مؤسسة “القدوة” والأبوية الجديدة

ثار جدل حول قرار وقف المخصصات المالية عن مؤسسة الشهيد ياسر عرفات التي يترأسها د.ناصر القدوة، على أثر قراره بالترشح لانتخابات المجلس التشريعي في قائمة منفصلة عن قائمة فتح الرسمية، البعض أعرب عن صدمته من المبلغ المالي الكبير المخصص للمؤسسة (والذي يذهب معظمه كرواتب)، فيما ناقش آخرون عدم اخلاقية معاقبة مؤسسة بكاملها، يعيل موظفوها الكثير من العائلات بجريرة مديرها، وكأنها مؤسسة “القدوة” وليست مؤسسة عامة، فيما ذهب آخرون باتجاه نقد أسلوب القيادة الفلسطينية في التعامل مع المنافسين السياسيين واعتبرها مؤشر على عدم نزاهة الانتخابات، في هذه المقالة سنقارب الموضوع من زاوية مختلفة تتعلق بمأزق النظام السياسي في السلطة الفلسطينية، بالإدعاء أن المشكلة بنيوية ومتعلقة بتركيبة النظام السياسي الذي يتسم بالأبوية، فقطع المخصصات المالية عن مؤسسة عرفات ما هو إلا مؤشر على هذا المأزق.

يمكننا الإدعاء بأن النظام السياسي الفلسطيني يتصف بالنيوباتريمونيالية (الأبوية الجديدة). تتميز النيوباتريمونيالية بتحكم الرئيس التنفيذي بسلطات الدولة من خلال شبكة واسعة من المحسوبية الشخصية، وليس من خلال الأيديولوجية أو القانون[1]. بنيت النيوباتريمونيالية على افتراض أساسي؛ وهو أن مؤسسات الدولة الرسمية يتم دمجها بسياسات خاصة غير رسمية للحكام[2]. وبالتالي فإنّ التعريف العملي للنيوباتريمونيالية: “مزيج من نوعين من الهيمنة المتداخلة؛ الهيمنة التقليدية (الباتريمونيالية) والبيروقراطية العقلانية القانونية”[3].

يعتبر Max Weber أنّ الباتريمونيالية تعني ضمناً بانّ الراعي )الحاكم أو الرئيس( (patron) في نظام سياسي واجتماعي معين، يمنح العطايا من الموارد على التابعين من أجل تعزيز الحصول على ولائهم، بحيث يحصل التابعين على مزايا مادية وحماية مقابل حصول الحاكم على دعمهم، وبالتالي يمارس الحاكم هيمنته من خلال النظام الإداري (البيروقراطي)، بحيث يتمظهر المنطق الأبوي (البطريركي) في الإدارة على نطاق أوسع من علاقات القرابة[4]. فيما يحاج Pawelka  Peter بأنّ النيوباتريمونيالية هي نظام للحكم الفردي، يعتمد على الشرعية من جهة، وعلى البيروقراطية (الإدارية والعسكرية) من ناحية أخرى. تعتمد الشرعية فيها على مزيج من الولاءات التقليدية والمكافآت المادية[5].

تسعى الأنظمة النيوباتريمونيالية إلى تكوين شبكة من المصالح بواسطة نظام زبائني Clientelism، بهدف ترسيخ سيطرتها. تعمد الزبائنية إلى إقامة علاقة بين راع ورعية، ويتم شراء ولاء الرعية من خلال توفير الموارد المالية والخدمات، وفي محاولة السلطة لبناء نوع من الهيمنة يتم استخدام آليات عديدة، من أهمها التجنيد في أجهزة الدولة العسكرية والمدنية وكذلك الاحتواء بواسطة تحويل العطايا إلى فئات معينة[6]. ضمن هذا الإطار تم استحداث أكثر من 80 مؤسسة غير وزارية في السلطة الفلسطينية، رواتب رؤوسائها تعادل رواتب الوزراء، معظم هذه الهيئات تحمل مسمى وظيفي يمكن أن تقوم به الوزارات، ك”هيئة حوادث الطرق” التي يمكن ضمها لوزارة المواصلات، وبعض هذه الهيئات لا يعرف ما هي الحاجة الماسة لاستحداثها ك”هيئة الاشعاع النووي”[7]. مما يدفعنا للاستنتاج بأن الهدف من استحداث مثل هذه الهيئات والمواقع الوظيفية هو تشغيل وكسب “ولاء” بعض الأشخاص[8].

استخدم رئيس السلطة الفلسطينية الرواتب كأداة للتحكم والسيطرة، لم يقتصر الأمر على رواتب موظفي السلطة بل تعداه للتحكم بمخصصات “م.ت.ف”، ففي حزيران 2018 تم ايقاف مخصصات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على إثر اعتراضها على تفرد الرئيس عباس بالمنظمة، وعدم تنفيذه القرارات الصادرة عن المجلس المركزي والوطني [9])، كما تم قطع رواتب بعض الموظفين بذريعة “تمردهم” على الشرعية، كما حدث مع موظفي قطاع غزة الذين لم يلتزموا بقرار عدم الالتحاق بأعمالهم (عقب الانقسام)، في حين دفعت رواتب الذين تخلفوا عن العمل. وفصل حوالي 700 موظف في الضفة بذريعة عدم احترامهم للشرعية، علاوة على قطع رواتب ستين من الأسرى المحررين من سكان الضفة الغربية[10]. لم يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل تم استخدام رواتب الموظفين كأداة للضغط على حركة حماس من أجل إنهاء سيطرتها على قطاع غزة،  بالإضافة إلى الضغط على المعارضين في داخل فتح، فكان قطع رواتب موظفي غزة الموالين لدحلان، وتخفيض رواتب باقي الموظفين ما بين 30%-50% من قيمة الراتب[11]. ورغم قرار المجلس المركزي في “م.ت.ف” بوجوب صرف كامل الرواتب والتراجع عن هذه الخطوة، إلا أنّ الرئيس بقي متفرداً بقراره، وماطل في الالتزام بقرار المجلس المركزي بذريعة وجود “خلل فني”[12]. تزامن ذلك (في الضفة) مع قطع رواتب نواب كتلة التغيير والإصلاح (المحسوبة على حركة حماس) في المجلس التشريعي سنة 2018، دوناً عن باقي الكتل النيابية[13]. ولم يتم تحويلهم للتقاعد أسوة بزملائهم. بينما قطعت رواتب نواب الكتلة في غزة بعد الانقسام.

بالربط مع ما ذكر، يمكننا الإدعاء بأنّ قطع المخصصات المالية عن مؤسسة عرفات، نابع من نمط الحكم في السلطة الفلسطينية المبني على الأساس النيوباتريمونيالي، وبالتالي فأسلوب المنح والمنع يتوافق مع ما بنيت عليه السلطة منذ تأسيسها وحتى يومنا الحاضر. فبنية النظام النيوباتريمونيالية تترافق مع نمط الحكم الفردي الذي يتحكم فيه الحاكم الفرد بمقدرات “الدولة” وكأنها ملكية خاصة به، بهدف كسب الولاء والتأييد.

[1] Samuel Noah Eisenstadt, Revolution and the Transformation of Societies: A Comparative Study of Civilizations (New York: The Free Press,  1978), pp. 277-89.

 Michael  Bratton ; van de Walle, Nicolas, Democratic Experiments in Africa. Regime Transitions in Comparative Perspective. Cambridge: Cambridge University Press, 1997, p: 274.

[3]Gero Erdmann and Ulf  Engel, Neopatrimonialism Reconsidered: Critical Review and Elaboration of an Elusive Concept, in: Commonwealth and Comparative Politics, 45  (1), 2007,  p: 105

[4] Christian von Soest, What Neopatrimonialism Is – Six Questions to the Concept, Background Paper for GIGA-

GIGA German Institute of Global and Area Studies Hamburg, 23 August 2010, p: 4.

[5]  Ibd, p: 54.

[6] Joshua Stacher,  Adaptable Autocrats: Regime Power in Egypt and Syria, Stanford, California: Stanford University Press, 2012.

[7] ماجد العاروري، هيئات عامة يرأسها أباطرة.. رواتب خيالية ولا خدمات، موقع الترا فلسطين، 30/4/2020. https://bit.ly/2SVIK1p

[8] مؤخراً صادقت الحكومة الفلسطينية على دمج وإلحاق وإلغاء أكثر من 25 مؤسسة رسمية غير وزارية، ، وذلك لتحسين الخدمات ورفع مستوى التنسيق ومنع الازدواجية وترشيد النفقات. (المصدر: العربي الجديد، الحكومة الفلسطينية تصادق على دمج وإلغاء أكثر من 25 مؤسسة رسمية، 29/12/2020.  https://bit.ly/3qGpDao).

[9]  . وحتى وقت كتابة هذه الورقة ما زالت المخصصات متوقفة https://bit.ly/2y03wpn.

[10] الجزيرة نت، السلطة تفض بالقوة اعتصاما برام الله يطالب بإعادة رواتب أسرى، 26/11/2019. https://bit.ly/2OSaSjI

[11] وكالة صفا، نقيب الموظفين: قطع رواتب موظفين وتكرار “جريمة” الخصم للباقين، 10/5/2017.  https://bit.ly/39pDtop

[12] وكالة معا، قرارات المجلس الوطني، 4/5/2018. https://bit.ly/38qZX8o

[13] الصفحة الشخصية للنائب عبد الرحمن زيدان، 29/4/2020. https://bit.ly/3f2sll6

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *