ماذا يعني القرار المبدئي لمحكمة العدل حول “الإبادة الجماعية” في غزة؟ وما هي انعكاساتها العملية والسياسية؟


أصدرت محكمة العدل الدولية، الجمعة 26 كانون ثاني- يناير الجاري، قرارا مبدئيا بخصوص الدعوى التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضد اسرائيل فيما يتعلق بارتكابها إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة خلال عدوانها المتواصل على القطاع منذ الثامن من تشرين ثاني- أكتوبر 2023 والذي أدى لاستشهاد أكثر من 25 ألف فلسطيني (حتى اليوم) وعشرات آلاف الجرحى والمهجرين داخليا.
وقبيل الوقوف على توصيف المآلات القانونية والارتباطات السياسية للقرار المبدئي للمحكمة لا بد من توجيه الشكر لدولة جنوب إفريقيا على شجاعتها ولكل جهودها وشراكتها في النضال القانوني والدبلوماسي والسياسي مع الشعب الفلسطيني المبني على نية صادقة وتجربة مماثلة ضد الفصل العنصري والاستعمار الغربي.
وبالعودة إلى توصيف القرار والانعكاسات على أرض الواقع والممارسة العملية وما الذي يمكن أن يعنيه قرار محكمة العدل الدولية المبدئي، يمكن القول بعبارة مكثفة قبل التفصيل، إنه قرار لا يعني شيئا عمليا على المديين القصير والطويل بل هو مجرد إقرار من المحكمة باحتمالية وقوع إبادة جماعية دون تأكيد جازم، وإقرار منها بتوفر عناصر كافية للتحري والتحقيق بالأمر قدمتها جنوب إفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويعني أيضا عدم رفض القضية ككل وتوفر الشروط لفرض تدابير مؤقتة لكنها تفقد قوة التنفيذ، والإقرار بضرورة التحري والتحقيق لاحتمال وقوع إبادة إسرائيلية جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة..
وعلى أرض الواقع لا يعني القرار المبدئي للمحكمة الدولية إلزاما أو تطرقا أو مطالبة أو دعوة عاجلة مؤقتة ملزمة لإسرائيل، وهي لسوء الحظ دولة موصفة كاملة العضوية في الأمم المتحدة ومحمية أمميا ومن قوى كبرى تدعمها عسكريا وسياسيا واقتصاديا لا يتضمن القرار دعوة ملزمة لفرض وقف لإطلاق النار في غزة يتم إجبار إسرائيل عليه، ما يعني أن شرط تنفيذ أي إجراءات إنسانية ملزمة مؤقتة أخرى مثل وقف تدمير البنى التحتية وإدخال المساعدات العاجلة للمدنيين والمستشفيات من أدوية وطعام وماء، مفقود من حيث المبدأ، والشرط لكل ذلك هو فرض وقف عاجل لإطلاق النار وهو ما لم يتضمنه قرار المحكمة.
وبالتالي فهناك تنافر معرفي واضح بين نص القرار والنتائج المرجوة منه، إذ تدعو المحكمة إسرائيل لضرورة منع ما يؤدي لوقوع أعمال القتل التي قد تؤدي لحصول إبادة جماعية في غزة، دون دعوة أو إلزام لإسرائيل لوقف إطلاق النار وهو ما يمثل تناقضا معرفيا غريب ورهيبا، إذ لا يمكن الدعوة لمنع القتل أو تخفيفه دون الدعوة لوقف إطلاق النار.
ووفقا لمحكمة العدل أيضا فعلى إسرائيل “بكل ما لديها من قدرات” اتخاذ جميع الإجراءات لمنع وقوع إبادة جماعية وأن تمنع قواتها من ارتكاب شيء من هذه الأفعال التي قد تؤدي لذلك، وكذلك وقف ومنع التحريض على الإبادة الجماعية والقتل ومن ثم رفع تقرير حول ذلك بعد شهر.. كيف يطلب من المتهم المحتمل بارتكابه جريمة ضخمة أن يمنع عناصره من فعل ماهم متهمون بفعله؟ وكيف يطلب منه ما يجب أن يطلب من المحقق أن يتخذه بحقه؟. إن كانت هذه هي آلية التحري والشروع بخطوات قانونية فكيف الوصول لما هو إنفاذ عملي في المستقبل؟! إنها رحلة طويلة وشاقة حتى إن كان هنا شيء عملي ولم يصطدم الأمر بمعارضيه فكيف إن اصطدم؟. المتهم وفقا لهذه الآلية يطلب منه فعل ما يجب أن يرفع به التهمة المحتملة عن نفسه وأن يطيل المدة ويلعب بالوقت دون تغير حقيقي عاجل على سلوكياته، أي إن الآلية تلك يمكن أن تؤدي لأن تتم مساعدة المتهم لينجو ويخفي الأدلة ويغطي على جريمته المحتملة! ..
كل ذلك يمثل عمليا عدم اتهام حقيقي لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية وكل ما جاء يعتبر أنه شيء تحت التحري والتحقيق والاحتمالات ويندرج فقط ضمن الطلب المؤدب “المهني” من إسرائيل دون ابتزاز أو ضغط حقيقي عليها ومن دون التعامل معها كمتهم على الإطلاق بل كشريك وهنا عين التناقض..
إن كل ماتقدم مخيب للآمال من الناحية العملية ولا يختلف كثيرا عن واقع حال المجتمع الدولي وعقمه في ردع الجريمة الإسرائيلية، وهو مجرد تذكير باحتمالية إضافة إدانة أممية جديدة لإسرائيل في المستقبل حتى إن اتخذ قرار فارق ولا تعني شيئا على الأرض ولا يعني كل ذاك المقدرة الدولية والقانونية لإنفاذ أي محاكمة أو محاسبة حقيقية ضد إسرائيل عن ال120 يوما الماضية من جرائمها ولا سيما بعد وإعطائها مهلة شهر للهروب إلى الأمام وتجهيز نفسها بصورة احترافية للتغطية على جرائمها مع الإشارة إلى أن القرار من المحكمة دعا إسرائيل إلى عدم تدمير أي أدلة على ارتكاب أي إبادة جماعية إسرائيلية في غزة، وكأن قضاة المحكمة يقولون لإسرائيل: أتلفي الأدلة وأخفي المذبحة خلال مهلة مدتها 30 يوما!
وفي سياق آخر وهو النتيجة التي يمكن أن تترتب على حلفاء إسرائيل، فإن الدول ستصبح متورطة أو متهمة في حال دعمها إسرائيل ومعرضة للمساءلة والوقوع في متاعب تواجه من خلالها شيئا يشبه ماتقدم والذي هو حتى الآن مجرد صداع قانوني من قبل محكمة العدل، وفي حال تم ذلك واتهمت دول داعمة لإسرائيل فهذا إنذار لكل حلفاء دولة الاحتلال أنها قد أو تتورط في تهمة “محتملة” لدعمها إبادة جماعية “محتملة” ترتكبها إسرائيل وذلك كله في الاحتمالات وليس مؤكدا؛ أي أن كل شيء متروك للاحتمالات والمجالات المفتوحة دون حسم أو ردع، مع الإشارة هنا إلى أن التهم المحتملة حتى إن أثبتت ضد إسرائيل او داعميها وحلفائها فهي فاقدة لقوة التنفيذ وفرض العقوبة بحق أي منها ولن تتعدى عن ضرر السمعة الدولية.
وبالتزامن فإن الأمم المتحدة قررت مباشرة رفع قرار المحكمة لمجلس الأمن الدولي، الذي يمكنه منح قرارات هذه المحكمة قوة الإنفاذ أو منع ذلك عنها، وكله تزامنا مع تصريحات أميركية تؤكد أن واشنطن الحليف الأبرز لإسرائيل والقوة الأكبر في العالم ترفض بوضوح أي اتهامات لإسرائيل برتكابها إبادة جماعية في غزة..
وبالرغم من أن بنود التدابير المؤقتة والقرار المبدئي من محكمة العدل الدولية تعتبر جميعها ملزمة وفقا لتصريحات مسؤولي الأمم المتحدة، ومن بينها دعوة إسرائيل لمنع مسؤوليها وعسكرييها التحريض ومحاسبة أو معاقبة ضباطها المتورطين بدعوات وخطوات وانتهاكات تؤدي لإبادة جماعية في غزة والدعوة لها للتوقف عن تدمير غزة، لكن كل ذلك يبقى دون أمر بوقف فوري لإطلاق النار ودون وجود قوة أو آلية تنفيذ محمية بسلطة حقيقية تفرض القرارات، كما يصطدم كل ذلك برؤية أعضاء مجلس الأمن الدائمين. وبالتالي فإن مجرد تعهد إسرائيل كلاميا وليس عمليا بالالتزام بقرار محكمة العدل وتقديمها تقريرا مزيفا محرفا بعد شهر، ومن ثم اصطدام القضية في مجلس الأمن بالفيتو الأميركي يعني تعليق القضية وبقاءها ضمن السياق المعنوي النظري وتمييعها من قبل إسرائيل ومجلس الأمن إلى أن يثبت العكس وتقع معجزة ما تؤدي لتوقف المذبحة المستمرة في غزة، وذلك دون إنكار أن الإدانة أو محاولة إدانة إسرائيل وداعميها في الفضاء الدولي الحالي هي خطوة مهمة وسابقة تاريخية عظيمة أنجزتها جنوب إفريقيا وهو ما يحدث للمرة الأولى كما إن تفاصيل القرار المبدئي في حال فرض تنفيذه تحمل الكثير من الجوانب المفيدة للشعب الفلسطيني رغم عدم الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة.