مادة لبحر الأسبوع.. عن مقاومة التلفيق
عملت لسنتيْن في مكتب للدعاية التجارية والإعلان ـ وكنتُ أقول لنفسي وللزملاء: هناك جهتان تستعملان علم النفس الاجتماعي والعلاجي أكثر من غيرها ـ أجهزة المخابرات والمنتجون لدى تسويق مُنتجاتهم.
منذ ذلك الوقت دخلت إلى المعترك وسائط الميديا الحديثة بأعلى تقنيات وأسرعها وشبكات التواصل وترسّخت “ثقافة الصورة” كبديل شبه نهائي لثقافة الكلمة. وما هو ليس صورة غير موجود. وإذا عكسنا المقولة تحافظ على صحّتها ـ كل ما هو مصوّر ومبثوث موجود.
لقد نظّر هيربرت ماركوزا (من مدرسة فرانكفورت هرب إلى أمريكا في الحرب العالمية الثانية قادما من ألمانيا) في النصف الأول للقرن العشرين للإنسان ذي البُعد الواحد الذي تجعله الدعاية التسويقيّة مخلوقًا استهلاكيّا. لو عاش إلى زماننا لجّن وهَسْتَر لفائض في ثبوت نظريّته. فالآن يُمكن لدول أن تشنّ حربًا شاملة أو محدودة بالصور وأن تعقد سلاما كاملا بالصورة ويُمكن أن نسوّق فيروس عاديًا على أنه وباءً فتّاكًا. ويُمكن، أيضًا، أن تصوّر الطاغية ديمقراطيًا والمافيا رئاسة دولة والمعتوه زعيمًا عالمًا عالميًا والتافه السخيف جهبذًا وهكذا. ويُمكن أن تزج بموضوع تافه في رأس جدول الأعمال العام وأن تشطب أي قضية مصيرية وتكنسها خلف الشاشة فلا تكون!
في زمن البوست ـ حقيقة وهو زمن تطوّر عن زمن “تعدّد الحقائق” أو ما بعد الحداثة ـ يُخيّل لي أن غالبية الناس في غالبية المجتمعات لا سيما الآتية من وهن وتقهقر ـ تعوّل في العادة على اللا ـ حقيقة وعلى الشائعة والغيب وعلى الأضاليل والأكاذيب وتعيش عليها أكثر من مراهنتها على الحقيقة (في مجتمعاتنا المحليّة يظهر الأمر جلّيًّا). كأنها تعيش في “فيك ـ واقع” ـ واقع ملفّق وهميّ لأنها (الناس) تتغذّى في العادة من وسائل الإعلام التي تحوّل مركز ثقلها في العقود الأخيرة من كشف الحقيقة ومحاسبة السلطات بوصفها رقابة شعبيّة إلى طمسها وإخفائها وتدويرها والتشكيك بها. مُعظم المشاريع الإعلامية في العالم هي مشاريع اقتصادية لمنتجين وشركات عُظمى ـ همّها أن تسوّق وتبيع وتروّج وبأي ثمن ـ وفي مثل هذه الحالة معظم وسائل الإعلام تستهدف طمس الحقيقة بوصفها العقبة الأساس أمام مهمات التسويق والترويج للسلع والأفكار. وهي الوسائل ذاتها التي تخدم “السلطات” حيثما هي في مشاريعها وأهدافها بوصفها أدوات التنفيذ العاملة في خدمة الرأسمال بالتشريع والقانون والقوة والإجراءات والسياسات.
من هنا فإننا أمام جهد لا يتوقّف لكيّ الرأي العام وكي وعي الجماهير سياسيًا ـ تجاريًا بكلّ الطاقات التي تمتلكها الميديا الحديثة على اختلاف وسائطها. تبدو الجماهير في كل موقع لا سيما المجتمعات الضعيفة ـ مستنزفة تمامًا أمام الماكنة الإعلامية للرأسمال الاقتصادي والسياسي. ويُخيّل لي، أحيانًا، أن أفضل الطرق للخروج من تحت الضربات اليومية لمكواة الوعي هو قطع الصلة معها أو بذل جهد شخصيّ وعناد لا يلين في مقاومة يومية لهذه المكواة وأصحابها. لأن غير ذلك هو رفع الراية البيضاء والتسليم بكل تفاهات الميديا و”الزعماء” و”القيادات” و”الرؤساء” لا سيما من خلال نشرات الأخبار!
إذا افترضنا أن معظم المشاريع الإعلامية في كل المجتمعات تعمل على مدار اليوم لطمس الحقيقة وتكذيبها ـ فعلينا الّا نتوقّع العثور على ذرّة من هذه الحقيقة في هذه المشاريع. بيد أننا سنجدها فيما يصنعه أفراد أو مجموعات عقائدية تقاوم هذا النظام من “صناعة الوعي” وإعادة أنتاج الواقع محرّفا وملفّقا بواسطة قوة الصورة.
( الفنان فهد حلبي)