ما بعد البقاء: أزمة المياه والصرف الصحي في غزة والحاجة إلى وقف إطلاق النار والتحرك الدولي

1. السياق

أدت الحرب المستمرة في غزة، والتي شهدت تصعيداً كبيراً بعد 7 /تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى واحدة من أشد الأزمات الإنسانية حدة في التاريخ الحديث. وبعد 17 عاماً من الحصار الإسرائيلي، دفعت الحرب بالشعب الفلسطيني إلى حافة الهاوية. لقد تسببت هذه الحرب، التي شهدت ارتكاب المجازر وعمليات التدمير الشاملة والقصف المستمر، في معاناة لا توصف فُرضت على سكان غزة المدنيين البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة. حتى 24 أيلول/سبتمبر 2024، أفادت وزارة الصحة في غزة بمقتل أكثر من 41,495 فلسطينياً وإصابة ما يقرب من 96,006، غالبيتهم من النساء والأطفال.[1]  هذا العدد الهائل من القتلى لم يسبب صدمة ويثقل كاهل الأسر والمجتمعات فحسب، بل أدى أيضاً إلى شل أنظمة الصحة والبنية التحتية الضعيفة التي تدعم الحياة في غزة.‎

‎قبل وقت طويل من السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت أنظمة المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية (WASH) في غزة على حافة الانهيار. فعلى مدى عقود من الزمن، أدى الاحتلال العسكري الإسرائيلي والحصار المفروض على غزة والسيطرة والتحكم بدخول الموارد إليه إلى تقويض البنية التحتية في القطاع على نحو منهجي. لقد عانى الفلسطينيون في غزة على مدى سنوات طويلة من عدم قدرتهم على الحصول على المياه الآمنة والصرف الصحي المناسب وخدمات الرعاية الصحية. وعرقل الحصار الذي يقيِّد حركة الأشخاص والبضائع والموارد إصلاح وتطوير المرافق الأساسية، مما جعل السكان يعتمدون على المساعدات الدولية لتلبية حتى احتياجاتهم الأساسية.

ومنذ تصعيد الأعمال العسكرية بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، شهد الوضع تدهوراً سريعاً مستمراً. لقد حرم تدمير البنية الأساسية الرئيسية للمياه والصرف الصحي – بما في ذلك آبار المياه وأنظمة الصرف الصحي ومحطات تحلية المياه وشبكات تصريف مياه الأمطار – معظم السكان من إمكانية الحصول على مياه الشرب الآمنة أو الصرف الصحي المناسب. وأوجدت الحرب الظروف المثالية للكوارث الصحية العامة، وخصوصاً مع تفاقم خطر تفشي الأمراض جراء اكتظاظ الملاجئ والمستشفيات والأضرار الواسعة النطاق التي لحقت بالبنية الأساسية.[2]

إن حجم الدمار الحالي غير مسبوق. لقد استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية البنية الأساسية المدنية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس ومرافق المياه والمناطق السكنية، مما أجبر أكثر من 90% من سكان غزة على الفرار من منازلهم، كما تحولت أحياء بأكملها إلى أنقاض. ومع اقتراب موسم الأمطار، فاقم خطر غرق المناطق بالمياه وتشكل السيول وفيضان الصرف الصحي الظروف المعيشية التي تفوق قدرة الأسر النازحة على الاحتمال.

ومع ذلك، فإن هذه الأزمة ليست مجرد نتيجة للأحداث الأخيرة، بل إنها متجذرة في الإنكار السياسي الطويل الأمد لحق الفلسطينيين في تقرير المصير.[3]  منذ نكبة عام 1948، واجه الفلسطينيون النزوح المستمر والطرد والحرمان من حقوقهم الأساسية، وتعرض قطاع غزة لحروب متكررة وتوغلات عسكرية وتدابير العقاب الجماعي مما ترك سكانه محاصرين في حلقة من الدمار وإعادة البناء. إن فشل المجتمع الدولي في معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، بما في ذلك الاحتلال والحصار المستمرين، بالإضافة إلى شلل الجهود الدبلوماسية، جعل آمال الفلسطينيين تتلاشى بوجود فرصة للتوصل إلى حل سياسي مستدام.

2. الجهات الفاعلة الرئيسية

2.1 قوات الجيش الإسرائيلي

وفقاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني، تتحمل إسرائيل، بصفتها القوة المحتلة، مسؤولية ضمان رفاه السكان المدنيين في الأراضي المحتلة. ومع ذلك، فقد انتهكت هذه الالتزامات مراراً وتكراراً من خلال استهداف المدنيين، واستخدام المياه كأداة للعقاب الجماعي، وتقييد دخول المساعدات الإنسانية والوقود وقطع الغيار الأساسية لإصلاح البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في غزة. وبصفتها القوة المحتلة، تمارس إسرائيل سيطرة كبيرة على حدود غزة الجوية والبحرية والبرية. وقد أدت الحرب والحصار المستمران إلى تعميق الأزمة الإنسانية، مما يحول على نحو تام تقريباً دون حصول الفلسطينيين على الضروريات الأساسية، مثل المياه الآمنة والإمدادات الطبية. ‎لقد استهدفت العمليات العسكرية الإسرائيلية والقيود التي تفرضها إسرائيل المدنيين والبنية الأساسية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية بشكل منهجي، ما يعني استخدام المياه كسلاح وارتكاب إبادة جماعية. ومن خلال تقييد المساعدات الإنسانية وفرض العقوبات الجماعية، تواصل إسرائيل مفاقمة الأزمة ومنع المتخصصين بالمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في غزة من توجيه جهود التعافي على نحو مستقل.

2.2 السلطات الفلسطينية

لقد خلقت الهجمات العسكرية المستمرة في غزة بيئة تواجه فيها السلطات الفلسطينية والوكالات الدولية صعوبات للحفاظ على خدمات المياه والصرف الصحي الأساسية والنظافة الصحية والمرافق الصحية. وتقف سلطة المياه الفلسطينية ووزارة الصحة على الخطوط الأمامية لإصلاح المرافق لكنها تواجه قيوداً مشددة. لقد أودت الحرب بحياة العديد من العاملين في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والرعاية الصحية، وهو ما أدى إلى تقليص قدرة سلطة المياه الفلسطينية ووزارة الصحة على إدارة الأزمة بشكل فعال مع الارتفاع الكبير في عدد القتلى على نطاق واسع، وتدمير البنية التحتية الحيوية، والنقص الحاد في الإمدادات الحيوية. إنهم يسعون جاهدين للتعاون مع الشركاء الدوليين، لكن العمليات الحربية المستمرة تقيِّد بشدة جهودهم لإعادة الخدمات وإدارة تفشي الأمراض. إن التركيز على تعزيز قدرتهم على اتخاذ القرار والعمل بشكل مستقل أمر بالغ الأهمية لإيجاد حلول مستدامة.

2.3 مقدمو الخدمات المحليون

تواجه مصلحة مياه البلديات الساحلية والبلديات المحلية، وخصوصاً في مدينة غزة وفي خان يونس ودير البلح، صعوبات لمواصلة تقديم الخدمات الأساسية، وجاءت الحرب لتقوض قدرتها على العمل بعد تدمير غالبية البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في غزة. إن السجل المشهود له لمقدمي الخدمات في تشغيل مشاريع معقدة في ظل ظروف شديدة الصعوبة يسلط الضوء على الحاجة إلى تمكين الجهات الفاعلة المحلية، ومع ذلك يعوقهم نقص الوقود والدعم الفني. يحتاج مقدمو الخدمات المحليون إلى الموارد والدعم الدولي لإصلاح الخدمات الأساسية وجعلها تعمل على نحو فعال ومستدام.

2.4 المنظمات الدولية

تضطلع وكالات الأمم المتحدة، مثل اليونيسف والأونروا ومنظمة الصحة العالمية، إلى جانب المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية بدور حاسم في تقديم المساعدات. والجهود التي تبذلها لإعادة تأهيل أنظمة المياه وتوزيع أدوات النظافة الصحية وإدارة تفشي الأمراض بالغة الأهمية في منع حدوث كارثة إنسانية أكبر. ومع ذلك، تواجه هذه المنظمات قيوداً شديدة تفرضها إسرائيل، بما في ذلك تقييد دخول الإمدادات الأساسية، مثل الوقود وقطع الغيار اللازمة لمرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية. إن الجهود الإنسانية، وعلى الرغم من أهميتها الحاسمة، يجب أن تعمل على تمكين المهنيين المحليين بدلاً من جعلهم يعتمدون عليها. ويواجه العاملون في المجال الإنساني مخاطر كبيرة في تقديم المساعدات، مع ورود تقارير متكررة عن تعرض قوافل المساعدات والعاملين فيها لهجمات.

3. الآثار على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والصحة العامة

3.1 أضرار البنية التحتية وندرة المياه

وفقًا لتقرير جرائم الحرب المائية الصادر عن منظمة أوكسفام (2024)،[4]  تلجأ إسرائيل على نحو منهجي إلى التدمير المستهدف لأنظمة المياه والصرف الصحي الذي أدى إلى تدمير ما يقرب من خمسة مرافق مياه وصرف صحي أساسية أو ألحاق الضرر بها كل ثلاثة أيام. وحتى أيلول/ سبتمبر 2024، كانت غالبية مرافق إنتاج المياه في غزة إمّا معطلة تماماً أو لحقت بها أضرار جسيمة.

  • إمدادات المياه: انخفض إنتاج المياه في غزة بنسبة 84%، ما حرم نحو مليوني شخص مما يحتاجونه من المياه الآمنة. وخُفضت إمدادات المياه المشتراة من شركة المياه الإسرائيلية، ميكوروت، بنسبة 78%، وهو ما زاد تقليص المياه المتوفرة. وتوفر إمدادات المياه المتاحة حالياً 4.74 لترات فقط للشخص الواحد يومياً، وهو ما يعد أقل من ثلث معايير أسفير الإنسانية (Sphere Humanitarian Standards) التي توصي بحد أدنى من 15 لتراً للشخص الواحد يومياً في حالات الطوارئ.[5]  وقد ترك هذا العجز السكان يواجهون صعوبات جمة لتلبية حتى احتياجاتهم الأساسية إلى النظافة والاستهلاك.
  • تدمير المرافق الرئيسية: تم تدمير أكثر من 88% من آبار المياه، وجميع مختبرات اختبار جودة المياه، والعديد من محطات تحلية المياه – وهي لا غنى عنها لتوفير مياه الشرب الآمنة في غزة، حيث معظم المياه غير صالحة للشرب. بالإضافة إلى ذلك، تعطلت 70% من مضخات الصرف الصحي و100% من محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وهو ما يخلق مخاطر بيئية واسعة النطاق. وبعد توقف خمس محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي بشكل كامل عن العمل، تدفقت مياه الصرف الصحي غير المعالجة مباشرة في المياه الساحلية والبيئة.
  • فيضانات الصرف الصحي وتلوث التربة: تسبب انهيار مرافق معالجة مياه الصرف الصحي في فيضان الصرف الصحي في الشوارع والمناطق السكنية. ونظراً إلى أن شواطئ غزة ملوثة بشدة بالبكتيريا المسببة للأمراض والبلاستيك الدقيق والنفايات الصلبة، فإن تسرب هذه المياه إليها يمثل خطراً على السكان والنظم البيئية. وبدون تصريف فعال لمياه الأمطار، من المتوقع أن يؤدي موسم الأمطار إلى مزيد من الفيضانات، وانتشار مياه الصرف الصحي غير المعالجة على نطاق أوسع.
  • تراكم النفايات الصلبة: أدى تراكم النفايات الصلبة، في غياب عمليات انتشالها بسبب إغلاق المكبات ومواقع التخلص منها والتي يوجد العديد منها في مناطق مكتظة بالسكان، إلى تفاقم أزمة الصحة العامة، إذ يؤدي تراكم القمامة في الشوارع إلى توفير أرض خصبة لتكاثر ناقلات الأمراض، مثل القوارض والذباب والبعوض، ما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض التي تحملها هذه النواقل.

3.2 حالة الطوارئ الصحية العامة وتفشي الأمراض

أدى انهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في غزة إلى حالة طوارئ صحية عامة غير مسبوقة، مع ازدياد حالات الإصابة بالأمراض المعدية بسبب نقص المياه الآمنة والصرف الصحي المناسب وظروف المعيشة المكتظة.

  • تفشي شلل الأطفال بعد 25 عاماً: أحد أكثر التطورات إثارة للقلق هو عودة ظهور شلل الأطفال، وهو مرض تم اجتثاثه في غزة قبل 25 عاماً. أدى ظهور شلل الأطفال من جديد في آب/ أغسطس 2024 إلى إطلاق حملة تطعيم عاجلة شملت أكثر من 559,161 طفلاً دون سن 10 سنوات.[6]  وما عودة ظهور هذا المرض الذي يمكن الوقاية منه إلى حد كبير سوى نتيجة مباشرة لانهيار خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، ما أدى إلى تدني جودة المياه والصرف الصحي إلى درجة أن فيروس شلل الأطفال الذي ينتقل عبر المياه الملوثة، عاد إلى الظهور.
  • الأمراض المنقولة بالمياه: أدى نقص المياه الآمنة أيضاً إلى انتشار الأمراض المنقولة بالمياه مثل التهاب الكبد أ والإسهال المائي الحاد. حتى أيلول/ سبتمبر 2024، تم الإبلاغ عمّا يقرب من مليون حالة من حالات التهابات الجهاز التنفسي الحادة في غزة، إلى جانب أكثر من نصف مليون حالة من الإسهال المائي الحاد، وكثير منها لدى الأطفال دون سن الخامسة. بالإضافة إلى ذلك، ساهم نقص المياه الآمنة في ارتفاع حاد في التهاب الكبد الوبائي أ الذي يمثل خطراً بشكل خاص على الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن. هذا المرض الذي ينتشر من خلال تلوث المياه والطعام بالبراز، يكثر في البيئات التي تعاني من غياب النظافة الصحية. وساهم نقص مياه الشرب الآمنة وعدم توفر الصرف الصحي السليم، وخصوصاً في الملاجئ المكتظة، في هذا الارتفاع في الأمراض التي يمكن الوقاية منها. أمّا انتشار أمراض الجهاز الهضمي فيرتبط باستهلاك المياه الملوثة وتدني النظافة الصحية.[7]
  • التهابات الجلد: أدت الملاجئ المكتظة التي تفتقر إلى الصرف الصحي المناسب أيضاً إلى زيادة في التهابات الجلد، بما في ذلك الجرب والقوباء وغيرها من الأمراض المرتبطة بالنظافة الصحية.[8]

3.3 مقاومة مضادات الميكروبات

تواجه غزة أيضاً خطراً متزايداً لمقاومة مضادات الميكروبات الذي تفاقم بسبب الحرب. ففي عام 2022، قبل اندلاع الحرب، تم اكتشاف بكتيريا مقاومة لمضادات الميكروبات في العديد من مرافق الرعاية الصحية في غزة.[9]  أمّا حالياً، فإن الانهيار الكبير للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والرعاية الصحية يوفر الظروف المثالية لانتشار عدوى مقاومة مضادات الميكروبات. ويتفاقم هذا الوضع بسبب عدة عوامل:

  • تلوث إمدادات المياه: إن استخدام المياه الملوثة في المستشفيات وغيرها من مرافق الرعاية الصحية، إلى جانب الظروف غير الصحية والاكتظاظ، يمكن أن يؤدي إلى تسريع انتشار العدوى. وفي غياب إمدادات المياه الآمنة، تتحول مرافق الرعاية الصحية إلى أرض خصبة لتكاثر البكتيريا المقاومة للأدوية.
  • نقص الإمدادات الطبية: أدت الحرب إلى نقص حاد في الإمدادات الطبية، بما في ذلك المضادات الحيوية. وقد أدى هذا إلى إساءة استخدام المضادات الحيوية المتاحة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تسريع تطور المقاومة للأدوية. وهذا يجعل المصابين بالصدمات والمرضى الذين يعانون من ضعف المناعة ولا يستطيعون تلقي العلاج المناسب، عرضة للإصابة بالعدوى التي لا يمكن السيطرة عليها بالأدوية المحدودة المتاحة. إن هذا المزيج من العوامل يمهد الطريق لأزمة أوسع نطاقاً لمقاومة مضادات الميكروبات التي قد تنتشر خارج غزة وتؤثر على المنطقة.

3.4 الاكتظاظ وتأثيره على السكان الأضعف حالاً

  • النزوح الجماعي واكتظاظ الملاجئ: مع نزوح حوالي 90% من سكان غزة، صارت الملاجئ والمدارس المكتظة تؤوي عشرات الآلاف من الأشخاص في ظروف غير صحية. وبلغ معدل الاكتظاظ في بعض المناطق 30 ألف شخص لكل كيلومتر مربع. وتفتقر هذه الملاجئ المكتظة إلى مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية المناسبة، ما يزيد بشكل كبير من خطر انتقال الأمراض. والظروف في هذه الملاجئ مزرية بشكل خاص للنساء والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن وأولئك الذين يعانون من مشكلات صحية في الأصل. إن الافتقار إلى الخصوصية وتوفر عدد محدود جداً من المراحيض ومنتجات النظافة أثَّر بشكل خاص على صحة النساء والفتيات وأهان كرامتهن.
  • الآثار النفسية: بالإضافة إلى العواقب الصحية الجسدية، يرزح السكان الذين يعيشون في مثل هذه الظروف القاسية تحت عبء نفسي عميق. لقد ساهم التهديد المستمر في تفشي الأمراض، إلى جانب نقص المياه الآمنة، في انتشار القلق ومشكلات الصحة العقلية. ويزيد انهيار خدمات الرعاية الصحية من تفاقم هذه التحديات، مع إرهاق خدمات الصحة العقلية أو عدم توفرها.[10]  يواجه الناس في غزة، وخصوصاً الأطفال، مستويات غير مسبوقة من الصدمات، حيث يبلّغ العديد منهم عن أعراض الإجهاد الشديد والقلق والاكتئاب. لقد دُمرت المدارس والملاعب وغيرها من الأماكن الآمنة للأطفال أو صارت غير صالحة للاستخدام، مما يترك للأطفال مساحات محدودة للتعامل مع المحنة. وتقدّر وزارة الصحة حاجة ما يقرب من 80% من أطفال غزة إلى الدعم النفسي والاجتماعي، لكن البنية التحتية للصحة العقلية غير موجودة تقريباً بسبب نقص الموارد والدعم المهني.

3.5 فصل الشتاء

يضيف موسم الأمطار الوشيك طبقة أُخرى إلى أزمة أنظمة المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والصحة العامة المجهدة في غزة. وسوف تؤدي مياه الأمطار إلى زيادة فيضان المجاري في المناطق التي انهارت فيها أنظمة الصرف الصحي، ما يؤدي إلى تلوث مصادر المياه وإلى حركات نزوح على نطاق واسع.

  • خطر السيول والفيضانات: بمجرد بدء موسم الأمطار، من المتوقع أن تغمر المياه العديد من المناطق المنخفضة في غزة والتي غمرتها مياه الصرف الصحي قبل المطر. ولا تستطيع أنظمة الصرف الصحي االمتضررة أو المدمرة استيعاب زيادة المياه، ما يزيد من خطر أن تغمر المياه الملوثة الشوارع والمنازل والملاجئ. وهذا لا يزيد فقط من احتمالية الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه، بل من المرجح أن يؤدي إلى نزوح الآلاف، مما يزيد من ازدحام الملاجئ المكتظة بالفعل.
  • فيضان الصرف الصحي: سيؤدي انهيار أنظمة الصرف الصحي إلى فيضانات أكثر تكراراً وشدّة، مما يزيد من تلوث إمدادات المياه ويفاقم المخاطر الصحية العامة. وعلى وجه الخصوص، فإن الملاجئ، وكثير منها موقت ولا يتحمل المطر الغزير، معرضة للانهيار، مما يؤدي إلى تعميق معاناة الأسر النازحة.

4. الإجراءات المطلوبة

لمعالجة أزمة المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والصحة العامة العاجلة، لا بد من التحرك الفوري على نحو منسق. وينبغي إعطاء الأولوية للتدخلات التالية:

4.1 الدعم الدولي الفوري لوقف إطلاق النار ودخول المواد الإغاثية

يتطلب الوضع وقف إطلاق نار فوري ومستدام بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2527 الصادر في آذار/ مارس 2024. ويمكن للمساعدات الدولية الفورية وتوفير الإمدادات الأساسية أن تساعد على استعادة الخدمات الرئيسية، مثل إنتاج المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي. إن إنشاء ممرات إنسانية آمنة أمر ضروري لتوصيل الإمدادات المنقذة للحياة إلى قطاعي المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والصحة في غزة. ويجب على المجتمع الدولي أن يضغط على إسرائيل للسماح، من دون عوائق، بإدخال الوقود والإمدادات الطبية وقطع الغيار. وبدون ممرات آمنة، ستظل جهود التعافي والاستقرار في غزة مستحيلة. ‎إن المساعدات الضرورية القصيرة الأجل لا تعالج الأسباب الكامنة وراء الصراع الدائر، وبالتالي، فإن الحلول السياسية الطويلة الأجل لا بد من أن تؤخذ في الاعتبار لإنهاء هذه الأزمة ووقف دورات الأزمات المتكررة في المستقبل.

4.2 إعادة التأهيل العاجلة لمنشآت المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية

يتعين على مقدمي الخدمات المحليين، بدعم من الوكالات الدولية، وعلى وجه السرعة، إعادة تأهيل المرافق الحيوية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية لمنع تفشي الأمراض والحد من المخاطر البيئية. ويشمل ذلك إصلاح آبار المياه المتضررة ومحطات تحلية المياه ومرافق معالجة مياه الصرف الصحي. ويمكن تحسين سلسلة إمدادات المياه من خلال صهاريج المياه المتنقلة للتخفيف من ندرة المياه النظيفة على نحو فوري في المناطق الأكثر احتياجاً. وسوف يساعد هذا الحل الموقت على تقليل الاعتماد على المصادر الملوثة حتى يمكن إعادة بناء مزيد من المرافق الدائمة.

4.3 إدارة مخاطر الفيضانات وحلول الصرف الصحي

إن الجهود المبذولة لإخلاء المناطق المعرضة للفيضانات وإصلاح أنظمة الصرف الصحي المتضررة أمر بالغ الأهمية، لكن يجب أن تقترن بالدعم الدولي لتوفير ملاجئ آمنة وتحسين خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية. يجب أن تكون الملاجئ مجهزة بمرافق الصرف الصحي المناسبة للتخفيف من خطر تفشي الأمراض.

4.4 تعزيز برامج الصحة العامة والوقاية من الأمراض

هناك حاجة إلى تدخلات فورية للسيطرة على انتشار الأمراض المنقولة بالمياه وبواسطة النواقل. وتشمل هذه التدخلات توفير خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية الآمنة ومستلزمات النظافة، فضلاً عن تنظيم حملات للتوعية بالصحة العامة. ويجب إيلاء اهتمام خاص لتغطية الاحتياجات من الإمدادات الطبية والأدوية الحيوية، وتوسيع حملات التطعيم. كما أن الدعم الدولي ضروري لإنشاء خدمات الصحة العقلية لمعالجة الاحتياجات النفسية الاجتماعية المتزايدة للسكان. إن توزيع المياه الآمنة ومستلزمات النظافة، مع الحفاظ على تدابير مكافحة العدوى والوقاية منها، من شأنه أن يقلل من معدلات الأمراض المنقولة بالمياه في الملاجئ المكتظة. ومع ذلك، تعتمد مبادرات الصحة العامة على توفر الإمدادات الطبية والوقود، وكلاهما نادر حالياً. إن تقديم هذه الخدمات إلى المناطق الأكثر تضرراً يشكل تحدياً كبيراً بسبب القيود المفروضة على الوصول إليها، كما أن معالجة ارتفاع معدلات مقاومة مضادات الميكروبات ستتطلب تحسينات طويلة الأجل في خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية.

4.5 تمكين المؤسسات المحلية والقوى العاملة

إن تمكين المؤسسات المحلية في غزة، مثل سلطة المياه الفلسطينية ومقدمي الخدمات، بما في ذلك مصلحة مياه بلديات الساحل، من إدارة وتشغيل جهود إصلاح خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية بشكل مستقل أمر ضروري لإعادة بنائها على نحو مستدام. وينبغي للمنظمات الدولية أن تدعم التدريب وتخصيص الموارد والمساعدة الفنية لتعزيز القدرات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي دعم المهنيين الفلسطينيين من خلال الموارد المالية والفنية، مما يسمح لهم بقيادة تدخلات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والصحة بالتنسيق مع الوكالات الدولية.

4.6 التنمية طويلة الأمد وبناء القدرة على الصمود

لن تنتهي دورة الدمار وإعادة الإعمار في غزة إلاّ بحل مستدام للتحديات السياسية التي تواجهها. إن استراتيجيات الصمود في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والصحة الطويلة الأمد ضرورية لتمكين سكان غزة وتجنب الأزمات الإنسانية في المستقبل. ويتعين على المجتمع الدولي أن يدعو إلى حل سياسي يعالج الأسباب الجذرية لمعاناة الفلسطينيين، بما في ذلك رفع الحصار وضمان حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير.

الخاتمة

‎إن البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في غزة في حالة انهيار، مع عواقب وخيمة على الصحة العامة. لقد أدى تدمير آبار المياه ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي وأنظمة الصرف الصحي، إلى جانب نزوح حوالي مليوني شخص وتراكم النفايات الصلبة، إلى خلق أزمة إنسانية. إن العدد الهائل من الوفيات والإصابات، وظهور شلل الأطفال، وزيادة خطر الإصابة بعدوى مقاومة للمضادات الحيوية، والاكتظاظ الشديد في الملاجئ، كلها علامات تحذيرية تتطلب تحركاً عاجلاً.

إن موسم الأمطار من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الأزمة، حيث من المرجح أن تؤدي السيول وفيضان مياه الصرف الصحي إلى تلويث إمدادات المياه وإرغام مزيد من الناس على النزوح. هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية ومنسقة لمنع مزيد من الخسائر في الأرواح، والسيطرة على انتشار الأمراض، وتخفيف المعاناة. وتحدد التوصيات التالية الخطوات الأساسية للاستجابة الفورية وبناء القدرة على الصمود على المدى الطويل.

التوصيات

  • وقف إطلاق النار والوصول الإنساني: تنفيذ وقف إطلاق نار مستدام يتماشى مع القانون الدولي الإنساني، مما يسمح بدخول المساعدات الإنسانية بأمان وبلا قيود. ومن شأن تثبيت وقف إطلاق النار أن يمكِّن من إجراء أعمال الإصلاح الضرورية للبنية الأساسية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والرعاية الصحية وتوفير الظروف الآمنة للعاملين في المجال الإنساني والمجتمعات المتضررة.
  • إعادة تأهيل البنية الأساسية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية: حشد الدعم الدولي لاستعادة أنظمة المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في غزة على الفور وعلى المدى الطويل. ويشمل ذلك الإصلاحات الطارئة لآبار المياه ومحطات تحلية المياه وأنظمة الصرف الصحي، فضلاً عن تشغيلها للتخفيف من المخاطر على الصحة العامة.
  • تعزيز الرعاية الصحية للفئات السكانية الضعيفة: تحسين الوصول إلى الرعاية الصحية وحملات التطعيم والرعاية الوقائية وتوفير الدعم لحالات الصدمة وخصوصاً للأطفال وكبار السن وأولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة. تعد المستشفيات الميدانية والعيادات المتنقلة وخدمات الدعم النفسي والاجتماعي ضرورية لتلبية الاحتياجات الفورية وتخفيف الضغط على مرافق الرعاية الصحية المجهدة في غزة.
  • التخفيف من مقاومة مضادات الميكروبات: معالجة التهديد الخفي ولكن المتصاعد لمقاومة مضادات الميكروبات من خلال تحسين تدابير النظافة الصحية والصرف الصحي، وتوسيع نطاق الوصول إلى المياه الآمنة، والحد من الاكتظاظ في الملاجئ، والحفاظ على بروتوكولات مكافحة العدوى، وضمان الاستخدام المناسب للمضادات الحيوية. هذه الإجراءات لا بد منها لاحتواء مقاومة مضادات الميكروبات ومنع انتشار العدوى المقاومة.
  • من خلال الاستجابة المنسقة التي توازن بين التحرك الإنساني والاستجابة الفورية وبناء القدرة على الصمود على المدى الطويل، يمكن وضع قطاعي المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والصحة في غزة على طريق التعافي. ولا يمكن للمجتمع الدولي مساعدة سكان غزة في تأمين حقهم في الصحة والسلامة والكرامة إلاّ من خلال معالجة الأسباب الجذرية وضمان الدعم الثابت والعادل لقضيتهم.

 

[1] UNRWA, “UNRWA Situation Report #140 on the Situation in the Gaza Strip and the West Bank, including East Jerusalem,” 2024, accessed on September 27, 2024.

[2] OCHA, “Humanitarian Situation Update; Gaza Strip,” 2024, accessed on September 27, 2024.

[3] M. Zeitoun, N. Carmi, L. Turley, and M. Tignino, “Weaponising Water in Gaza,” Geneva Policy Outlook, 2024.

[4] L. A. Samad, M. Butcher, and B. Khalidi, “Water War Crimes: How Israel Has Weaponised Water in Its Military Campaign in Gaza,” Oxfam Policy & Pratice, 2024.

[5] Sphere Association, The Sphere Handbook: Humanitarian Charter and Minimum Standards in Humanitarian Response, fourth edition, Geneva, Switzerland, 2018.

[6] WHO, “oPt Emergency Situation Update-Issue 45,” accessed on September 19, 2024.

[7] OCHA, “Humanitarian Situation Update; Gaza Strip,” 2024, accessed on September 27, 2024.

[8] A. Abbara, R. Abu Shomar, M. Daoudy, et al., “Water, Health, and Peace: A Call for Interdisciplinary Research,” Lancet, 2024, (published online, March 2024).

[9] R. Abushomar, M. Zeitoun, G. A. Sittah, A. A. Fayad, A. Abbara, N. El Achi, and A. Elmanama, “Antimicrobial Resistant Bacteria in Health Care Facilities: Exploring Links With Water, Sanitation, and Hygiene in Gaza, Palestine,” Iproceedings, 8(1), e37246 (2022).

[10] Health Cluster, “Health Cluster Bulletin – Aug 2024,” accessed on September 25, 2024.

( ريم ت. أبو شومر: دكتوراه، ماجستير في الصحة العامة.)

عن ورقة سياسات- مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *