 1948 من مجازر وإبادة وتطهير عرقي ما زال مفتوحا ولم يغلق. بالإضافة إلى الشهادات، يورد الفيلم آراء مؤرخين وخبراء، يطرح أحدهم نظرية حصول تحولات في مستوى الأرض قبل المعركة وبعدها تشير إلى تدخّل بشري بالتربة ما يمكن أن يؤشر إلى احتمال حفر مقابر جماعية في المكان.
ويخلص الفيلم إلى أن فلسطينيين قد يكونون دُفنوا تحت ما هو الآن موقف للسيارات بجوار شاطئ الطنطورة المقصود بكثافة اليوم. لم تعد هناك قرية اسمها الطنطورة، بل أقيمت على أنقاضها قرية دور السياحية التي أعلنت شواطئها محميات طبيعية.
يقول شوارتس إنه تحمّل «مخاطر نفسية شخصية» في التحقيق في أحداث الطنطورة، مضيفا «أنا هذا الرجل الذي اعتقد أنني متمكّن من واقعنا التاريخي، لكنني في الحقيقة نشأت على أسطورة» ويوضح «أن نروي لأنفسنا قصة أنه لم يكن هناك شعب قبلنا، لن يكون مفيدًا» معتبرا ذلك «أسطورة تأسيسية للأمة» ومضيفا «أعتقد أننا بحاجة إلى أن نكون حقيقيين وناضجين كمجتمع».

حق يأبى النسيان

على إثر عرض فيلم «طنطورة» الذي سلّط الضوء مجددًا على المجزرة الرهيبة، وفي أعقاب المعلومات الجديدة حول القبور الجماعية، اجتمع ذوو الشهداء والناجين الذين لجأوا لقرية الفريديس، صباح السبت الماضي 29 كانون الثاني/يناير، وبحثوا بحضور ناشطين، مسألة الإعلان عن القبور الجماعية، مكانا مقدسًا، بعد فحصها وتحديدها وفق شهادات الناجين وعلى يد خبراء ومختصين. وأفضى الاجتماع إلى تأسيس لجنة شعبية لذوي شهداء المجزرة، لمتابعة قضية القبور الجماعية والبدء بخطوات فعلية، لتحقيق مطلب ذوي الشهداء، وهو إلزام المؤسسة الإسرائيلية بالاعتراف بالجريمة ومنح ذوي الشهداء حق معرفة مكان دفن الضحايا، ووقف انتهاك قدسية المقبرة التاريخية للطنطورة والقبور الجماعية، من قبل مستوطنتي دور ونحشوليم، وحماية القبور وصيانتها وفق الشريعة الإسلامية.
كيان أقيم على المذابح والإبادة والتطهير العرقي، يستقبل في عواصم العرب كأنه منقذ ومخلص وشريك وحليف. ألا بئس ما يفعلون.

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *