ما الخيارات الفلسطينية المتاحة أمام خطة الجنرالات في شمال غزة؟
أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2024، بدء تنفيذ عملية عسكرية مركزة للمرة الرابعة في منطقة شمال قطاع غزة، وذلك بالتزامن مع الكشف عن خطة وضعها عدد من الجنرالات العسكريين الإسرائيليين بهدف السيطرة على شمال قطاع غزة، وقد قُدمت الخطة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ونالت قبوله.
وتتلخص خطة الجنرالات في تهجير سكان شمال القطاع قسرا من خلال فرض حصار كامل على الشمال، بما في ذلك منع دخول المساعدات الإنسانية، ثم القضاء على المقاومين بوضعهم أمام خيارين إما الموت أو الاستسلام.
وفي سبيل تحقيق ذلك ينفذ الجيش الإسرائيلي عملية تدمير وقتل ممنهج أدت إلى استشهاد ما يزيد على 1800 فلسطينيا، وهدم وإحراق لمراكز الإيواء والمستشفيات والمراكز الصحية العاملة في المنطقة وإخراجها عن الخدمة بشكل شبه كامل.
وفي ضوء ذلك، استطلع مركز رؤية للتنمية السياسية وموقع الجزيرة نت آراء مجموعة من الخبراء والأكاديميين في محاولة لتتبع مآلات الخطة المذكورة، وحدود قدرة الاحتلال الإسرائيلي على تطبيقها، والبدائل الفلسطينية المتاحة لمواجهتها.
وقد استعرضت هذه الآراء من خلال المحاور والأسئلة التالية:
- ما مآلات خطة الجنرالات التي يحاول الاحتلال الإسرائيلي تطبيقها شمال غزة؟
- في حال نجح الاحتلال في تطبيق الخطة، هل ينجح في إيجاد طرف فلسطيني من غزة يمكن أن يتعاطى معها عبر إقامة نموذج إداري جديد؟
- ما المطلوب فلسطينيا، وعربيا، وإقليميا، لمنع فرض هذه الخطة؟
- ما مستقبل قطاع غزة في ضوء كل التطورات في المنطقة؟
- ما حظوظ نجاح المحاولات الأميركية الأخيرة في إقناع إسرائيل باستثمار نتائج الحرب، والعمل على إنهائها، والتحول إلى المسار الدبلوماسي؟
ويمكن تلخيص آراء الخبراء بما يلي:
- خطة الجنرالات هي خلاصة مركزة لمجمل خطط الجيش الإسرائيلي التي تُنفَّذ في غزة منذ بداية الحرب، والتي كانت تنكرها إسرائيل بشكل مستمر.
- هناك عدة مستويات يمكن من خلالها فهم خطة الجنرالات، الأول منطلق أيديولوجي، والثاني أنها بديل عن فكرة الترحيل الكلي لأهل غزة، والثالث باعتبارها ضرورة أمنية ملحة لإسرائيل.
- أهمية تنفيذ خطة الجنرالات إسرائيليا من الناحية السياسية تنطلق من محاولة تحقيق مكاسب ملموسة أمام الشارع الإسرائيلي.
- قد تنجح إسرائيل في إنجاز المرحلة الأولى من الخطة المتمثلة بترحيل أعداد كبيرة من الفلسطينيين من شمال قطاع غزة تحت الضغط العسكري، لكن الرهان يبقى على حدود قدرة “إسرائيل” بالانتقال لتطبيق باقي أركان الخطة، وهو ما يعتمد على مجريات الميدان.
- في حال نجحت العملية الإسرائيلية في المرحلة الحالية، فمن غير المتوقع أن يذهب الاحتلال بشكل مباشر إلى إقامة المستوطنات في غزة إلا بعد انتهاء الحرب، ووضوح نتائجها.
- إسرائيل تدرك أنها قد لا تجد طرفا فلسطينيا يقبل التعاطي معها بالنموذج الجديد لإدارة غزة، لهذا فقد بدأت بالبحث عن شركات أميركية وأطراف خارجية للقيام بالمهمة.
- ليست المشكلة في إمكانية فرض نموذج إداري من قبل الاحتلال في غزة. وإنما في غياب الرؤية الفلسطينية في مواجهة السياسة الإسرائيلية.
- الفلسطينيون اليوم بحاجة إلى إدارة موازية وبديلة كما جرت العادة في التجارب الفلسطينية السابقة إبان الانتفاضة الأولى والثانية لسد الفراغ الذي يحدثه الاحتلال.
- المطلوب فلسطينيا هو رؤية سياسية مرنة تستجيب لكل التحديات الراهنة، وبالتالي لا ينبغي التقوقع خلف المصالحة أو الحكومة أو غيرها، بل تبدو الحاجة ملحة للحفاظ على الكيان السياسي الفلسطيني.
- المطلوب من السلطة حشد موقف عربي ودولي لدعمها في إدارة غزة، لأن إسرائيل تستمر بتنفيذ مخططاتها تحت غطاء إسقاط حكم حماس.
- مستقبل قطاع غزة مرتبط بالعديد من المتغيرات، سواء حدوث حرب إقليمية كبرى أو في موقف الرئيس الأميركي الجديد، أو إنجاز مصالحة فلسطينية، أو في إنهاء حكم حماس.
- الموقف الأميركي قائم على إعادة هندسة المشهد الإقليمي على مستوى إستراتيجي، بحيث تستعيد إسرائيل موقعها فيه، وستعطيها المساحة والوقت الكافي لتحقيق ذلك.
لمعرفة مآلات العملية العسكرية شمال غزة، لا بد من النظر إليها من عدة مستويات:
- الأول: الرؤية الأيديولوجية التي قامت عليها سواء من قبل الأشخاص الذين يقفون خلفها، وكذلك توافقها مع التركيبة الأيديولوجية لأعضاء الحكومة.
- الثاني: قد تكون هذه الخطة بديلا لفكرة الترحيل الكلي لأهل غزة إلى سيناء، والاستعاضة عنه بإعادة التوزيع الديموغرافي الداخلي.
- الثالث: تُطرح الخطة كحاجة أمنية لمصلحة “إسرائيل” بهدف كسب التأييد من جميع الأطياف السياسية الإسرائيلية في الحكومة والمعارضة، إضافة للدعم الأميركي والدولي.
هذا يجعلنا نقرأ الدعم الأميركي غير الرسمي للخطة من خلال منح حكومة نتنياهو فرصة 30 يوما لوقف سياسة التجويع التي ينفذها الجيش الإسرائيلي على الأرض، وذلك بعد انقضاء 10 أيام أخرى من الحصار والتجويع والقتل والتدمير. إلى جانب الصمت الرسمي من الدول الغربية إلا من دعوات خجولة لرفع الحصار عن المدنيين، وغياب أي فعل عربي أو إسلامي للتحرك لإنقاذ الموقف.
من الناحية العملياتية، تولي إسرائيل أهمية كبيرة لتطبيق خطة الجنرالات شمال غزة، حيث دفع جيشها بفرقتين لتنفيذها، بما فيها كتيبة الدبابات 401 وهي أهم كتيبة دبابات في الجيش الإسرائيلي، التي من المفترض أن تكون على الجبهة الشمالية لمواجهة حزب الله، مما يشير إلى أهمية العملية في شمال غزة من الناحية السياسية لتحقيق مكاسب منظورة أمام الشارع الإسرائيلي.
ومقابل المحاولة الإسرائيلية في فرض الخطة بالقوة، هناك تمسك من سكان شمال غزة بالبقاء في بيوتهم، وتجنب الوقوع في فخ الدعاية الإسرائيلية بالذهاب إلى ما يسمى بالمناطق الآمنة في الجنوب.
وقد عمد الاحتلال إلى تقسيم تنفيذ الخطة إلى مراحل تبدأ في شمال مدينة غزة والانتقال لاحقا إلى المدينة وما حولها، وواضح أن الاحتلال يدرك أن مخيم جباليا يشكل الكتلة الصلبة لتماسك الكتلة البشرية في الشمال كله، وبالتالي بدأ عملياته في جباليا.
وتعمل المقاومة بكل جهدها للتصدي لهذه الموجة من التهجير، لكن تبقى قدراتها محدودة نسبيا مقارنة بقدراتها في بداية الحرب، مما يعطي جيش الاحتلال فرصة أكبر لممارسة المزيد من الضغط على السكان.
وفي ظل كل المعطيات السابقة، فمن المتوقع أن يستمر جيش الاحتلال في عملياته شمال غزة، وقد ينجح في إنجاز المرحلة الأولى، والمتمثلة بترحيل أعداد كبيرة من المنطقة الشمالية إما إلى مدينة غزة أو إلى المنطقة الجنوبية تحت الضغط العسكري.
وقد نشهد تطبيقا جزئيا لخطة الترحيل، لكن يبقى الرهان على حدود قدرة إسرائيل بالانتقال للتطبيق الكامل للخطة، والذي سيعتمد على مجريات الميدان، فطالما أن الحرب مستمرة فإن فرص الترحيل ستبقى قائمة، وكذلك تصدي المقاومة.
والمؤكد أنه حتى وإن نجحت العملية في المرحلة الحالية فمن غير المتوقع أن يذهب الاحتلال بشكل مباشر إلى خطة إقامة المستوطنات في هذه المرحلة إلا بعد انتهاء الحرب.
وفي حال نجحت إسرائيل في هذه الخطة، فإن ذلك سيشكل الحدود الجديدة للقطاع من دون شمال غزة، ولن تتراجع إلى خطوط ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهذا سيكون تكرارا لما حدث في حرب 1956، حين انسحبت إسرائيل من سيناء وغزة بعد العدوان الثلاثي ولم تعد إلى الحدود الدولية المتفق عليها في هدنة 1949.
ويندرج الموقف الأميركي ضمن الإستراتيجية المتفق عليها مع إسرائيل، والمتمثلة في توجيه ضربة قاسمة لكل من يتحدى السياسة الأميركية، أو من يحاول أن يعرقل مشروع التطبيع الإبراهيمي في المنطقة، بالتالي تريد كسر ذراع كل من ساهم سواء بالفعل المباشر أو ضمن محور الإسناد، حتى وإن لم يكونوا أصحاب قرار في هجوم السابع من أكتوبر مثل حزب الله وإيران.
فالجهد الأميركي ينصب على محاولة إعطاء صورة نصر على المحور الذي تصدى للمشروع الأميركي بالمنطقة، والمتمثل في فرض الهيمنة الإسرائيلية عليها، وإقامة محور تطبيعي بقيادة إسرائيل لإدارتها بهدف تفرغ أميركا للصراع الروسي الأوكراني.
وبالتالي، ليس بالوارد الآن أن تذهب أميركا إلى الدفع لوقف هذه الحرب، فالمعركة لم تعد معركة غزة بل معركة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ولا يمكن معرفة كيف أو متى ستنتهي، فالمسار مرهون بمواقف ترامب، إما تعزيز ذات التوجه أو أن تكون هناك قراءة مغايرة يمكن أن تكبح مسار الحرب وتذهب إلى المسار الدبلوماسي.
ما يحدث في شمال غزة يمكن اعتباره امتدادا للرؤية الإسرائيلية منذ اليوم الأول للحرب، التي عبرت عنها بشكل واضح المكونات الاستيطانية في الحكومة الإسرائيلية، وأشارت إلى رغبتها في عودة الاستيطان إلى القطاع بشكل كامل ومنطقة الشمال بشكل أخص، وهذا مرتبط بالفكرة الصهيونية الأشمل في أن هذه الحرب هي فرصة لتصحيح الخطأ التاريخي بعدم طرد الفلسطينيين في نكبة 48 أو نكسة 67.
وبالتالي هي تحمل بعدين، الأول متصل بتهجير الفلسطينيين كرؤية صهيونية، والثاني بالبعد الأيديولوجي منذ بداية الحرب والمتمثل بمطالب العودة للاستيطان في غزة.
ومن الواضح أن هذه الخطة قامت على إعادة مقاربات الأسابيع الأولى للحرب، والمتمثلة بإنهاء أي مقومات للحياة في شمال القطاع، وباعتقادي هذه المنطقة تشكل البداية ويمكن أن تتسع لتصل إلى مدينة غزة، بحيث يُجلى الفلسطينيون بشكل كلي من هذه المناطق، أو يُبقى على الحد الأدنى من السكان فيها.
وما يجري الحديث عنه من فقاعات ديموغرافية فهي تهدف إلى هندسة المنطقة ديموغرافيا لتركيز الفلسطينيين في تجمعات سكانية مضبوطة من قبل الاحتلال.
والمشكلة ليست في النموذج الإداري، وإنما في غياب المناعة الفلسطينية، بمعنى أنه ليس لدينا اليوم رؤية فلسطينية لمواجهة مخططات إسرائيل، فالمطلوب هو إيجاد إدارة موازية وبديلة كما جرت العادة في التجارب الفلسطينية السابقة عندما استُحدِثت اللجان الشعبية في الانتفاضة الأولى، وأجسام العمل الرديف التي تجاوزت الاحتلال وإجراءاته القسرية.
ولا أستبعد أن تنشأ بعض الأجسام إما من تلقاء نفسها أو ضمن مصالح عائلية أو مجتمعية خصوصا إن كان هناك خشية من ظهور الجريمة التي يمكن أن تكون ضمن مخططات الاحتلال.
أما المطلوب فلسطينيا، فهو يتركز في مرونة سياسية تستجيب لكل التحديات الراهنة، وبالتالي لا يصح الحديث بالمقاربات السياسية السابقة ذاتها، سواء ما يتعلق بالمصالحة أو الحكومة أو غيرها، فالحديث اليوم عن تهديد جدي للكيان السياسي الفلسطيني والوجود الفلسطيني على الأرض، وبالتالي نحتاج لعملية إعادة تنظيم لإدارة الحالة السياسية تبدأ من القاعدة وصولا إلى أعلى القمة.
أما المشهد العربي والإقليمي، فهو في حالة ترقب ولا يوجد رؤية واضحة ما لم يكن هناك تحرك فلسطيني جامع يقوم على مبدأ المصالحة وفق قواعد جديدة، وجسم سياسي فلسطيني يدير حالة الصمود الفلسطيني في الضفة وغزة، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير باعتبارها الجسم السياسي الممثل للكل الفلسطيني.
أما الموقف الأميركي فالواضح أنه قائم على إعادة هندسة المشهد الإقليمي على مستوى إستراتيجي بحيث تستعيد إسرائيل موقعها فيه، وهذا ما عبر عنه نتنياهو بوضوح من خلال الحديث عن شرق أوسط جديد. وكله مرتبط بما آلت إليه الانتخابات الأميركية وعودة ترامب.
بات واضحا أن “إسرائيل” تنفذ خطة الجنرالات دون إعلان رسمي، وقد تمكنت من فرض بعض الوقائع في أقصى شمال القطاع، أي بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا، مستخدمة وسيلة التجويع ثم القوة الكاسحة، مدمرة كل شيء كما هو الحال في مخيم جباليا، وذلك في ظل صمت دولي كبير، وانشغال بلبنان وإيران، وباتت الخشية كبيرة حسب ما تشير الوقائع إلى قدرة “إسرائيل” فعلا على تنفيذ خطتها.
وإذا نجح الاحتلال في تنفيذها، فبالتأكيد لن يقبل أي طرف فلسطيني التعاطي معه، فلغزة تجربة خاصة في التعامل مع الاحتلال، لهذا لم تعد إسرائيل تتحدث عن أطراف فلسطينية بل بات الحديث عن شركة أميركية قد تتولى توزيع المساعدات في محاولة إيجاد بدائل غير تقليدية.
والمطلوب فلسطينيا لقطع الطريق على الخطة هو إعلان حماس أولا أن السلطة هي صاحبة الولاية القانونية على غزة، وأنها لم تعد تحكم القطاع، وأن تستدعي السلطة لإدارة غزة، ويُحشد موقف عربي ودولي لدعم هذا الأمر، لأن إسرائيل مستمرة بتنفيذ مخططاتها تحت غطاء إسقاط حكم حماس بغزة.
أما مستقبل قطاع غزة، فهو مرتبط بالعديد من المتغيرات، سواء حدوث حرب إقليمية كبرى، أو الاتفاق على مصالحة فلسطينية، أو إنهاء حكم حماس، ولكن إذا استمر الحال كما هو عليه، فسيكون المستقبل مفتوحا على كل السيناريوهات المأساوية بدءا بالتهجير، وانتهاء بحكم عسكري إسرائيلي يمتد لسنوات.
ولا أظن أن تنجح الولايات المتحدة بتغيير مسار الحرب الإسرائيلية، فهناك إجماع إسرائيلي على أن هذه حرب وجودية، وهذا تقييم يجد له صدى في الأروقة الأميركية التي تسعى كما إسرائيل إلى كسر غزة وللأبد، بحيث لا تشكل تحديا لعقود، وبالتالي هي لا تختلف أصلا مع “إسرائيل” في الأهداف، لذا لم نلمس رغبة أميركية في ممارسة ضغط يمكن أن يؤثر على مجريات الحرب، بل رأينا عكس ذلك تماما.
بتقديري، إن ما يجري في شمال غزة هو تكرار لنهج العمليات العسكرية التي انطلق بها الاحتلال منذ بداية الحرب، ويشبه إلى حد كبير عمليات الدخول المتتابعة إلى منطقة خان يونس، التي أعادت إسرائيل عملياتها العسكرية فيها 4 مرات متتابعة.
والهدف الأساسي من تركيز العمليات في شمال القطاع هو محاولات القضاء على وجود المقاومة من خلال تطبيق خطة العمل العسكري العميق في كل المربعات السكانية بالمنطقة، وهذا تطبيق لروح خطة الجنرالات، حتى وإن حاول الاحتلال أن يسوّق أن ذلك ليس مرتبطا بهذه الخطة.
تحاول إسرائيل إقامة أطر محلية فلسطينية يمكن أن تتعاون مع الاحتلال عبر تشكيل نموذج إداري جديد، ولكن هذه الفكرة حتى الآن قد فشلت. فقد حاول الاحتلال إنشاء لجان عشائرية، وعندما حاولت إحدى العائلات التعاطي مع الفكرة، كان هناك تدخل من المقاومة مدعوم بموقف عائلي ومجتمعي قطع الطريق أمام تحقيقها.
ورغم حالة الحرب، والظروف الاستثنائية، وإمكانية التعامل مع بعض الجهات الدولية غير واضحة الهوية، لكن هناك وعي محلي واضح في سبيل قطع الطريق أمام أي محاولات إسرائيلية في هذا الإطار.
والمطلوب فلسطينيا أمران مهمان، الأول على الصعيد الشعبي والجماهيري عبر تعزيز الرفض بشكل واضح لكل المحاولات الإسرائيلية لطرح أي نماذج لا تمثل الفلسطينيين أنفسهم، وفي تعزيز صمود قرابة ربع مليون فلسطيني ما زالوا مقيمين في مناطق الشمال رغم كل عمليات القتل والتدمير الممنهج الذي يقوم به الاحتلال بحقهم.
والثاني على الصعيد الرسمي المتمثل في السلطة الفلسطينية بثباتها على موقفها الرافض لأن تكون بديلا، وهو ما ينسجم مع بعض المواقف العربية المعلنة على الأقل مصريا وأردنيا وقطريا، وعدم القبول بالتدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي.
والأمر يمتد إلى رفض القبول بإعادة الاستيطان والاحتلال للقطاع، لأن الجميع يعلم أن أي دفع للسكان إلى مناطق الجنوب هذا يعني محاولة تعميق الأزمة إما بالدفع بهم للهجرة عبر مصر، أو على أقل تقدير تحويل جنوب غزة إلى منطقة معاناة إنسانية.
أما فيما يتعلق بما يحدث في الجبهة الشمالية وربطه بغزة، باعتقادي أننا أمام تساؤلات كبيرة حول قدرة إسرائيل على تحمل هذا الاستنزاف الكبير والمركز، سواء من خلال الصواريخ التي تطلق بشكل يومي على العمق الإسرائيلي، ودخول تل أبيب ضمن دائرة الاستهداف، أو حجم الخسائر في صفوف الجنود بالعملية البرية.
وبتقديري، هذا قد يدفع باتجاه صفقة في محاولة لتحييد الجبهة الشمالية، عبر تقديم عمليات الاغتيال التي نفذت بحق قيادات حزب الله كإنجازات إسرائيلية.
أما السيناريو الآخر، فهو محاولة تخطي المحطة الأميركية، ومن ثم الذهاب إلى حالة تصعيد كبيرة وتنفيذ ضربة لطهران. ويبدو أن خطوات الرئيس الأميركي ترامب القادمة هي ما ستحدد التوجهات في هذا الإطار.
خطة الجنرالات هي خلاصة مركزة لمجمل خطط الجيش التي كانت تنكرها “إسرائيل” بشكل مستمر، بمعنى أن هذه الخطة كان ينفذها الجيش بشكل فعلي ولم يكن يطلق عليها اسما أو عنوانا، وعندما جاءت هذه الخطة كشفت طبيعة السلوك والتحرك الإسرائيلي في غزة رغم محاولات الإنكار من قبل الأوساط الإسرائيلية.
وتهدف هذه الخطة للوصول إلى نظام حكم وإدارة وفقا لما يطمح له الاحتلال، بحيث تكون غزة موالية له، ويسكنها أقلية سكانية خاضعة تحت سيطرته الأمنية، ومن دون وجود لحماس أو فصائل المقاومة أو أي تهديد عسكري.
ومن الصعب الحديث إن كان يمكن أن يوجد طرف فلسطيني يتعامل مع إسرائيل أم لا، غير أن هذه الحرب علمتنا أنها تخلق واقعا في ظل قيادات مهترئة، وبالتالي هذا الواقع يمكن أن يجبر الناس على التعايش معه بشكل أو بآخر، وقد يستمر ذلك لفترة طويلة.
وقد يكون من الصعب الجزم بذلك، ويبقى الاحتلال يراهن على أنه قد يستطيع أن يمرر بعضا من المشاريع في ظل هذا الواقع، وأن يضعف الأطراف الرئيسة سواء المقاومة أو السلطة.
والمطلوب فلسطينيا هو ملء هذا الفراغ القيادي، خصوصا فيما يتعلق بالجانب الرسمي الذي يمثل القضية الفلسطينية، ونحن نعلم جميعا أن العالم لا يمكن أن يتعاطى مع حماس بشكل مباشر، أو أن تعود لأن تحكم غزة وهي تعلم هذا الشيء أيضا، ولن تسعى لأن تعود لحكم غزة في ظل هذا الدمار والاحتياجات المطلوبة.
كما ترفض السلطة الفلسطينية وإسرائيل أيضا عودة حماس لإدارة القطاع، وبالتالي يبدو الحل في أن تتوافق السلطة الفلسطينية وحماس على صيغة يمكن أن تحظى بقبول عربي وإقليمي، ويمكن فرضها على العالم، واجتياز العقدة التي تحاول أن تبقيها إسرائيل في عدم وجود العنوان أو البديل الفلسطيني.
أما مستقبل الجبهة الشمالية مع لبنان، فإن معادلته أكثر تعقيدا، ومرتبط أكثر بمصير المواجهة مع إيران، لهذا السبب يحاول الاحتلال إضعاف حزب الله قدر الإمكان مقابل تقوية خصومه السياسيين في الساحة اللبنانية وإعطائهم دورا أكبر، لذلك أعتقد أنه قد يتم التوصل إلى حل في لبنان، ويكون مقدّما على غزة.
وفي حين أن الجيش وقطاعات إسرائيلية واسعة مقتنعون أن هذه النجاحات المرحلية التي تم تحقيقها يجب أن تتحول إلى مشروع سياسي، لكن هذا المشروع حتى يلقى دعما وقبولا أميركيا وعربيا وإقليميا يجب أن يرتبط بمستقبل القضية الفلسطينية، ونتنياهو يتهرب منه لأنه مخالف للمنطلق الأيديولوجي الذي أطّر من خلاله الحرب، وسيكون سبب تفكيك الائتلاف الإسرائيلي الحالي.
تقوم خطة الجنرالات على مبدأ فصل شمال قطاع غزة بهدف تحويله إلى السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وذلك باستخدام الضغط العسكري على السكان من خلال القتل والتجويع والحصار وهدم البيوت، وهو ما يواجه بحالة من الصمود للسكان في شمال قطاع غزة، ورفض الأهالي للإذعان لطلبات الجيش الإسرائيلي، ويجري ذلك وسط دعم أميركي وصمت دولي وعجز عربي.
وهذا السيناريو يصطدم بالمقاومة الفلسطينية التي تخرج للاحتلال من تحت الأرض ومن الأنفاق وتفاجئه بعمليات نوعية وسط تعاظم وزخم واتساع الرشقات الصاروخية من قبل حزب الله التي وصلت إلى تل أبيب الكبرى ومحيطها، وضربت أهدافا حيوية وسياسية مثل منزل بنيامين نتنياهو ومصانع حيوية في حيفا وعكا.
هذا الواقع الميداني هو الذي يحدد أجندة اليوم التالي وسيناريوهاته، لذا فلا يمكن الجزم بقدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ خطة الجنرالات في ظل التغيير السريع في ظروف الميدان.
أما المطلوب فلسطينيا فإنه يتمثل في ضرورة التحرك الرسمي الفعّال والتواصل مع الأطراف العربية والدولية لمنع تنفيذ الخطة، وكذلك على الشارع الفلسطيني في الداخل والخارج أن يتحرك بقوة ضد الحرب.
حاليا وبعد أن تم فتح جبهة الشمال، وكذلك في ظل التصعيد على جبهات إيران واليمن والعراق أصبح سيناريو وقف الحرب مرتبطا بشكل مشترك وبصورة شمولية، فلا يمكن وقف الحرب في الشمال واستمرارها في غزة.
وفي المقابل كيف ستنتهي الحرب ومتى وإلى أين وما نتائجها؟ كل هذا مرتبط بالفعل والأداء الميداني لجميع الأطراف، خاصة وأن جميع الأطراف باتت تنظر لهذه الحرب ليس فقط من منظور إستراتيجي بل من منظور وجودي، فالذي يرسم المشهد مخرجات المعركة.
ولا أرى أن أميركا وإدارتها تختلف مع حكومة الاحتلال في السياسات والرؤية الإستراتيجية لهذه الحرب وأهدافها، وتقديري بأن هناك خلافات في التكتيكات والتفاصيل والأدوات.
ويوضح ذلك مشاركة خبراء وطيارين وجنود وجنرالات أميركيين في فصول الحرب عمليا، واستمرار تدفق الأسلحة والعتاد الأميركي والدعم المالي واللوجستي والدبلوماسي، مما يؤكد بأن المعركة من وجهة نظر الإدارة الأميركية هي معركتهم.
ولو كان هناك خلاف جوهري لرأينا أن هناك تغيرا في السياسة العملية والفعلية من قبل الإدارة الأميركية، ولكن ما نراه يؤكد التبني الكامل من قبل أميركا لهذه الحرب وأهدافها.
إعداد: مركز رؤية للتنمية السياسية بالتعاون مع الجزيرة نت