ماذا تبقى من “سراج الأمل”

أزجر الأمل أن يبتعد ويتركني!! فأحزاني وخيباتي هزمتني بل دحرجت قلبي كحجر على هاوية، لم أعد أستطيع أن أستقي من جذوة الأمل ولو كلمة فنورها انطفأ في قلبي وطاف الحزن في روحي.

عذراً… أكره الغرق في خيبتي، لكني سأفعل… وسأغرق حتى الثمالة بهمي وهزيمتي!!

الموت في سوريا تغوّل وأغوته الدماء، والمجزرة عمّت وغدت فناء… فكيف لي أن أرى الأمل مع كل هذا الأسى؟!

بت أرى نفسي بين الضحايا ممددة في كل مجزرة… ربما أكون أنا ابنة المجزرة المؤجلة!! صوت الحزن مع ملوحة الدموع تأخذني إلى بئر من الوجع والحسرة.. ترميني وتبعثرني فأكون أنا الأنين، والوجع أنا.. أرى نفسي أنا المقتولة، و أنا أهلها…أنا الطفلة الذابلة، وأنا أمها الحائرة… أنا الخوف، وأنا الخائفة… أتبادل أدوار الموت وتنتهي كلها بالمجزرة…

أنَّ الأمل ولملم نفسه خَجلاً من حزني وحزننا الجماعي وكاد أن يمضي… لكني أستوقفته ورجوته أن لا يمضي ويحتمل روحي المثقلة فأنا برغم كل شيء ما زلت بحاجة إليه وسأمضي… ولكن إليه!!

سأستعير من الأمل ثقته بالفرح لأقول له أنت الخير في هذا الظلام.

لكن يا أمل أرجوك لا أريد منك ومضة تعبّد فيها برفق طريق الخيبة… فالموت وباء يفتك بنا كالطاعون، وأنت أيها الأمل فعل المقاومة…

سأمضي إلى الأمل ولا خيار لي بذلك لأن للسوسنة موعد مع الربيع لم تخلفه يوماً… لاكتمال القمر موعد… لشروق الشمس موعد… ولغيابها موعد… لأمطار بلادنا موعد…وللعطش موعد … للولادة موعد … وللموت وعد… سأمضي إلى الأمل كي أكمل مواعيد دورة الحياة… سأمضي إليه بجناح فراشة وقلب طفلة …

سأبحث عن الأمل وأمضي إليه لأمسح دمع الأمهات وأعيد للعجوز كأس شايه وكرسيه الذي هجره أمام باب الدار…سأعيد ترتيب ضجيج الحياة في حينا… أغنية الساقي… صوت بائع الخضار… زحمة السير …أغنية العاشق المنبعثة من سطح بيت الجيران… وهديل الحمامات في أرض ديارنا… سأعيد كل ما افتقدته وفقدته ولكني أريد كسرة منك أيها الأمل كي أستقوي على ليلي… فأنا أريد أن أبني نصباً تذكارياً لكل الشهداء الذين سقطوا وأبكيهم وجعاً وجعاً…. أريد الأمل كي أعيد حكاياتهم وأزين الآس والريحان بتراب قبورهم… أريد أن أزرع ورد الجوري والنسرين وأسميه بأسماء الشهداء زهرة زهرة… أريد أن أمسح دموع الغوطة على زهور المشمش واللوز حين سقطت.. أريد أن أعيد للحَور قامته التي انكسرت.. أريد الأمل كي يستيقظ الندى باكراً على حضن زهرة أريده كي لا يذبل الندى قبل أن تأتي شمس الضحى… أريدك يا أمل أن ترافقني ليمر كل هذا الألم كغشاوة في الذاكرة…

أريد الأمل ليكتمل عشقي للوطن وأستطيع أن أنزع من قلبي حقدي على الطغاة شرط أن يرحلوا ويتركوا لنا ما تبقى من شجر وقمر…أحتاج الأمل قبل أن يرحل عنا ما تبقى لنا من وطن وحينها سأعتذر من شباك بيتنا وسور حديقتنا عن غيابي .. سأضم أحجار ما كان بيتي حجراً حجراً إلى صدري فهناك تعرفت إلى قلبي…. أريد الأمل كي أتبع الغيمة في طريقها إلى الأرض اليباب… أريد الأمل كي يتناهى إلى قلبي صوت أمي تناديني قبل أن ترحل إلى الغياب… أريده كي أسمع ثانية خرير ماء ساقية هربت من نهر الأعوج، وهسيس الموقد ونداء الخبز من تنور لفحت ناره وجه بردى…

صحيح أن بوابات الألم والموت انفتحت على وسعها في سوريا ولكن بوابة الأمل أيضاً انفتحت، فالظلم لم يعد كابوساً جاثماً على الصدور إلى الأبد…

لا تقتلوني بيأسكم!! فأنا رأيت الأمل في عشق طفلة لشامها… في عطش عجوز لقطرة ماء من نبع الفيجة… في دعاء الآلهة المسمرة في المتاحف… في ظلال الله تحت أشجار الزيتون… رأيت الأمل في أغاني العيد تعلو بين الركام…. رأيته يهب كنسمة الصبح تكنس الحزن والغبار… رأيت الأمل في عشق الياسمين لداره.. في الوجوه التي تنتظر صباحا بلا غربة ولا لجوء.. في الحنين المختبئ في حقيبة المدرسة… في الشوق ليوم عادي بلا موت ولاخوف… رأيت الأمل لأن الموت لا يأتي ليبقى بل يموت ويأخذ معه كل الغربان السود….فدوام موتنا هو المحال ودوام قهرنا مستحال وليس لنا سوى نافذة الأمل نطل منها على غدنا لنرى فيه أنفسنا ونحن نمشي منتشين بكرامتنا وحبنا وحريتنا…

سأبحث عن الأمل المختبئ في أغنية وأرجوحة.. في صوت الحقيقة المنبعث من بين أصوات النشاز العالية… سأراه في مصر يبحر مع إيزيس في النيل.. يمضي إلى فجر لا فراعين ولا ظلم فيه… يلبس جلباب الفلاح ويقلب الأرض لتثمر لا لتبور… يخلع الليل الطويل والتباس الرؤية ويتباهى بالنور.. أريد الأمل لأني أؤمن بالعدل الذي من أجله قامت الثورة… أؤمن أن من غنى تحت الرصاص “يا حبيبتي يا مصر” لا يمكن أن يقبل بجنرالات الموت بديلا لذلك الحب … فالتاريخ لا يعيد المهزومين ولا المطرودين منه إلى الصدارة… والظلم يمكن غفرانه ولكن لا يمكن نسيانه… يمكن للمصريين أن يتسامحوا مع القاتل أو السارق ولكنهم لن ينسوا فقرهم وخوفهم وذلهم من طغاتهم وفراعينهم… أريد الأمل ليطفو على زبد الكلام المتناثر هنا وهناك ليبرر الجريمة… أريده ليعري جوف الكلمات الأسود ويعيد للثورة ألقها…

لليل قمره… وللصباح نجمته.. وللنهار شمسه.. أما أنا فلي الأمل والحلم بكل ذلك.. لي القمر الذي لا يغيب عن سماء غزة، ونجمة الصبح التي تزين ليل المتعبين.. لي العطش والشوق والحنين.. لي فلسطين.. لي العصافير التي في قلبي لا تنام…. لي صوت الناي والأغنيات.. فظلال الخوف وخوذة الجندي لن تنزع من روحي لحظة الفرح في التحام الأرض بقدم معفرة بغبارها في دبكة الدلعونة… لن يخطف سجان يحرس الخوف خفقة الأمل المنفلتة من سجين سمّر عينيه على “شراقة” الحرية… فالأرض هي الناس وأحلامهم، و هذه الأرض أطهر من أن تكون سجناً ومقبرة وحواجز أو ورقة في جيب مفاوض… والإنسان كان ليكون.. ووُلد ليحيا… ليعمر الأرض بالحياة لا ليحرقها…

لن أكفر بالأمل… لن أكفر بالأمل مهما اسود الليل…فهو الأغنيات والأزهار والأشجار والأطفال والرجال والأمهات… هو صيرورة الحياة، ولو فعلت فقد حكمت على قلبي بالموات..

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *