ما كُتِب وما لم يُكتب في “غزّاوي”!
قد يبدو العنوان بحد ذاته مستفزاً للبعض، ومحل فخرٍ للبعض الآخر، فهو مصطلح مُتناقض، لأنّه بالأصل كان يُطلق في الخارج على كل القاطنين في غزة، سواء لاجئين أو مهاجرين، أو “غزازوة” الأصل، بينما في داخل غزة لا يطلق إلا على المواطنين أي لا يمكن إطلاقه على القاطنين مؤقتاً في المخيم أو المعسكر، وقد حملتُ هذه الصفة مثل كثيرين عاشوا خارج غزة، وهو بالنسبة لي محل فخر، كما هو أيضاً محل نقمة في تعامل العالم مع “الغزّاوي”.
واختار الكاتب جمال زقوت هذا التوصيف عنواناً لكتابه، الذي يحيل لمُتناقض آخر، فثمة من سيعتقد أن الأحداث التي يرصدها كلها كانت في غزة، مع أن من يقرأه يكتشف أن ثلثي أحداثه كانا خارج القطاع.
كانت فرصة أن ألتقي بجمال زقوت في عزاء الشاعر الراحل زكريا محمد، وحدّثني عن واقعة حول خالي محمد أبو النصر (الوحش)، حين خطف الأميركي كريس جورج مدير مؤسسة إنقاذ الطفل، وكانت نائبته نائلة زوجة جمال، وهنا اتهم الاحتلال نائلة بأنها تواطأت في عملية للخطف، وبعد اعتقالها تمّ التأكد أن لا علاقة لها بالأمر، كما أكد لي أنه لا يزال يذكر حين تم تسليم جثة خالي دون رأسه.. حفزني الحوار هذا على قراءة الكتاب، لكن اتضح لي أن كلّ ذلك لم يكن مذكوراً فيه، لأعرف بعدها أنّ الكتاب كان من المفترض أن يخرج بما يزيد عن ستمائة صفحة تم تقليص عددها لاحقاً إلى ٣٨٠ صفحة غير الصور.
ومع ذلك قد يكون عدد الصفحات غير محفز للقراءة، لكنّ ما أن تبدأ به ومن ثم تستطرد حتى يأخذك إلى آخره، فاللغة التي كتبت فيها سردية، وكأنها مروية او محكية مُحكمة، وقد يكون هذا من صفات زقوت الإبداعية، لكن شكره في مطلع الكتاب للروائي ربعي المدهون يوحي بلمسات ما للأخير.
وما أن ُينشر الكتاب كغيره يصبح ملكاً لعامة القرّاء، وبالتالي لهم وحدهم التعامل معه كرواية أو كسيرة، أو كتابة تاريخية أو غير ذلك.. عن نفسي اعتبرته كتاب تأريخيّ مهم لحقبة لم تأخذ حقها في الكتابة بسبب الأحداث المتلاحقة ربّما، خاصة فترة الانتفاضة الأولى، كما أجد أن كلّ ما جاء في الكتاب يندرج في اطار التأريخ الاجتماعي الفلسطيني الذي نفتقده كثيراً، والذي تكتبه عادة الطبقة الوسطى، لا الطبقة الحاكمة او الرأسمالية، أو المتنفذة بأي شكل ما، وهذا يأخذني لمأخذ آخر قد يتناقض مع تعريفي هذا، وقع فيه الكاتب، وهو تسليطه الضوء كثيراً على شخصيات أصبحت فعلاً في موقع اتخاذ القرار الفلسطيني، بل والحكم فيما بعد، على حساب شخصيات قد تكون ثانوية أو فرعية لعبت دوراً مُهماً، وربّما أهم ممّن ذكروا.
وقد يكون واقع جغرافيا المخيم وراء ذلك بحكم الجيرة والتلاحم والمعرفة، إلا أن شخصيات أخرى كثيرة ممّن لعبت دور القيادة، وذكرت في “غزّاوي”، ليس لها علاقة بالمخيم، بحيث لم يعد المخيم نقطة ارتكاز الكتابة، بل اقتصر دوره على كونه نقطة البدء الأساسية التي بنى عليها زقّوت سرديته.
وأغلب من تحدث عنهم زقّوت في المخيم، وكانوا رفقاء أو أصدقاء أو جيران أو معارف، خاصة في سنيّ طفولته، جميعهم باتوا يعيشون خلافات سياسيّة حادة أفضت لما نحن فيه الآن، رغم أنهم من مخيم واحد!
الصورة الجماليّة الأخرى للكتاب تنقل السرد بين عدّة مناطق، بحيث يسافر بالقارىء من مخيم اللجوء وحياة بؤس المُهجّرين من أرضهم، وأزقته الضيقة وبيوت “الزينكو”، إلى حكايات أبطال أسدود، قريته المُهجّرة، التي بالتأكيد لم يعشها لكن سمعها في المخيم، وبينهم: عبد الله زقوت، أو الشيخ البربراوي، وصولاً للشخصيات التي عايشها كالشيخ أحمد ياسين، وزميله في المدرسة وابن المخيم نفسه إسماعيل هنية، وشيوعيي أسدود من عائلته.
ولمستُ تأثيراً كبيراً لحضور شخصية بشير، شقيقه الشهيد، في الكتاب كما في مسيرته الحياتية، ومحطّاتها الجغرافية والسياسيّة، وبينها القاهرة والإسكندرية، والبيان الأول لانتفاضة الحجارة، وتبلور القيادة الموحدة لها، فقد أنصف صاحب “غزّاوي” شخصيات كثيرة بذكرها وتوثيق حضورها، رغم الخلاف القائم حول أسبقية البيانات.
ومع انتقال جغرافيّة الكتاب إلى بيروت، لفت انتباهي توثيقه للكثير من الأحداث، وربطها بواقعه، رغم أنه ليس طرفاً فيها، وصولاً لبلغاريا وحفاوتها، وعودته والتحقيق معه لعلاقاته بالجبهة الديمقراطية، واتحاد الطلبة، ومن ثمّ حديثه عن أيامه في المعتقل.
خلال قراءة “غزّاوي” تشعر غياب ترتيب التواريخ تصاعدياً أو العكس، لربما لكون الكاتب، وخلال استرساله في الكتابة، تذكّر مواقف ما لتواريخ قبل أو بعد فذكرها، وهو ما قد يتسبّب بحالة تشتّت لدى القارىء بعض الشيء.
وممّا جاء في الكتاب أيضاً، حديثه عن الاتحاد العام لطلبة فلسطين، والمؤتمرات التي شارك فيها، والقيادات التي كانت محورية، آنذاك، كما أفرد فصلاً كاملاً لنائلة الزوجة وعلاقتهما الممتدة والمتواصلة، وما تعرضت له من اعتقال أفقدها جنينها.
وأشار زقوت في كتابه إلى أن حيدر عبد الشافي كان له دورٌ بارزٌ في الانتفاضة، حيث حمل رسالة كتبها عبد الشافي إلى رام الله بهدف توسيع دائرة التحرك المناهض للاحتلال في الضفة.
كما سافرت جغرافية الكتاب إلى تونس، التي أصبحت مقرَ قيادة منظمة التحرير الفلسطينيّة، والجزائر القاعدة العسكرية للثورة، ثم أثينا، وذلك ضمن تحركات زقوت السياسية.
كتاب “غزّاوي” غنيّ بالأحداث والمواقف التوثيقية التي لم تغب عنها وجهة نظر الكاتب ومواقفه، وهذا طبيعي، لأن زقوت هنا يطرح سرديته هو كما عرفها أو رآها، وليس مطلوب منه، برأيي، أكثر من ذلك، فالمجال مفتوح لتظهر كتابات أخرى تفسّر أو تتوافق أو تتناقض معها.
ورغم أن الكتاب جاء متأخراً، لكنّ مضمونه على درجة كبيرة من الأهمية، ويمكن البناء عليه، خاصة مع غياب كتابات توثق لتلك الحقبة، فقد يكون “غزّاوي” مفتاحاً لأبواب أخرى، بحيث يقوم غيره بهذا الدور، ما من شأنه أن يراكم لجهة ثراء المشهد المعرفي والثقافي.
ويحسب لهذا الكتاب أو هذه المذكرات، أنها واكبت حقبة مهمة، وتميّزت بغزارة الأحداث فيها، ولم يكن لكثيرين أن يتحدثوا عنها، خاصة أنّ معرفتي وعملي سابقاً مع زقوت في اللجنة المدنية بغزة قبل 25 عاماً، لم يترتب عليها ما يوحي أنه سيكتب شيئاً جميلاً وإنسانيّاً بهذا الشكل، ذات يوم.
عن منصة فلسطين الثقافية