ما الذي يمكن استخلاصه من السجال الدائر داخل حكومة الطوارئ الإسرائيلية؟

حمل الأسبوع الفائت مزيداً من المؤشرات إلى وجود خلافات داخل حكومة الطوارئ الوطنية الإسرائيلية حيال وجهة الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وهي خلافات تتعلّق بالأساس بما يوصف بأنه “اليوم التالي للحرب” والذي لم تجاهر الحكومة الإسرائيلية حتى الآن بمواصفاته التي تتطلع إليها.

ومن أبرز تجليات هذه الخلافات قيام الوزير في “كابينيت الحرب” الإسرائيلي بيني غانتس (رئيس “المعسكر الرسمي”)، يوم 19 أيار الحالي، بإمهال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، حتى يوم 8 حزيران المقبل لوضع خطة عمل إستراتيجية لمواصلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ملوّحاً بإمكان انسحابه من حكومة الطوارئ الإسرائيلية التي أقيمت عقب انضمام غانتس إلى حكومة نتنياهو بعد أيام من شنّ الحرب على القطاع، وذلك في حال عدم التجاوب مع مطلبه. وطالب غانتس نتنياهو بوضع وإقرار مخطط يهدف إلى إنجاز 6 أهداف هي: إعادة المخطوفين الإسرائيليين، وإسقاط حكم حركة حماس، ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وإقامة إدارة دولية وعربية تدير قطاع غزة مدنياً، وإعادة سكان الشمال إلى منازلهم بحلول الأول من شهر أيلول المقبل، والدفع قُدُماً بالتطبيع مع السعودية، واعتماد خطة لقيام جميع الإسرائيليين بأداء الخدمة العسكرية في صفوف الجيش.

وقبل إعلان غانتس هذا بأيام عدة، عقد وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، مؤتمراً صحافياً دعا فيه نتنياهو إلى عدم إقامة حكم عسكري في قطاع غزة، وأن يبحث في العمق مسألة “اليوم التالي”. ووفقاً لوسائل إعلام إسرائيلية، لم يأتِ كلامه هذا من فراغٍ، فإقامة حكم عسكري في غزة هو “الخيار الحقيقي” الذي يدرسه رئيس الحكومة وهو يحظى بتأييد حلفائه من اليمين المتطرف. وعندما تحدّث غالانت عن مغزى إقامة حكم عسكري ومدني إسرائيلي في غزة، فقد كان يقصد في كلامه اقتراحاً مطروحاً على طاولة نتنياهو، وهو إقامة حكم عسكري مؤقت، كحل بديل لحكم حماس، والمقصود وثيقة كتبها السكرتير العسكري لنتنياهو، اللواء رومان غوفمان. وهذه هي المرة الثانية التي يتخذ فيها غالانت خطوة كهذه، أي تحذير نتنياهو علناً وَجَعْل الجمهور شاهداً، أمّا المرة الأولى فكانت في ذروة الانقلاب على الجهاز القضائي حين دعا غالانت إلى الوقف الفوري لما اعتبره “خطراً واضحاً ومباشراً” على أمن الدولة، وقال يومها: “إن التهديدات كبيرة من حولنا وفي ساحات بعيدة ومعقدة”. وحاول نتنياهو في رده إقالة غالانت لكنه تراجع عن ذلك في ضوء اندلاع احتجاجات واسعة وصاخبة. وهذه المرة حذّر غالانت من الخطة التي قال إنه تجري دراستها بجدية. ومما قاله: “هذه خطة سيئة وتشكّل خطراً استراتيجياً وأمنياً وعسكرياً على إسرائيل… نحن كدولة نواجه خطراً أمنياً متعدّد الساحات والموارد، إذ سيصبح الحكم العسكري الإسرائيلي في غزة الجهد الأمني الأساسي لإسرائيل في الأعوام المقبلة على حساب الساحات الأُخرى، وسيكلفنا هذا دماً وضحايا وثمناً اقتصادياً باهظاً”. وبحسب وثيقة نشرتها صحيفة “يديعوت أحرونوت“، فإن تكلفة الحكم العسكري لغزة تبلغ نحو 20 مليار شيكل سنوياً، ومن الناحية العسكرية ستكون هناك حاجة إلى 4 فرق هجومية، وفرقة دفاعية، وهذا إلى جانب الثمن السياسي الذي لا يمكن تقديره.

فما الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الخلافات الداخلية التي تخرج إلى العلن رويداً رويداً، وكذلك من السجال الدائر بشأنها داخل حكومة الطوارئ الإسرائيلية؟

أولاً، أن هناك نقاشاً في إسرائيل حول خطة ما يسمى بـ “اليوم التالي”، وربما بتنا أمام ترجيح لخطة محدّدة على سواها من خطط متداولة. وهناك تلميحات في أكثر من وسيلة إعلام إسرائيلية إلى أن الخطة التي حذّر منها غالانت يقف وراءها لاعبون سياسيون أيديولوجيون هم مندوبو أحزاب اليمين المتطرّف، الذين- مثلما تؤكد صحيفة “هآرتس” في أحد مقالاتها الافتتاحية (19/5/2024)- يستغلون الأوضاع الأمنية المستجدّة من أجل تحقيق تطلعاتهم السياسية والجغرافيّة، وإلغاء خطة الانفصال عن قطاع غزة التي جرى تنفيذها في العام 2005، والعودة إلى قطاع غزة مرة أُخرى وإقامة مستوطنات يهودية فيه. وتؤكد الصحيفة أن الوزيرين إيتمار بن غفير (رئيس “عوتسما يهوديت”) وبتسلئيل سموتريتش (رئيس “الصهيونية الدينيّة”) ورفاقهما في اليمين المتطرف يسعيان لجرّ إسرائيل إلى سيطرة عسكرية ومدنية على قطاع غزة، وعلى أكثر من مليوني شخص. وبالنسبة إلى هؤلاء لا أمر ثابتاً أكثر من المؤقت كما برهنت مثلاً قضية “البؤر الاستيطانية العشوائيّة” في الضفة الغربية، وهكذا ستُمهّد الطريق لإعادة إقامة المستوطنات في القطاع.

ثانياً، بالنسبة إلى نتنياهو يتعزّز أكثر فأكثر الإجماع الإسرائيلي على أن اعتبار بقائه السياسي يتغلب على أي اعتبار آخر. كما تزداد التحليلات التي تؤكد على أنه كجزء من المعركة التي يخوضها نتنياهو من أجل بقائه، وطبقاً لطلبات شركائه من اليمين المتطرف، صمّم على التقدم نحو رفح في جنوب القطاع، ورفض إظهار أي مرونة حقيقية في المفاوضات المتعلقة بالمخطوفين، مع أن هذه التحليلات تشدّد في الوقت عينه على أن حماس أيضاً اتخذت موقفاً حازماً.

ثالثاً، مثلما يؤكد أغلب المحللين العسكريين في إسرائيل، ثمة اعتبار آخر حرّك وزير الدفاع الإسرائيلي، ويرتبط بوجود إحباط عميق في صفوف قيادة الجيش من جراء قرار إرسال قيادة فرقة عسكرية إلى منطقة رفح بغية السيطرة على الجزء الجنوبي الشرقي من محور فيلادلفيا وعلى معبر رفح من الجانب الفلسطيني، من دون مناقشة الدلالات الاستراتيجية المترتبة على ذلك. وبالرغم من أن الجيش الإسرائيلي حذّر بشأن الحاجة إلى الاتفاق مسبقاً حول ما سيتم فعله في المعبر بعد السيطرة عليه، إلا إنه لم يتم الاتفاق على أي شيء بهذا الخصوص ولا سيما مع المصريين.

رابعاً، بموجب ما أكد المحللون العسكريون وفي طليعتهم المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل (17/5/2024)، ما زال تقدّم قوات الجيش الإسرائيلي في رفح بطيئاً ومحدوداً على خلفية معارضة الولايات المتحدة. ولكن احتمالات تعقد الأوضاع هناك ما زالت كبيرة. كما يبدو أن الجيش الإسرائيلي تقدّم إلى ما وراء الخطوط التي حددتها الخطط مسبقاً وعرضت على المستوى السياسي.

ولا أرى أبلغ إنباء بما تنطوي عليه عملية اجتياح رفح مما كتبه اللواء في الاحتياط يسرائيل زيف، الضابط الرئيسي السابق لسلاح البرّ والمظليين والقائد السابق لفرقة غزة والرئيس السابق لقسم العمليات في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي (15/5/2024): “لقد تحوّلت رفح، حتى قبل أن يتوغل الجيش الإسرائيلي فيها، إلى فخّ إستراتيجي لن يُنتج سوى مزيد من التورط. فأزمة الثقة مع الولايات المتحدة في أوجها، ومصر تنضم إلى جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل في محكمة لاهاي، ومن شبه المؤكد أنها ستخفّض مستوى علاقاتها الدبلوماسية بنا، كما أن الدول الأوروبية، ومعها الأمم المتحدة، تهدد بخفض مستوى العلاقات، بما يشمل المحكمة الجنائية الدولية التي ستقوم، عمّا قريب، بغرز أنيابها في أجساد مسؤولي الجيش والحكومة كلهم”.

خامساً، بموازاة ذلك، يزداد الخطر أيضاً في العمليات التي يشنها الجيش الإسرائيلي في شمال قطاع غزة، حيث تتراكم الخسائر الماديّة والبشرية لدى الجيش. ويؤكد هرئيل، وكذلك المحلل العسكري في قناة التلفزة الإسرائيلية 13 ألون بن دافيد، وغيرهما أن المقاومة التي تظهرها حركة حماس في هذه المرة كبيرة وتشمل من ضمن أمور أخرى إطلاقاً كثيفاً لصواريخ “آر. بي. جي”، ويُعدّ غير مسبوق في شمال القطاع في الأشهر الأخيرة. والمسلحون الفلسطينيون منظمون نسبياً، ويبدو أنهم يعملون كجزء من منظومة قيادة وسيطرة تقوم حماس بتشغيلها. فضلاً عن ذلك، فإن صفوف حماس تتراص من جديد، على الرغم من خسارتها آلاف العناصر حتى الآن. والتقديرات السائدة في شعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”) وجهاز الأمن العام (“الشاباك”) تشير إلى أن هذا الأمر ليس من قبيل المصادفة، فالشباب في قطاع غزة لا يشخصون بديلاً لحماس، ويتجندون في صفوفها بدلاً من العناصر الذين قتلوا. كذلك يفترض السكان عموماً في القطاع أن حماس ستجتاز الحرب وستبقى في سدّة الحكم.

أخيراً، وفيما يتعلّق بـ”خطة الحكم العسكري المؤقت” في قطاع غزة التي يُقال إنها المرغوبة من طرف نتنياهو في ما يخصّ “اليوم التالي” للحرب، استعادت بعض التحليلات الإسرائيلية (“يديعوت أحرونوت”، 16/5/2024) أن الخطة تعيد إلى الأذهان خطة “الحزام الأمني” في جنوب لبنان والتي وقف وراءها في حينه ادعاء فحواه أن البقاء في منطقة أمنية داخل الأراضي اللبنانية يحمي سكان الشمال، وسرعان ما تبيّن أنه ادعاء فارغ من أي مضمون، حيث أن هذا الحزام أدى إلى نشوء “قوة جديدة عنيفة وصارمة وخطِرة”، في إشارة إلى حزب الله. ولم تنجح إسرائيل في حرب لبنان الثانية (حرب تموز 2006)، وحتى 7 تشرين الأول 2023 في القضاء على هذه القوة، فضلاً عن أنه خلال الأعوام الـ18 التي بقي فيها الحزام الأمني في جنوب لبنان حتى الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب منه (1982- 2000)، قُتل 1404 جنود إسرائيليين وأصيب 3750 جندياً بجروح متفاوتة!

عن المشهد الإسرائيلي – المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *