ماذا بقي من “فتح” بعد مؤتمرها السابع؟
لا أتوخى من هذا العنوان التقليل من شأن حركة فتح أو الإيحاء بأنها انتهت، فهذه الحركة مازالت تتمتع برصيد قوي في مجتمعات الفلسطينيين، وإن كان يقل كثيرا عما كان لها في السبعينيات والثمانينيات بدليل خسارتها في انتخابات المجلس التشريعي 2006، وما زالت أيضا تهيمن على السلطة والمنظمة ومجمل الهيئات الجمعية الفلسطينية.
يفترض أيضا الانتباه إلى أن هذه الحركة لم تنته كبنية سياسية، إذ هي مستمرة في الوجود، خاصة أنها مازالت تسيطر على الشرعية والقرار والموارد عند الفلسطينيين، وعلى أجندتهم السياسية، رغم أنها هي ذاتها تغيرت، أو تحولت من حركة تحرر إلى سلطة، ومن المقاومة إلى التسوية، ومن الكفاح المسلح إلى المفاوضة، ومن الصراع مع إسرائيل إلى التعايش معها، ومن أجندة الصراع على ملف 48 أي النكبة إلى ملف الصراع على دولة في الأراضي المحتلة (1967)، أي في 22% من فلسطين.
هذا وذاك يعنيان أن الفلسطينيين مازالوا بحاجة إلى حركة تحرر وطني تعددية ومتنوعة ومستقلة، كتلك التي مثلتها تلك الحركة، في حقبة ما قبل قيام السلطة، سواء كان اسمها فتح أو غير ذلك. كما يعني ذلك أنجالحركات الوطنية والأحزاب السياسية قد لا تنتهي بتغير أحوالها وأجندتها، إذ هي أيضا يمكن أن تكيف ذاتها وأن تبرر كل ذلك بادعاءات مختلفة، كما بينت التجربة التاريخية، وهو ما بينته تجربة فتح أيضا.
مشكلة فتح ومؤتمراتها
في تاريخها الطويل عقدت حركة فتح، وهي كبرى الفصائل الفلسطينية، والحركة التي قادت العمل الوطني الفلسطيني طوال نصف قرن، سبعة مؤتمرات، الأول في الكويت 1962، والثاني والثالث والرابع في دمشق 1968، 1971، 1980، والخامس في تونس 1988، والسادس في بيت لحم 2009 والسابع في رام الله 2016.
ثمة عدة ملاحظات يمكن استنتاجها من الفقرة السابقة، أولها، انتظام مؤتمرات فتح في المراحل الأولى، أي إبان صعود الحركة الوطنية الفلسطينية، وعدم انتظامها في المراحل التالية، أي إبان هبوطها وتحولها إلى التسوية والسلطة، إذ عقدت مؤتمرها السادس بعد 21 عاما على التئام مؤتمرها الخامس، وعقدت مؤتمرها السابع بعد سبعة أعوام على مؤتمرها السادس، ما يعكس ترهل بناها وجمود حياتها التنظيمية وحراكاتها الداخلية، رغم أن نظامها الداخلي ينص على عقد المؤتمر كل خمسة أعوام.
ثانيا، يفيد ما تقدم بأن معظم الخيارات السياسية المصيرية التي انتهجتها قيادة هذه الحركة، بخاصة من موقعها في قيادة المنظمة والسلطة، لم تأخذ شرعيتها من الهيئة العليا أو التشريعية في الحركة، وهي المؤتمر العام، كما يفيد ذلك بأنها لم تأخذ حقها من النقاش في أطرها، وهذا ينطبق على اتفاق أوسلو (1993)، وإقامة كيان السلطة في الضفة والقطاع.
ثالثا، يعني هذا أيضا، أن هذه الحركة عقدت مؤتمرين لها في الداخل، في حين عقدت خمسة مؤتمرات لها في الخارج. رابعا، يتضح من كل ما تقدم، أن هذه الحركة تشتغل وفقا لمزاج قيادتها، أو قائدها العام، أو وفقا لما يراه مناسبا، بحيث تبدو فتح بمثابة تنظيم يخضع للنظام الأبوي، أكثر منها حركة سياسية ديمقراطية، تستمد مواقفها من المنتسبين إليها، مع العلم أن هذه الحركة لم تنتظم في هيكلية حزبية، وهي ليست حزبا، كما أنها لم تتحول إلى جبهة، أي أنها تأخذ شكلا عشوائيا، بين الحزب والجبهة بدون الانتظام في هيكلية معينة، علما أن التنظيم، أي الأقاليم (وهيكليتها: المناطق والشعب والحلقات والخلايا) هي مجرد جهاز من أجهزة فتح، يشرف عليه مكتب التعبئة والتنظيم، مثله مثل أجهزة الإعلام والأمن والعلاقات الخارجية والمالية وقوات العاصفة وباقي الأجهزة الإدارية والخدمية التي لا تنتظم في هيكلية معينة، ولا تمارس حياة تنظيمية أو سياسية؛ وهذا ما سنفصله لاحقا.
إشكالية العضوية
هكذا، فخلافا للصورة البسيطة التي ربما تكون سائدة عند كثيرين، فإن مؤتمر فتح، يعقد بقرار من القيادة، أي ليس بناء على بند في نظامها الداخلي ينص على ذلك، ولا بحسب الظروف الصعبة أو الخطيرة التي تتطلب هذا الأمر؛ هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن قيادة فتح هي التي تحدد معظم أعضاء المؤتمر، أي أن أكثر من الثلثين يأتون بالتعيين، تحت مسميات نص عليها النظام الداخلي (مجلس استشاري، كفاءات، سفراء، منظمات شعبية، عسكريون، أسرى، عاملون في السلطة والمنظمة) ما يتيح من خلالها تحكم القيادة بتركيبة المؤتمر، أو بكلام آخر يتيح لها انتخاب ناخبيها.
وبشكل أكثر تحديدا، بالنسبة للمؤتمر السابع، يمكن ملاحظة الآتي: أولا، كان حجم تمثيل فلسطينيي الضفة وغزة، أو تمثيل تنظيم فتح في الضفة وغزة، في المؤتمرين السادس والسابع، أكثر بكثير من حجم الفلسطينيين اللاجئين، أو تنظيم فتح في الخارج (بما في ذلك سوريا ولبنان والأردن وباقي الدول العربية والأجنبية)، الذي بلغ 128 عضوا من أصل 1400 عضوا، في حين كان حجم هؤلاء أكبر في المؤتمرات الخمس السابقة.
ثانيا، كان تمثيل “تنظيم فتح” في المؤتمر السابع ضعيفا جدا، أي حوالي 438 عضوا، يمثلون التنظيم في الداخل والخارج من أصل 1400، أي أن حجم تمثيل العاملين في الأجهزة أكبر بكثير. ثالثا، حجم المنتخبين قليل جدا بالقياس لعدد المعينين من قبل القيادة الفتحاوية، إذ لا يزيد عددهم عن 546 عضوا من أصل 1400 (اللجنة المركزية، المجلس الثوري، ممثلي الأقاليم في الداخل والخارج)، أي أن عدد المعينين حوالي 850، تبوأوا العضوية تحت بنود نص عليها النظام الداخلي، وفق ما ذكرنا سابقا، مع التأكيد أن عددا كبيرا من ممثلي الأقاليم يأتي بالتعيين أيضا؛ وهذا يضمن إعادة تجديد انتخاب الطبقة السياسية المهيمنة في فتح.
رابعا، غلب على المؤتمر طابع الموظفين أو العاملين في أجهزة المنظمة والسلطة وفتح في السلكين الأمني والمدني، علما أن هؤلاء احتلوا تلك المناصب بتعيين من القيادة ذاتها، ما يعني أن هذه حركة بات مسيطر عليها تماما، وإنها أضحت حزبا للسلطة بكل معنى الكلمة، منهية بذلك عهد الازدواجية بين المقاومة والتسوية، وحركة التحرر والسلطة، والتي كانت طبعت فتح بطابعها سابقا، أي بعد قيام السلطة؛ في حقبة الرئيس الراحل ياسر عرفات.
خامسا، قد يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن حصة بلدان اللجوء (الأردن ولبنان وسوريا) في المؤتمر هي نحو 3 إلى 4% (45 عضوا فقط)، ما يعكس هامشية مكانة مجتمعات اللاجئين في فتح، كانعكاس لتراجع دور الخارج، وتراجع أهمية قضية اللاجئين في سلم الأولويات لمصلحة خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، على رغم دور هذه المجتمعات في نهوض هذه الحركة ومجمل العمل الوطني الفلسطيني.
جدير بالذكر أن تركيبة المؤتمر أتت على النحو الآتي: 22 عضو لجنة مركزية، 86 عضو مجلس ثوري، 51 عضو مجلس استشاري، 151 عسكريين، 138 سفراء وموظفين في السلطة، 193 كفاءات، 57 أعضاء في مفوضيات الحركة، 146 عاملين في المنظمات الشعبية، 66 من الأسرى، 2 معتمدين (يلحظ أن الفئات السابقة بالتعيين)، 198 الأقاليم الشمالية (الضفة)، 112 الأقاليم الجنوبية (غزة)، 128 الأقاليم الخارجية، أي العربية والأجنبية (45 منهم فقط من سوريا ولبنان والأردن).
حقا، فهذا وضع تقوم فيه قيادة فتح بانتخاب ناخبيها.. فما معنى، أو ما هي معايير، عضوية أعضاء المجلس الاستشاري والعسكريين (وهم العاملون في أجهزة الأمن) وموظفي السلطة والكفاءات والعاملين في المفوضيات والمنظمات الشعيبية الذين ليست لهم أي صلة بحياة تنظيمية بمعنى الكلمة؟
في بعض وقائع المؤتمر
يلفت الانتباه أن المؤتمر استهل أعماله بتجديد الولاء لـ محمود عباس، بل وتنصيبه قائدا عاما لحركة فتح، وطبعا هذا خطأ كبير، وتجاوز من الناحية التنظيمية ومن الناحية السياسية، سيما أنه لا يجوز لحركة أو لحزب ما أن يعطي ثقته لشخص -أيا كان- على بياض، إذ كان يفترض أن يتم ذلك بعد مناقشة تجربة الحركة ومراجعة مسارها، والتقرير فيما إذا كانت تسير على صواب من عدم ذلك. ومثلا، هل انتخب لأن الحركة أضحت أفضل حالا منذ قيادته لها منذ 12 عاما؟ أو هل تم ذلك لأن خيار أوسلو نجح وقامت الدولة الفلسطينية المستقلة؟ أو هل كيان السلطة والمنظمة على ما يرام في ظل رئاسته لهما؟
أيضا، بدا واضحا أن المؤتمر تحول إلى نوع من مهرجان خطابي، مع كثرة المتكلمين من الوفود، ومع كلمة الرئيس أبو مازن التي استمرت زهاء ثلاث ساعات، دون أن يعرف أحد ماذا يقصد أو ماذا يريد، سيما أنه صور الأمور وكأن أوضاع الحركة والسلطة والشعب الفلسطيني على خير ما يرام، وكأن كل هذا التراجع في شعبية فتح وتآكل دورها في مواجهة إسرائيل، وإخفاق خيارات المقاومة والانتفاضة والمفاوضة لا تعني شيئا! وفي كل الأحوال فإن الرئيس لم يكن موفقا في كلمته التي خرج فيها عن النص، وبدا مزاجيا في أطروحاته الارتجالية، ويفتقد للدقة وللحس السياسي السليم.
الأهم من ذلك بدا من الكلمات ومن أجواء الحبور ومظاهر التبجيل وعواصف التصفيق وكأن مهمة المؤتمر هي مجرد الاحتفاء برئيس الحركة أو قائدها العام، وتأكيد شرعية الطبقة السياسية المهيمنة، وذلك من خلال إعادة انتخابها، بدلا من أن تنصب مهمته على اجراء مراجعة نقدية مسؤولة حول تجربة فتح، بما لها و ما عليها، أين أخطأت وأين أصابت؟ ولماذا حصل لها أو بها ما حصل؟ وأيضا ملاحظة الإخفاق في خياري السلطة والتسوية، وتاليا البحث عن خيارات موازية او بديلة، ناهيك عن مراجعة دورها في المنظمة والسلطة على ضوء تغييب وتهميش الأولى، وترهل الثانية، إضافة إلى بحث الأوضاع التي تمكن من تحويلها إلى تنظيم حقا، بتفعيل أطرها وشمولها مختلف مؤسسات وأجهزة الحركة، واعتماد معايير الكفاءة والوطنية والنزاهة، لاستنهاض بناها وإعادة الاعتبار لها كحركة تحرر وطني، وتجديد أهليتها النضالية.
في السياسة تم تفصيل البرنامج السياسي المقدم للمؤتمر بحيث يشرع ويبرر ويكرس الخيار الذي اتخذته القيادة الفلسطينية منذ أربعة عقود، أي خيار إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، رغم أن هذه القيادة ذاتها نعت هذا الخيار مرارا بسبب التعنت الإسرائيلي، وبحكم استشراء الاستيطان، وقضم أراضي الضفة، وبالنظر لاستنكاف الدول الكبرى عن الضغط على إسرائيل، وغياب الفاعلية العربية، وعدم قدرة الفلسطينيين على وضع هذا الخيار منذ أربعين عاما.
الأنكى من ذلك أن هذا البرنامج لم يأخذ في اعتباره أن كيان السلطة بات مجرد ملحق بإسرائيل أو مرتهن لها، فضلا عن أنه قارب أو خضع للسردية الإسرائيلية باعتباره يرى الصراع مع إسرائيل وكأنه بدأ في العام 1967، علما أن حركة فتح كانت انطلقت أصلا في 1965، بهدف تحرير فلسطين.
في الانتخابات تم بداية تتويج أبو مازن قائدا عاما بالتصفيق، وقبل بدء أعمال المؤتمر؛ هذا أولا، ثانيا تم اعتبار القادة القدماء ابو لطف وأبو ماهر وأبو الأديب كأعضاء دائمين في اللجنة المركزية، أي خارج أي عملية انتخابية، لكن من دون حق بالتصويت ومن دون احتسابهم ضمن نصاب الاجتماع للهيئة المذكورة؛ ولا أدري هل هذا تكريم لهم أو خشية من عدم انتخابهم؟ ثالثا عشرات الأعضاء رشحوا أنفسهم للجنة المركزية ومئات رشحوا أنفسهم للمجلس الثوري، وهذا ليس دليل حيوية وعافية وإنما دليل تسيب وترهل وغياب معايير فاقم منها أن ثلثي المؤتمر جاؤوا بالتعيين. رابعا، السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يتم تصعيد المناضل الأسير مروان البرغوتي إلى اللجنة المركزية بذات الطريقة ومن خارج الانتخابات؟ وما هي الجهود التي تبذلها السلطة على كافة الصعد للإفراج عنه (علما أنه فاز في الانتخابات بأصوات عالية)؟
على ذلك يمكن القول إن المؤتمر السابع هو مجرد امتداد للمؤتمر السادس، وهو يحث الخطى على مغادرة المبادئ الأساسية التي قامت عليها فتح، ومغادرة تجربتها كحركة تحرر وطني، باتجاه التحول إلى حزب للسلطة أو حزب لبيروقراطية السلطة؛ مع الاحترام للمناضلين أو ما تبقى منهم. وهذا يعني أن مرحلة من النضال الفلسطيني انتهت ما يفترض التأسيس لمرحلة جديدة وحركة وطنية جديدة بمفاهيمها وبناها وطرق عملها.
(مادتي تعليقا على مؤتمر فتح السابع في الجزيرة نت متل اليوم 2016