ماذا بعد اجتماع العقبة؟
شهدت مدينة العقبة يوم 26 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) اجتماعا عقد بناء على دعوة من الحكومة الأردنية، حضره مسؤولون فلسطينيون وإسرائيليون وأردنيون ومصريون وأميركيون، وصدر في ختامه بيان مشترك، تضمن جملة التزامات على مختلف الأطراف المشاركة العمل على تنفيذها، أهمها: التزام الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بخفض التصعيد، ومنع وقوع مزيد من أعمال العنف، ووضع حد للتدابير أحادية الجانب بين ثلاثة وستة أشهر، ومواصلة إجراءات بناء الثقة بينهما من أجل معالجة القضايا العالقة من خلال الحوار المباشر. التزام إسرائيل بوقف مناقشة أي وحدات استيطانية جديدة أربعة أشهر، ووقف منح التصاريح لأي بؤر استيطانية ستة أشهر. التزام مصر والأردن والولايات المتحدة بالمساعدة في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من تفاهماتٍ وتيسيرها. إقرار جميع الأطراف بأهمية الحفاظ على الوضع التاريخي القائم في القدس والاعتراف بوصاية الأردن على الأماكن المقدسة فيها. التزام جميع الأطراف بالعودة إلى الاجتماع في شرم الشيخ خلال شهر مارس/ آذار الحالي لمتابعة ما تم الاتفاق عليه، وبعقد اجتماعات دورية وفق صيغة تتوسّع باطراد لضمان تحوّلها إلى عملية سياسية تفضي إلى سلامٍ عادلٍ ومستدام.
للوهلة الأولى، توحي قراءة “بيان العقبة” بأنه ينطوي على جديدٍ يبعث على التفاؤل، خصوصا أنه ربط تنفيذ الالتزامات على الأطراف المشاركة في الاجتماع بتوقيتات محدّدة سلفا، غير أن الفحص الدقيق لهذه الالتزامات، خصوصا الواقعة على عاتق الطرف الإسرائيلي بالذات، يثبت إما أنها خادعة ومضلّلة وفارغة من أي مضمون حقيقي، أو أنها غير قابلة للتنفيذ أصلا، فإسرائيل أصبحت ملتزمة، وفقا لهذا البيان، “بوقف مناقشة أي وحدات استيطانية جديدة أربعة أشهر، وبوقف منح التصاريح لأي بؤر استيطانية ستة أشهر”. معنى ذلك أن الالتزام الإسرائيلي بالتوقف يسري على “المناقشة” وليس على “البناء”، وبالتالي لن يغيّر من قدرة الحكومة الإسرائيلية على مواصلة البناء في المستوطنات القائمة وتوسعتها أو الشروع في إقامة مستوطناتٍ جديدةٍ سبق أن نوقشت وأقرّتها السلطات المعنية. ومعروف أن حكومة إسرائيل كانت قد قرّرت قبل أيام بناء عشرة آلاف وحدة استيطانية جديدة، يتوقع أن يستغرق بناؤها فترة أطول من المنصوص عليها في البيان، كما شرعنت كذلك 13 بؤرة استيطانية قائمة. أما بخصوص التزام إسرائيل بخفض التصعيد ومنع وقوع العنف بين ثلاثة أشهر وستة أشهر، فمن الواضح أنه التزام غير قابل للوفاء به أصلا، ومن ثم يسهل على إسرائيل التنصّل منه، خصوصا أنها تدّعي دائما أنها ليست الطرف المبادر باستخدام العنف، وتسعى، طوال الوقت، إلى التهدئة، لكنها مضطرّة للدفاع عن نفسها في مواجهة “الإرهاب الفلسطيني”. بعبارة أخرى، يمكن القول إن إسرائيل لا ترى في إقدامها على هدم منازل الفلسطينيين، أو ترحيلهم من بيوتهم أو بناء المستوطنات على الأراضي التي يمتلكونها، ممارسة للعنف، وإنما إعمالا لحقوقها السيادية على أرضها التوراتية الموعودة.
يبدو تعهّد كل من مصر والأردن والولايات المتحدة بالمساعدة على تنفيذ الالتزامات الواردة في البيان مخادعاً إلى حد كبير
أما الالتزامات على عاتق الطرف الفلسطيني، خصوصا ما يتعلق منها بالتهدئة ووقف العنف، فمن الواضح أنها غير قابلة للتنفيذ أصلا، فالسلطة الفلسطينية لا تقوم بأعمال عنف ضد إسرائيل، ولا تحرّض على ارتكاب مثل هذه الأعمال، بل وظلت سنوات طويلة ملتزمة بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، من دون أن تحصل، في المقابل، على أي شيء سوى اهتزاز صورتها أمام الشعب الفلسطيني الذي كاد أن يفقد الثقة بها نهائيا. لذا يبدو أن الهدف الحقيقي من اجتماع العقبة، والذي سكت عنه البيان تماما، هو إلزام السلطة الفلسطينية بإعادة التنسيق الأمني مع الحكومة الإسرائيلية، والعمل على تشكيل وحدات أمنية مشتركة لوقف المقاومة الشعبية الآخذة في التصاعد، وهو التزام لا تستطيع السلطة الفلسطينية الوفاء به مطلقا، خصوصا في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تعتقد أن فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر أرض توراتية موعودة، وترفض قيام دولة فلسطينية على أي جزء من هذه الأرض، وإلا فقدت السلطة كل ما تبقى لها من اعتبار لدى شرائح محدودة من الشعب الفلسطيني، إن كان قد تبقى لها منه أي شيء.
على صعيد آخر، يبدو تعهّد كل من مصر والأردن والولايات المتحدة بالمساعدة على تنفيذ الالتزامات الواردة في البيان مخادعا إلى حد كبير، اللهم إلا إذا كان المقصود به ممارسة مزيد من الضغوط على السلطة الفلسطينية وحدها لحملها على تشكيل وحداتٍ أمنية مشتركة لمطاردة رجال المقاومة وتعقّبهم، فمصر والأردن لا يملكان أي وسيلةٍ تمكّنهما من ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل. أما الولايات المتحدة فهي وحدها القادرة على ممارسة مثل هذا الضغط، لكن الكل يدرك أنها لا تريده، ومن ثم لن تلجأ إليه أبدا، خصوصا إذا اتخذت هذه الضغوط شكل فرض عقوبات حقيقية على إسرائيل، لأن تلك هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تُجبر إسرائيل على تنفيذ الالتزامات الواقعة على عاتقها بموجب القانون الدولي. وأقصى ما يمكن توقّعه في هذا الصدد إصدار الإدارة الأميركية تصريحاتٍ تنتقد فيها اللجوء إلى العنف، من دون تحديد الطرف المسؤول عن ممارسته، أو تعيد فيها التأكيد أنها “ملتزمةُ بحلّ الدولتين” عبر مفاوضات مباشرة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، ما يعني إبقاء الحال على ما هو عليه، إلى أن تتمكّن إسرائيل من ابتلاع كل الأراضي الفلسطينية عبر عمليات الاستيطان التي لم تتوقف قط..لذا لم يكد الحبر الذي كُتب به بيان العقبة يجفّ حتى تبين أن الاجتماع لم يكن سوى مهزلة أو مصيدة جديدة نُصبت لاستدراج السلطة الفلسطينية نحو استئناف التعاون الأمني مع إسرائيل. ففي اليوم نفسه، وبعد ساعات قليلة من عودة الوفود المشاركة فيه، قام أحد رجال المقاومة الفلسطينيين بعملية فدائية أدّت إلى مقتل مستوطنيْن. ورغم إدراك إسرائيل التام أن لا علاقة للسلطة الفلسطينية بهذه العملية، إلا أنها سمحت لقطعان المستوطنين المسلحين بشنّ هجوم مروع على القرى والبلدات جنوب نابلس، خصوصا على حوارة، قاموا خلاله بالاعتداء على مئات الفلسطينيين وإشعال النيران في عشرات المنازل وتدمير عشرات السيارات وإحراقها.
السلطة الفلسطينية الخاسر الوحيد في اجتماع العقبة، وإذا استمرّت في نهجها فسوف تفقد كل شيء، وتلحق، في الوقت نفسه، أفدح الأضرار بالقضية الفلسطينية
الأخطر أن التصريحات التي صدرت على الفور من مكتب رئيس الوزراء نتنياهو، ومن رئيس الوفد الإسرائيلي في اجتماع العقبة، تساحي هنغبي، راحت تتنصّل من كل الالتزامات المنصوص عليها في بيان العقبة، وتؤكد أن ما ورد فيه لا يعني عدول إسرائيل عن التنفيذ الفوري لقرارها بناء عشرة آلاف وحدة سكنية أو عدم شرعنة البؤر الاستيطانية التي كانت حكومة إسرائيل قد قرّرت شرعنتها منذ أيام. الأخطر تغريدة وزير الأمن القومي الإسرائيلي، أيتمار بن غفير، أن “ما جرى في العقبة يبقى في العقبة”، وكأنه يريد تذكير نتنياهو وحكومته أنه المسؤول الرئيسي عن اتخاذ القرارات في كل ما يخص الضفة الغربية والعلاقة مع الفلسطينيين، وأنه وصل إلى السلطة عبر برنامج انتخابي تعهّد فيه بالدفاع عن أرض إسرائيل التوراتية، وعدم تقديم أي تنازل للفلسطينيين. ومن الواضح أن حرص نتنياهو على الإبقاء على تماسك الائتلاف الحكومي الحالي وعدم السماح بانهياره، لأسباب تمسّه شخصيا وتمس مستقبله السياسي، سوف يضطرّه لتقديم كل التنازلات المطلوبة لأكثر التيارات تطرّفا وعنصرية في تاريخ إسرائيل.
لا أبالغ إن كتبتُ هنا أن السلطة الفلسطينية تعدّ الخاسر الوحيد في اجتماع العقبة، وإذا استمرّت في نهجها الحالي فسوف تفقد كل شيء، وتلحق، في الوقت نفسه، أفدح الأضرار بالقضية الفلسطينية التي تعد أنبل القضايا المعاصرة وأعدلها، فالتهدئة المرغوبة من إدارة الرئيس الأميركي بايدن وبعض الأنظمة العربية لن تفيد سوى إسرائيل، لأنها تعني، أولا وقبل شيء، الإبقاء على الوضع القائم في الأراضي المحتلة كما هو من دون تغيير، ما يعني تمكين إسرائيل من بناء مزيد من المستوطنات، ومواصلة خططها الرامية إلى تهويد القدس وترحيل الفلسطينيين وهدم بيوتهم، ولن يكون لذلك سوى معنى واحد، أن تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى مجرّد أداة تستخدمها إسرائيل لتصفية قضية شعبها، وفي التمكين للمشروع الصهيوني من تحقيق انتصاره النهائي بإقامة دولة إسرائيل التوراتية الكبرى. لذا على هذه السلطة ألا تواصل ممارساتها الرامية لبيع الأوهام لشعبها، من خلال الإيحاء بأن مشاركتها في هذا النوع من الاجتماعات، وبالتالي في الاجتماع المقرّر عقده في شهر مارس/ آذار الحالي في شرم الشيخ، ستحقّق نتائج إيجابية لصالح القضية. لقد كُتب على هذا الشعب البطل أن يعتمد على قواه الذاتية لخوض معركة التحرير، خصوصا بعد أن تخلت عنه معظم الأنظمة العربية، وأثبت بصموده الأسطوري أنه أهلٌ لها. لذا على الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، أن يكفّ عن التصرّف كباقي الأنظمة العربية، المصرّة على التمسّك بالبقاء في السلطة، حتى لو انهدم المعبد على كل من فيه، وأن يتذكّر أنه يقود شعبا لا تزال أرضه محتلّة، وأن وظيفته الوحيدة المقبولة قيادة نضال هذا الشعب إلى أن يتحقّق التحرير وتقام الدولة الفلسطينية المستقلة.
عن العربي الجديد