مأثرة محمود عبّاس الأخيرة

في ظل الظروف الرديئة التي يمرّ بها الوضع الفلسطيني، يستطيع الرئيس محمود عبّاس أن يقوم بمأثرة أخيرة، قد تكون الأهم في حياته، فالوضع يحتاج إلى تغيير استثنائي لتحريك الركود الفلسطيني، ويستطيع الرئيس القيام بذلك، فمنذ تولى عباس مناصبه في السلطة الوطنية ومنظمة التحرير والوضع الفلسطيني يتردّى. بالتأكيد، هو مسؤول وبحكم مناصبه المتعدّدة، مسؤولية مباشرة عما آلت إليه الساحة الفلسطينية من انقسام وتردٍّ وضعف. وهذا لا يتناسب مع التحدّيات التي تواجه الفلسطينيين والقضية الفلسطينية بعد فشل عملية السلام، واستثمار إسرائيل في هذا الفشل وقضم مزيد من الحقوق والأراضي الفلسطينية، ما جعل حلّ الدولتين مستحيل التطبيق في واقع الأراضي الفلسطينية مقطعة الأوصال، والمخترقة بمزيد من المستوطنات على مدار السنوات التي تلت وعود السلام، التي جلبت حصار غزّة، والجدار العازل في الضفة الغربية، وعشرات آلاف المستوطنين إلى المستوطنات في الضفة الغربية، بتوسيعها، وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى شكل الجبنة السويسرية المخترقة في كلّ مكان، وتعزيز الاستيطان في محيط القدس، والعمل على جعلها تضم أكثر من ربع الضفة الغربية.
اليوم، ومع حكومة نتنياهو الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، والتي تتوعد الفلسطينيين بمزيد من القمع والقتل والمصادرة، يحتاج الوضع الفلسطيني إلى تغيير. بالتأكيد، ليس التغيير كله بيد الرئيس محمود عباس، فهو بحاجة إلى كثير من العوامل والعمل لتغيير الصورة القائمة والقاتمة، كما أنّها بحاجة إلى خطاب سياسي جديد، فلم يعد يكفي خطاب الرئيس عبّاس المتمسّك بالسلام بوصفه السبيل لمواجهة الجرائم الإسرائيلية، فهذا الخطاب لم يعد جامعاً للفلسطينيين منذ سنوات، وأصبح تكراره أقرب إلى السخرية، بعد تعطّل عملية السلام منذ ربع قرن، فقد جرى استهلاك الخطاب السياسي للرئيس على مستوى الصراع مع إسرائيل. كما استهلِك خطاب الرئيس في قضية المصالحة الداخلية، وأصبح من الواضح بعد 15 عاماً على حوارات المصالحة التي لم تتحقق، رغم كلّ المفاوضات بين الطرفين في أماكن كثيرة وعلى كلّ المستويات، وكثرة الوساطات، والتي تبيّن لكلّ صاحب عقل سليم أنّ الرئيس لا يريد المصالحة، كما أنّ حركة حماس لا تريدها أيضاً، فهناك مصالح وسلطات ترتبت للطرفين تمنع التئام هذه المصالحة.

يشكل موقع الرئيس الفلسطيني الحالي مفارقة فلسطينية، فهو يشغل المنصب الوحيد المنتخب، رغم انتهاء ولايته منذ زمن طويل

عندما يقال إنّ الرئيس الفلسطيني يتحمّل مسؤولية ما يجري، فليس المقصود أنّه السبب في ما آلت إليه الساحة الفلسطينية، فهناك أسباب ذاتية وموضوعية كثيرة لعبت دوراً في الوصول إلى ما وصلت إليه الأوضاع، تتجاوز الرجل. المقصود مسؤوليته المباشرة، بما يشغله من مناصب يستطيع التحرّك من خلالها، وصناعة الفارق، بدلاً من الموقف السلبي الحالي الذي يتخذه. إذ يشكل موقع الرئيس الفلسطيني الحالي مفارقة فلسطينية، فهو يشغل المنصب الوحيد المنتخب، رغم انتهاء ولايته منذ زمن طويل. وبعد حلّه المجلس التشريعي الذي تهيمن عليه حركة حماس بعد الانقسام، بتنا أمام واقع سلطتين، بمرجعيتين مختلفتين، لم يعد الخلاف داخل البيت الفلسطيني كما كان الحال قبل الانقسام، فقد بات هناك بيتان فلسطينيان، أفقد كلّاً منهما الآخر جزءاً من شرعيته. وفي الوقت الذي يلاقي الرئيس الفلسطيني قبولاً دولياً، فإنّ “حماس” وسلطتها تفتقدان هذا القبول، لكن هذه السلطة قائمة أمرا واقعا في قطاع غزة، ففي ظل الأوضاع التي تعيشها الحالة الفلسطينية، يمكن القول إنّ عباس يشكّل صمّام الأمان للحالة الفلسطينية، لكن بالمعنى السلبي للكلمة، أي ليس بمعنى أنه قادر على جمع الاتجاهات الفلسطينية باعتباره الشخص المتوافق عليه، ما يمنع الصدام الداخلي. إنما هو حالة من صمّام الأمان، بمعنى عدم انفجار الوضع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، فهو ضمانه بهذا المعنى، ما يجعل الحفاظ على سلطته مطلباً دولياً، وحتى إسرائيلياً. إذا كان هذا الدور والخطاب السياسي مفهوماً في ظل وعد السلام، فإنه لم يعد مجديا ولا مفهوماً بعد أن تبخّر وعد السلام، وتمسُّك الرئيس الفلسطيني بهذا الخطاب بات مؤشّر ضعف، وليس مؤشّر قوة كما يعتقد.

للرئيس عبّاس حجّة قوية في الاستقالة من منصبه، لقد بلغ الثامنة والثمانين من العمر، لم يعد لديه ما يقدّمه، وآن له الترجّل

هل يمكن تغيير هذا الواقع؟ بالتأكيد ممكن، لكنه يحتاج إرادة سياسية، أتمنّى أن تكون موجودة عند الرئيس عبّاس. المطلوب إنتاج خطاب تحرّر وطني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وحتى يتم ذلك على عبّاس أن يتخلى عن الدور الذي لعبه خلال شغله الرئاسة الفلسطينية ورئاسة منظمة التحرير. وهذا لا يعني أنّه يحتاج إلى تغيير خطابه السياسي، بل أكثر من ذلك، يحتاج إلى التخلّي عن دوره السياسي بالمطلق، والاستقالة من كلّ مناصبه، ومغادرة السلطة. وبذلك يكون قد قام بالمأثرة الكبرى في تاريخه السياسي. بهذه الاستقالة، يزيح جداراً عائقاً من أمام النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. بالتأكيد، ستشعل هذه الاستقالة معركة الخلافة على الرئاسة داخل أوساط السلطة، بخاصة أنّ المتربّصين بهذه المناصب كثر، لكنها من جهة أخرى ستحرّر المناضلين الحقيقيين على الأرض الذين يقاومون الاحتلال، وستمنحهم مساحة أكبر لهذا النضال، بدل العمل بوصفه كابحاً لهذا النضال من خلال الحفاظ على التنسيق الأمني مع الاحتلال. وإذا تم النجاح في الالتفاف حول الحركة الأسيرة، من خلال انتخاب الأسير مروان البرغوثي رئيساً لمنظمة التحرير أو للسلطة، من الممكن إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني والخطاب التحريري الفلسطيني من خلال رمزية انتخاب أسيرٍ على رأس الحركة الوطنية الفلسطينية، في ظروف أشدّ ما تحتاج فيها إلى مناضلين لا خلاف عليهم.
للرئيس عبّاس حجّة قوية في الاستقالة من منصبه، لقد بلغ الثامنة والثمانين من العمر، لم يعد لديه ما يقدّمه، وآن له الترجّل، وترك العمل للأجيال الجديدة. وآن الأوان ليرتاح، وهو بهذا يقدّم خدمة جليلة لنفسه وللنضال الفلسطيني وللمواجهة مع الاحتلال بعيداً عن صمّامٍ كان معيقاً للنضال الفلسطيني طوال سنوات رئاسته للسلطة والمنظمة…. هل يفعلها الرئيس عباس، أم سننتظر قضاء الله وقدره؟ 

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *