مع ما يلزم من التحفظ، يمكن القول بأن هناك ثلاثة محاور متنافسة ومتصارعة على اقتسام النفوذ في اقطار الوطن العربي (خاصة، وان لم يكن حصرا، اقطار المشرق العربي). هذه المحاور الثلاثة، الواضحة والمميزة، هي التالية:
1 . المحور الإيراني/الشيعي.
2 . المحور التركي/الاخواني.
3 . المحور السعودي/ المصري (ودولة الامارات العربية المتحدة عضو فاعل فيه).
فاذا كان المحور (١) هو الأكثر نفورا من كل من إسرائيل وامريكا وابتعادا عنهما، فان المحور (٣) هو الأكثر اقترابا منهما وانجذابا اليهما. اما المحور التركي/الاخواني فيحتل منزلة بين المنزلتين، أي يحتل موقعا وسطا بين الطرفين. لكن الوسط في هذه الحالة ليس بالقطع ذهبيا! هذا الوسط ينفر أعضاؤه من إسرائيل او ينجذبون نحوها ونحو أمريكا بدرجات متفاوتة.
غني عن القول بان الصراع بين المحورين (١) و (٣) هو الاشرس والاشد حدة. يليه في درجة الشراسة والحدة ذلك الصراع بين المحورين (٢) و (٣). هذا التصنيف للمحاور ودرجة شراسة وحدة كل منها يفسر، الى حد كبير، نزعة/نزوة دولة الامارات الجامحة للتطبيع العلني وبعيد المدى مع إسرائيل. اذ ان خوفها المفرط من إيران والمحور الذي تقوده، وكذلك خوفها المفرط من الاخوان المسلمين المدعومين من قبل تركيا، هو الذي يدفعها الى مغازلة إسرائيل والتطبيع معها، خاصة في غياب او ضعف الكوابح الرادعة. وكان الاتفاق على وقف او ارجاء ضم بعض الأراضي الفلسطينية، والذي شرعنته “صفقة القرن”، ولوح بتنفيذه رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو، ليس أكثر من ورقة التوت لتغطية “عورة” التطبيع الجدي والدافيء. اما الكوابح الرادعة، والغائبة او شبه الغائبة، فهي على نوعين رئيسين، واحد فلسطيني والثاني عربي.
لاسباب كثيرة، على راسها الانقسام وتكلس الأطر القيادية الفلسطينية وغياب المقاومة الجدية والمؤثرة، فقد فقدت القضية الوطنية الفلسطينية كثيرا من الوهج، وهج الجذب ووهج الردع على حد سواء. ولم تعد تحتل بالتالي تلك المكانة المتقدمة التي كانت تحتلها سابقا في الوجدان العربي وفي سلالم أولويات الدول العربية. كما لم تعد تحتل تلك المكانة التي كانت تحتلها سابقا بسبب انهيار التضامن العربي، ذلك الانهيار الذي بدا بغزو العراق للكويت في صيف ١٩٩٠ ووصل أوجه في الانقسام الى المحاور الثلاثة المتصارعة مؤخرا، تلك المحاور التي سبقها وتخللها تفكك بعض دول “الربيع العربي”. وإذا اخذنا بعين الاعتبار وهن المحور الذي تنتمي اليه دولة الامارات من جهة، وقرب دولة الامارات من إيران وخوفها منها من جهة ثانية، وهواجسها من المحور التركي/الاخواني من جهة ثالثة، لفهمنا لماذا هرولت للتطبيع العلني والدافئ مع إسرائيل برعاية وبضمانات أمريكية، وبتواطؤ او سكوت “مؤامراتي” من قبل دول المحور المذكور. باختصار شديد، لقد تصرفت دولة الامارات وكأنها دولة غير عربية حين اختار حكامها التطبيع مع إسرائيل على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. عن هذا التصرف لحكام دولة الامارات، في ظل وهن او ضحالة التضامن العربي ورداءة الزمن الفلسطيني، يصح قول شاعر القطرين: “ما كانت الحسناء ترفع سترها لو ان في هذي الجموع رجالا”!
ما العمل؟
سؤال “ما العمل؟” هو سؤال مركب من ثلاثة أسئلة مترابطة هي التالية: من عليه واجب العمل؟ مع من تعمل؟ وماذا، ولتحقيق أي غرض/هدف، تعمل؟ الإجابة على السؤالين، الأول والثاني، سهلة نسبيا. اما الإجابة على السؤال الثالث فمعقدة ومركبة. فالمطالب بالعمل هو أساسا القيادات السياسية والنخب الثقافية والاتحادات والروابط المهنية الفلسطينية والحلفاء العرب وغير العرب. اما جمهور الهدف او الجمهور المخاطب فهو الحكام والشعوب العربية بعامة، وحكام وشعوب تلك الدول المرشحة للتطبيع، او المراودة عن نفسها لغرض التطبيع، مع إسرائيل بخاصة (البحرين وغيرها من دول الخليج العربي). اما الأهداف التي يتوجب التركيز على تحقيقها فهي التالية، مرتبة حسب الأولوية:
– احتواء التطبيع بين إسرائيل ودولة الامارات والعمل على ابقائه في الحدود الدنيا. وفي جميع الأحوال، الحرص الشديد على عدم استعداء الشعب الاماراتي.
– ردع أي دولة عربية أخرى تسول لها نفسها التطبيع الرسمي مع إسرائيل بما يناقض مبادرة السلام السعودية/العربية لعام ٢٠٠٢.
– ردع أي دولة إسلامية تسول لها نفسها التطبيع الرسمي مع إسرائيل بما يناقض مبادرة السلام المذكورة أعلاه.
ولكي يتسنى للفلسطينيين استعادة قوة الردع، التي تأكلت في العقدين الأخيرين، يتوجب عليهم، أولا وقبل أي شيء اخر، تجاوز واقع الانقسام. كما وعليهم إعادة بناء م.ت.ف. على أسس ديمقراطية وتشاركية بعد فصلها عن السلطة الوطنية، تصعيد النضال الميداني/الشعبي ضد الاحتلال، والحرص على عدم الانحياز لأي من المحاور الإقليمية التي تسعى لاقتسام النفوذ في اقطار الوطن العربي. ويتوجب عليهم، تاليا، عمل ما أمكن وما لزم، وبالمشاركة مع العرب وغير العرب المعنيين الاخرين، لترميم التضامن العربي، ولو بحده الأدنى.
وفي الاجمال، هناك شرطان، كل منهما اساسي، لإعلاء شان القضية الفلسطينية وزيادة، او لإعادة انتاج، قوة لجمها وردعها لنزعات/ نزوات التطبيع، هما: القدر المعقول من التضامن العربي والنضال الميداني الفلسطيني الجدي بقيادة متجددة، وكلاهما غير متوفرين بالحد الأدنى هذه الأيام. وبما ان ترميم التضامن العربي بعيد المنال في المستقبل القريب، تكتسب المراهنة على إعادة بناء م.ت.ف. وتصعيد النضال الميداني الفلسطيني أهمية خاصة.
وختاما، لا يجدي كثيرا ذلك التعبير عن الغضب الفلسطيني على ما فعلته دولة الامارات، مهما كان ساطعا، كما لا يجدي اتهامها بخيانة القضية الوطنية الفلسطينية والخروج عن “صف عربي” لم يعد فاعلا او حتى قائما. فبدون التضامن العربي المقنع والنضال الفلسطيني الرادع، لا غرابة ان ترفع دولة الامارات (ولاحقا غيرها من دول ذات المحور) سترها!
سعيد زيداني، أستاذ الفلسفة-جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقا.