اعتدت كتابة نصوصي النقدية بالعبرية لكي أحاور متحدّثيها، وقد أرسل لي مؤخّرًا بعض الأصدقاء تساؤلات عن السبب وراء كتابتي عما يحدث داخل القائمة المشتركة باللغة العبرية فقط ولماذا لا أرد على منصور عباس بالعربية. وفي الواقع أني حريصة على إسماع صوتي بالعربية مباشرة لأصحاب الشأن لعلهم يتعظون، فهدفي صدقاً هو الإصلاح والنقد البنّاء وأسعى لكي تنعم منصّاتنا الإعلاميّة بالحوار البنّاء. في هذا المقال سأرد على بعض ادعاءات عباس التي نشرها وصرح بها.
من مجمل ما كتب النّائب عباس أنّ “هناك فرق بين التواجد في مظاهرة رفع شعارات وبين التواجد في جلسة رسمية لاتخاذ قرار”. ما الجديد؟ طبعاً سيكون هناك فرق، إذ لكل مقام مقال، ولكن ما لا يدركه النّائب أنه ليس له ولا لغيره من النواب في البرلمان أية قوة أو شرعية بالتحدث دون التواجد بالمظاهرات تارة وفي الجلسات تارة أخرى، إذ أنّ النضال الحقيقي متضافر ومتواصل مع الشارع ويستمد قوته منه، وليس من اعجابات مدفوعة على شبكات التواصل الاجتماعي.
نعم، يختلف التحدث والخطاب خلف الأبواب المغلقة وفِي الجلسات الرسمية بحدته ولهجته ولكن ليس بمضمونه، وما حدث في الجلسة الشهيرة في لجنة مكافحة العنف لم يتم بدافع الأدب واللباقة في الحديث بل انزلق على منحدر الميوعة والاستجداء وإخفاء الحقيقة الّتي لا تقبل التجميل، حرصًا على ألا يشعر فخامة رئيس الحكومة وأتباعه بالضيق والحرج.
مقولة أخرى تُنسب لمنصور عباس جاءت أيضًا في أحد مناشيره على صفحته في فيسبوك، حيث عقّب منصور بأنّه “علينا أن نقرّر إما أننا ذاهبون للعمل لخدمة مجتمعنا أم أننا ذاهبون لتسجيل مواقف!”، وهو بنظري تصريح غاية في الخطورة، فتسجيل المواقف هو جزء من العمل البرلماني، إذ كيف يمكن تفسير حقيقة تصويت عبّاس ضد اتفاق التطبيع مع الإمارات؟ أليس هذا موقف ضد اتفاق نعلم جميعاً أنه سيصادق عليه رغم أنوفنا؟ ومع ذلك فقد كان له ولكل النواب في القائمة المشتركة موقف يعكس الرأي العام بالشارع العربي. إنّ العمل البرلماني والسياسي كله جملة وتفصيلاً مبني على اتخاذ المواقف والعمل بها. ومن المهم أن نعلم ما هو موقف القائمة المشتركة من كل أمر كبير أو صغير، أين تتفق مركباتها وأين يختلف أعضاؤها، نحاور، نناقش، نطور المواقف ونضع خارطة للطريق، هذه هي القيادة الحقيقية، بمناسبة تصريح عبّاس عبر شاشة التلفزيون الإسرائيلي الرسمي أنه يطمح “للقيادة” وليس لرئاسة القائمة المشتركة.
فبماذا يمكن وصف حال تكون أعمالنا فيه جميعاً، نشطاء اجتماعيين وسياسيين ورؤساء سلطات محلية وبرلمانيين لخدمة المجتمع، مغايرة لمواقفنا تجاه ما هو داعم وصحيّ لهذا المجتمع؟ ببساطة تامّة، هذا هو التعريف الحقيقي للنفاق السياسي.
كما ادعى عباس ” أتمنى أن تكون الجدية التي أتّبعها في العمل … محفّزًا للآخرين للمنافسة والإيجابية في العمل”. تصريح خطير آخر، فالإهانة الضمنية في هذه الجملة تكمن بالافتراض أن النّائب عباس هو الوحيد الّذي يعمل بجدّيّة من بين أعضاء المشتركة، ولكن الحقيقة المغايرة تمامًا هي أنّنا جميعًا نعلم أنّ معظم أعضاء القائمة المشتركة ناشطون وفاعلون جداً برلمانياً وميدانياً، نعم ينقصهم التوافق والانسجام والعمل الجماعي المدروس الذي ينأى بالأنفس عن الأجندات الحزبية المتناحرة تاريخياً، نعم هم بحاجة لعمل جماعي يُحاكي مطالب الشارع وتوقعاته من قائمة ادخلها الناخبون اللا-حزبيون إلى البرلمان، مثلي تمامًا، ممن هم وهن أعضاء في الحزب الخامس في القائمة المشتركة، ذلك الحزب الذي لم يؤسسه أحد ولا يديره أحد ولا يفاخر في وجه أحد، عشرات الآلاف من المواطنين الذين خرجوا للتصويت للقائمة المشتركة رغم كل كبواتها، وعثراتها، وزلات لسان من فيها وتصريحاتهم المخيبة للآمال، وأداء بعضهم الضعيف واختفاء الآخرين عن الساحة، نحن معشر الناخبين الذين صوتوا للمشتركة كمشروع رغم عدم رضاهم عن تركيبة القائمة ككل ونشعر بملكية جماعية عليها ولنا حق عليها. لا أتعارض مع عباس في أن المنافسة الندية والاجتهاد بالعمل هي محفزات للجميع وتدفعهم قدمًا، آملين أن يكون الدفع باتجاه واحد وليس مواجهة الواحد للآخر، وهذا الدفع الجماعي غائب حالياً عن المشهد.
المزاودة والتخوين في صد الناجحين
من المضحك المبكي والمثير للشفقة في الآن ذاته، شعور منصور عباس أن حضور رئيس الحكومة لجلسة لجنة برلمانية عبر تطبيق الزووم يعتبر نجاحاً وإنجازا تاريخيًا يهدد مكانة أعضاء المشتركة الآخرين. حضور رئيس الحكومة ولو كان لغاية في نفس يعقوب، مهم جداً، ومتأخر جدا خاصة انه حضر جلسة ناقشت نفس الموضوع قبل ثمان سنوات وسمع نفس الادعاءات ووعد بالكثير ولم نرَ إنجازًا ملموسًا في مكافحة الجريمة منذ ذاك الوقت، بل على العكس تماما، فقد تدهورت الأحوال وتفشت الجريمة، فقد انتشر السلاح وانخفض معدل الشعور بالأمان في المجتمع العربي الى الحضيض، فلا أدري أي إنجاز هل علينا مع زيارة المندوب السامي عبر الأثير واستقبال مختار الحارة له بحفاوة.
ليس هناك مزايدة ولا تخوين ضد عباس، ولا اعتقد أن أحدا يتهمه بالخيانة لشعبه، فأنا أؤمن – ولست الوحيدة – بصدق مساعيه لتحصيل ميزانيات وبرامج قد تساعد على حل آفة العنف والجريمة، فهي نابعة من إحساس حقيقي بألم وحزن مما آلت إليه حالة مجتمعنا الدامي، ولكنه ليس الوحيد الذي يبكي سفك الدماء في قرانا وشوارعنا. لا أعتقد أن خطاب عباس ونهجه خيانة، ولا يستطيع أحد “المزاودة” عليه وهو فن يتقنه الشعب الفلسطيني أكثر من أي شعب بالعالم، وعندما يضاف للتخوين والمزاودة التكفير تكون التركيبة فتاكة أمام كل ناشط أو ناشطة يدخل المعترك السياسي.
عباس مقتنع أن أسلوبه “المختلف” والمتجدد قد يأتي بنتيجة جيدة مع هذا النظام وحكومة اليمين تحديداً، وفِي هذا النهج سذاجة وسطحية خطرة قد يراها الساسة الآخرين ممن لهم باع طويل في مقارعة المؤسسة الحكومية. ما يزعج معظم العاملين والباحثين والنشطاء في نضالنا ضد آفة العنف والجريمة حقا هو النهج الانفرادي وتجاهل الرأي المهني للجمعيات والناشطين الميدانيين، فتغيير الخطاب ما بين الاجتماعات الداخلية والاجتماعات المتلفزة في الكنيست، هو المؤشر الحقيقي والمرعب على ضياع البوصلة.
كيف وصلنا إلى حال يتأتأ فيه نائب عربي في الكنيست حيال سؤال إجابته واضحة “هل نتنياهو جيد للعرب؟” وهل البراغماتية الجديدة من طراز منصور عباس تعني أن تفعل أي شيء وإن كان أن “تبوس الكلب من تمه لتوخذ حاجتك منه؟”، وفرضًا أن هذا الأسلوب الجديد قد يعود بالجدوى على المدى القريب، ولربما سنحظى ببعض الانتباه والفتات الّذي قد تلقيه لنا أذرع الحكومة، هل حكم علينا عباس بتقبيل الكلاب مدى الحياة أم أنّه من واجبنا ربما ترويضها لصالحنا أو طردها إذا ما بقيت مسعورة ضد كل فلسطيني بهذا الشكل؟
في إحدى كتاباته يتساءل عباس: عندما ينعت أحد الأعضاء رئيس الحكومة بالكذّاب أو يقوم بشتمه، هل يتوقع بعدها أن يوافق رئيس الحكومة على طلباتنا؟
الجواب هو نعم، لأنّ هذا واجبه ومسؤوليته قانونيا وهذا حقنا كمواطنين، وعلينا ملاحقته بكل ما أوتينا من قوة لنيل مطالبنا في البرلمان، من خلال الإعلام، في الشارع وفِي كل مكان، لا ينبغي علينا التذلل والتذبذب للحصول على حقوقنا الأساسية، إن كانت هذه الخطة، هي ليست المسيح المنقذ لحالنا وعليها خلافات جمة، ومطالبنا ليست مشمولة بها أصلا، فهذا الأسلوب الذي ينتهجه النائب عباس ليس موضوعيًا ولا براجماتيًا كما يدعي هو، وحتى نتنياهو نفسه يعلم لعبة المصالح ويعرف كيف يتلاعب بِنَا وما هو الوتر الحساس عند البرلمانيين العرب.
إذا “بتغدرلوش”، قم بتخوينه!
صورة أعضاء المشتركة في حلبة الصراع لا تفارقني، هل حقا ما زالت الحركة الإسلامية، التجمع، الجبهة والعربية للتغيير في صراع فيما بينها؟ وننتظر أن “يبطح” أحدهم الأخر؟ متى سنرتاح من هذه القصص البالية وحرب البيانات المضنية؟ متى سيفهم كل أعضاء القائمة المشتركة إننا تعبنا من حرب البسوس الوهمية هذه؟ إن المجتمع العربي في الداخل بكافة أطيافه وفئاته يتعايش مع الاختلاف بالرأي والتعددية أكثر بكثير من نوابه في البرلمان، نحن أدركنا منذ عقود أن هذه الدولة لا تفرق بين شيوعي وإسلامي، بين تجمعي وأبناء بلد، لا تهمها النقاشات الداخلية في الجبهة بين محمد بركة وايمن عودة، ولا تأبه بوجود أعلام العربية للتغيير الصفراء في الشوارع قبيل الانتخابات، لأننا كلنا مستهدفون أمام هذه الدولة اليهودية العنصرية. لا يفرق رصاص الانفلات وفوضى السلاح بيننا ولا ترسل أوامر الهدم حسب انتمائنا الحزبي.
اعتقد إني أعبر بهذا عن موقف معظم الناخبين الخائبة آمالهم اليوم أمام مشهد “الطوشة” العربية المشتركة.
يقول عباس: ثوابتنا العقائدية والوطنية واضحة، ولم ولن نقدّم بها أي تنازلات، ولن نساوم عليها. قياسًا بكل التصرفات والتصريحات الصادرة عن عباس في الأشهر الأخيرة يبدو أن هذه الثوابت المذكورة غير واضحة الملامح بما فيه الكفاية، وغير متفق عليها، نعم يقبل عباس التنازل والمساومة أمام رئيس حكومة عمّقَ الفقر والجريمة فينا، سلبنا ابسط الحقوق، تغول بالاحتلال والاستيطان، اتباعه يقتحمون الأقصى دون رادع أو رقيب، وهو يسوّق القدس للعالم العربي ويتباهى بها وكأنها ملكه الخاص وتحت إمرته. إنّ هذا الرجل سفك دماء الفلسطينيين في غزة وفي كل مكان، جاء بقانون القومية، وشرّع هدم البيوت من خلال قانون كامينتس وادخل التحريض والعنصرية على المواطنين العرب على أجندته السياسية علناً لضمان بقائه السياسي. فهل للنائب عباس ليأتي ويقول لنا عن أي ثوابت يتحدث هنا؟ وعلام يساوم سراً؟
ومن أقواله أنّ “الوطنية هي أن تعمل من أجل شعبك ومجتمعك، وألا تقوم بتصرفات قد تضرّ بمصالحه” وهنا أطرح سؤالي: ما هي التصرفات التي قام بها باقي الأعضاء المضرة بالمصلحة العامة؟ وهل أصبح وضع الحقيقة أمام قيادات الشرطة والإقرار بفشلهم مضر؟ ثمّ هل الرد وصد ودحض الادعاءات “الثقافية” لظاهرة العنف في المجتمع العربي تعتبر أمورًا “ضارة” بالمصلحة العامة؟ لا أعتقد ذلك والعكس هو الصحيح، فإن فتح أبواب هذه الادعاءات في أي نقاش أو أي قرار أو خطة حكومية تخص المجتمع العربي تحمّل الضحية المسؤولية، وتعفى الحكومة من واجبها ومهامهما. وإذا كان كل قرار مبني على دونية المجتمع العربي المتخلف العنيف، والرجعي بنظر الحاكم اليهودي الذي يؤمن بداخله وبجوارحه بفوقيته العرقية، فلن نستطيع الدفاع عن حقنا بالأرض، والعمل، والمساواة في كل المجالات، لأن المشكلة تكمن فينا، في ثقافتنا، وحضارتنا، عاداتنا وتقاليدنا وهي المسبب الأساسي لكل الظواهر السلبية فينا، فكيف سيتصرف عباس عندما يأتي أول تصريح من رئيس الحكومة يتهم به المسلمين بثقافة العنف والإرهاب؟ اليست الإسلاموفوبيا تستخدم نفس الأسلوب بصبغ مجموعة كاملة من البشر بالعنف بسبب انتمائهم الديني؟ كيف سنحتج لاحقا ونستنكر ادعاءات تلصق بالإسلام والعرب تهمة الإرهاب، وكيف سنناضل في وجه كم الأفواه وتعنيف النساء إذا كان رئيس الحركة الإسلامية يتحدث علنا عن ثقافة العنف المتأصلة فينا؟
وختامًا، فليسأل عباس نفسه لماذا لم تهب الجماهير العربية نصرة ومساندة لندائه ودعوته للمشاركة بالاحتجاج أمام السفارة الفرنسية بعد تفوهات ماكرون الأرعن، كما هبّت سابقًا نصرة للأقصى وفي المظاهرات ضد العنف وضد هدم البيوت وقانون القومية؟ والجواب يكمن في نفس الأسلوب الانفرادي الاستحواذي للنضالات المتفق عليها التي سماها عباس الثوابت. فعندما نسمع الصوت الجماعي للقيادة سوف يرد الشعب بنفس النهج الجماعي والوحدوي وعندما يختار أحدهم الخروج عن السرب ليقف تحت الأضواء الموصولة بعامود كهرباء المؤسسة الحكومية سينتهي به الأمر مع “جماعته” فقط، ممن أطاعوا أولي الأمر منهم، وسيقف هناك وحيدا في الظلام يوما ما، وان غدا لناظره قريب.