مآلات أوسلو .. فشل بطعم الهزيمة حتى نُغَيِّر الطريق
لم يعد هناك ما يمكن الاختلاف عليه إزاء حقيقة فشل أوسلو من وجهة نظر فلسطينية، فحتى صُنّاع الاتفاق ومهندسه الأول الرئيس أبو مازن يقر بذلك، كما أنه لم يعد كافيًا إحالة أسباب هذا الفشل على طبيعة النظام السياسي في إسرائيل، والذي لم يُقر يومًا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولا بأي من حقوقه الوطنية الثابتة كما أكدتها قرارات الأمم المتحدة. بل أكثر من ذلك، فلم تسجل في أيٍ من وثائق المفاوضات يومًا الإقرار الإسرائيلي الواضح بحقيقة الاحتلال وضرورة إنهائه.
المسؤولية عن الفشل، وكيف نغادر مساره ؟
السؤال الحقيقي والمطلوب معالجته بعقل بارد ورؤية وطنية مسؤولة في إطار أي مراجعة جادة دون تقاذف الاتهامات، هو أين تمثلت المسؤولية الفلسطينية التي مكنت وساعدت إسرائيل من إفشال ما اعتقدته “خلية أوسلو” الفلسطينية بأنه كان من الممكن أن يشكل نقطة انطلاق نحو انتزاع الحق في تقرير المصير، إذا ما كانت تلك النقطة موجودة؟ والسؤال الثاني هو كيف يمكن مغادرة مسار هذا الفشل الذي بات مزمنًا كسرطان يأكل يومياً ويقوض من رصيد إنجازات الكفاح الوطني لشعب يرفض الهزيمة التي أحاطت بقيادته حتى باتت عاجزة عن مجرد التفكير بالخلاص من شراك قيود هذا الفشل الذي بات بطعم الهزيمة إن لم يكن بواقع الاستسلام لها.
لم يكن أوسلو سوى تعبير عن ميزان قوى تلك اللحظة التي عُقد بها من خلف ظهر الانتفاضة والشعب الفلسطيني، دون أن يستفاد من تلك الانتفاضة والموقف الشعبي، سوى ما يتيح للقيادة من انتزاع شرعيتها حتى لو كان على حساب غموض خطير إزاء قضايا جوهر الصراع والمتمثلة بالأرض والاستيطان والحدود واللاجئين. وبالرغم من أن حكومة الاحتلال لم تكن لتُفكر بمجرد الجلوس سرًا أو علناً مع القيادة الفلسطينية لولا ما أنجزته الانتفاضة من حشر المشروع الصهيوني في زاوية السؤال الكبير الذي قسم المجتمع الإسرائيلي، وهو: إلى متى يمكن لنا أن نستمر في مصادرة حرية شعب يرفض الاحتلال، وإلى متى سنستمر في دفع ثمن هذا الاحتلال؟ بل وتساءل بعضهم عن مضمون وحقيقة حريته بينما يستمر في مصادرة حرية شعب آخر.
“دفرسوار” على انجازات الانتفاضة
إلا أن المفاوض الإسرائيلي نجح في تحويل مجمل مفاوضات التسوية إلى مجرد “دفرسوار” على مسيرة كفاح وإرادة وتضحيات شعب، وما حققته ثورته المعاصرة وانتفاضة الكبرى من اختراق في وعي الرأي العام الدولي والإسرائيلي نفسه إزاء جذور القضية الفلسطينية، وضرورة الاعتراف بحقيقة الشعب الفلسطيني، و بحقه في تقرير المصير.
كان من الواضح تمامًا، ومنذ لحظة التوقيع على هذا الاتفاق، مدى الحاجة الفلسطينية للانتقال بوسائل النضال الوطني، الذي بات مركزه الأرض المحتلة والصراع الدائر على مستقبلها كما على باقي الحقوق الوطنية، نحو متطلبات مغادرة بيروقراطية عمل المنظمة، والاجتهاد الجدي لبلورة استراتيجية كفاحية تتوائم مع المرحلة الجديدة، وتكون في نفس الوقت قادرة على أن تربط بين ضرورة الاستمرار بأشكال متجددة لهذا الكفاح لإنجاز التحرر الوطني والخلاص التام من الاحتلال، واعتبار المفاوضات مجرد وسيلة إضافية لذلك، وليس الوسيلة الوحيدة كما تصر القيادة المهيمنة على ذلك، وبين مع متطلبات البناء الديمقراطي لمؤسسات السلطة نحو دولانيتها، و بما يطور باستمرار من دورها في تعزيز قدرة الشعب الفلسطيني على الصمود ومواصلة مسيرة كفاحه، باعتبار ذلك الركيزة الأساسية لضمان انتزاع الحرية، وليس مجرد كفاءة المفاوض، وبالتأكيد ليس من خلال استراتيجية استرضاء حكومة الاحتلال، كي تمن علينا بفتات الحل الإسرائيلي الذي يعيد تموضع الاحتلال و تعزيز الاستيطان.
لقد تم التضحية، ومنذ لحظة تشكل السلطة الوطنية بمجمل الحركة الشعبية، وليس فقط ببقايا الانتفاضة التي قُدمت قرباناً على مذبح الاتفاق، كما تم غض الطرف عن استمرار الاستيطان منذ قبول الجانب الفلسطيني، ليس فقط بعدم النص على الأقل على تقييده، بل وبقبول المشاركة دون تردد في الاجتماع الأول للجنة الارتباط العليا الذي عقد اجتماعها في القاهرة، بعد توقيع اتفاق غزة أريحا مباشرة برئاسة كل من الأخ أبو مازن عضو اللجنة التنفيذية في حينه، وشمعون بيرس وزير خارجية الحكومة الإسرائيلية، رغم قيام سلطات الاحتلال بمصادرة ما يزيد عن الألف دونم من أراضي قرية جيبيا مسقط رأس عضو تنفيذية المنظمة المرحوم سليمان النجاب، عشية موعد انعقاد الاجتماع، ولم يكن ذلك من قبل إسرائيل سوى مؤشر اختبار لقياس المدى الذي يمكن أن تذهب به قيادة المنظمة بالمفاوضات في ظل استمرار الاستيطان.
في مقابلة مطولة ليوئيل زينچر المستشار القانوني لخلية المفاوضات الإسرائيلية نشرت ترجمة لها مجلة الهدف بتاريخ 20 سبتمبر 2018 يقول زينچر “عندما عرضت موقف رابين من النشاط الاستيطاني على منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، حاول المفاوضون الفلسطينيون استكشاف إمكانية إدراج بعض القيود على المستوطنات، لكنني وقفت صامداً وأنا واثق من قبولهم موقف رابين، لأنهم أدركوا الصعوبات الداخلية التي يواجهها فيما يتعلق بتجميد الاستيطان، ولو أصروا على موقفهم، لكان هناك خطر حقيقي من شأنه أن يهدد وجود اتفاق، لكن خطط عرفات ورابين كانت قصيرة النظر، ليس لأنه تم اغتيال رابين بعدها بسنتين، ولكن لأن حزب العمل بقيادة بيريس خسر الانتخابات لصالح الليكود، ما أعاد إدراج خطة بيغن الأصلية بإدامة الحكم الذاتي إلى الأبد، وإدامة السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية”.
كما يشير زينچر في نفس المقابلة إلى أن كلاً من رابين وبيريس لم يبحثا معه اطلاقاً رؤيتهما للحل الدائم. فرابين الذي كان أكثر استعدادًا للمضي بالتسوية وفق مقولته الشهيرة “نواصل المفاوضات وكأنه لا يوجد ما يسميه إرهاباً ونواصل مواجهة هذا الإرهاب، وكأنه لا توجد عملية سياسية “إلا أنه لم يكن قد حسم أمره من نتيجة المحطة النهائية لتلك المفاوضات، وفيما إذا كانت ستفضي لإنهاء الاحتلال أو ستؤدي لإقامة دولة فلسطينية وما هي طبيعتها ومضمونها.
اغتيال رابين بمثابة اغتيال للتسوية
في كل الأحوال باغتيال رابين اغتالت المؤسسة الإسرائيلية عملية التسوية، وأضاع رابين نفسه فرصة استثمار اللحظة السياسية التي ولدها توقيع الاتفاق في حديقة البيت الأبيض لمكاشفة الإسرائيليين بأن هذا المسار، وكي ينجح يجب أن ينتهي بإقامة دولة فلسطينية، وقد اعتبر رون بونداك عرّاب أوسلو في حديث مباشر معه قبل وفاته بأسابيع قليلة في نيسان عام 2014، أن اخفاق رابين في هذا الشأن شكل السبب الرئيسي الأول الذي أدى لفشل الاتفاق وطي صفحته بعد اغتياله، كما اعتبر في ذات اللقاء أن موقف شمعون بيريس الرافض لإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع شكل السبب الرئيسي الثاني لذلك الفشل، حيث وكما أكد بونداك أن رؤية بيريس للدولة الفلسطينية لم تتجاوز يوماً حدود قطاع غزة، رغم ادعاءاته المستمرة بأن إقامة دولة فلسطينية هي حاجة ومصلحة استراتيجية لأمن إسرائيل. طبعا لم يعفى بونداك الرئيس عرفات من مسؤولية الفشل، ولكنه حصر الأمر بفشله في مخاطبة المجتمع الإسرائيلي، واقتصار جهده على محاولات استرضاء المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية لكسب ثقتها، وتأكيد جديته للمضي بهذه العملية دون اكتراث جدي بدور المجتمع الإسرائيلي ذاته.
اعتراف متبادل أم اعتراف باتجاه واحد؟
إذن باغتيال رابين، ومن ثم اغتيال أبو عمار، تم دفن أوسلو، ومعه تم من وجهة نظر إسرائيلية، القضاء على إمكانية بأن تفضي العملية السياسية التي تآكلت مرجعياتها تدريجياً، من إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة، وقد جاء الانقسام الفلسطيني، الذي اعتبره شمعون بيريس، الإنجاز الاستراتيجي التاريخي والأكثر أهمية بعد إنشاء دولة إسرائيل، الأمر الذي يؤكد حديث بونداك حول حقيقة موقف بيريس من إقامة دولة فلسطينية، فهو أول من يعلم أن إخراج غزة من معادلة الديمغرافيا، تشكل المعول الاستراتيجي لإهالة التراب على إمكانية موافقة إسرائيل على الاستقلال الفلسطيني بدولة مستقلة ذات سيادة، فالحديث عن استحقاق مثل هذه الدولة، لم يكن يوماً، من وجهة نظر حتى اليسار وطبعا يسار الوسط، أكثر من وسيلة لضمان نقاوة الدولة اليهودية من الفلسطينيين، الأمر الذي يعتبر واحدة من أهم قضايا الإجماع الصهيوني. ذلك بالإضافة إلى التنازل التاريخي الخطير الذي قدمته منظمة التحرير في رسائل الاعتراف المتبادلة، والذي تضمن لها القفز عن الحاجة لوفد مدريد واشنطن، والجلوس العلني على منصة توقيع الاتفاق في البيت الأبيض، عندما اعترفت المنظمة ليس فقط بإسرائيل، بل بحقها بالوجود بأمن وسلام، مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة، والذي في تلك الحالة كان حاجة إسرائيلي لتوثيق وترسيم التنازل التاريخي بالاعتراف الذهبي من قبل المنظمة بمضمون الرواية التوراتية. طبعاً هذا بالإضافة لتعجل قبول ما يسمى بتبادل الأراضي والذي تحول مع الزمن لبطاقة خضراء تسمح لإسرائيل بمواصلة الاستيطان بذريعة واهية أن ذلك يأتي في إطار ما يسمى بالتبادلية، والتي تحولت إلى إملاء وفرض الأمر الواقع الاستيطاني وصولاً إلى تحوله لسياسة رسمية معلنة تتنافس على تحقيقها مجمل الأحزاب الإسرائيلية لكسب صوت الناخب الإسرائيلي الأمر الذي يشكل المؤشر الأخطر لتحولات المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرف، وعلينا أن نعترف أن ذلك تم من خلال إخفاقات فلسطينية تفاوضية خطيرة ليس فقط على المستقبل الفلسطيني بل وعلى مستقبل الحل السياسي ذاته.
الانقلاب الاسرائيلي على التسوية
هذه المحطات العاجلة حول مآلات أوسلو، ومن ثم نجاح باراك في الإطاحة الشاملة به بعد تمكنه من إفشال مفاوضات كامب ديڤيد، واستدراج الحالة الفلسطينية لمربع العنف المتبادل من خلال السماح لشارون بزيارة المسجد الأقصى، وإخراج الخطط العسكرية المعدة مسبقاً من إدراج وحدة التخطيط التابعة لهيئة أركان جيش الاحتلال، بما في ذلك خطط إعادة احتلال مدن الضفة الغربية، بهدف تدمير مؤسسات السلطة الوطنية التي شكلت، وبكل ما اعتراها من نواقص وغياب رؤية للبناء وفلسفة للحكم، الإنجاز الوطني الذي كان، وما زال من الممكن أن يشكل نواة دولة الاستقلال، وركيزة استراتيجية الصمود في مواجهة الاحتلال، وهو الأمر الذي حاولت حكومة رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض إعادة تثبيته على الصعيد الداخلي وفي الوعي الدولي وكذلك الإسرائيلي، فيما بات يعرف “بخطة العامين لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة” من حيث التصدي لمحاولات تأييد ما يسمى بالمرحلة الانتقالية التي باتت مفتوحة. وبمحاولة جادة لإعادة بناء وترسيخ مفهوم دور مؤسسات السلطة كركيزة لتعزيز صمود المواطنين وقدرتها على البقاء ومواجهة مخططات الاحتلال، رغم إدراك فياض نفسه بأنه لا توجد أية فرصة في المدى المنظور لتحقيق تسوية سياسية مقبولة فلسطينياً قائمة على أساس حل الدولتين، ببساطة لأن النظام السياسي في إسرائيل غير جاهز لمثل هذه التسوية، ولكن مسؤوليتنا الوطنية تتطلب معالجة وترميم أوضاعنا الداخلية وإعادة بناء مؤسساتنا التي دمرها الاحتلال وتخليصها من كل ما علق بها من شوائب، كما أن هذه المسؤولية تكمن أيضاً في عدم تمكين حكومة الاحتلال من الهروب من هذا الاستحقاق، فما بالك عندما ينجح ليس فقط في ذلك الهروب، بل وينجح في تحميل الفلسطينيين المسؤولية، خاصة باستثماره لحالة الانقسام المستمرة.
فشل السلطة في دمج المعارضة
للأسف، في الوقت الذي لم تبذل فيه السلطة الوطنية منذ نشأتها جهداً حقيقياً لدمج المعارضة بمشاربها المختلفة في العملية الوطنية، واحترام حقها في معارضة اتفاق أوسلو، إلا أن المعارضة أيضاً، وخاصة الإسلامية منها سيما حركة حماس، لم تكن إيجابية على الاطلاق في نظرتها لاستحقاقات العملية الوطنية الداخلية، ولأهمية بناء أسس الكيانية الوطنية على المتاح من أرض فلسطين “على كامل حدود عام 1967″، حيث مارست دور الرفض المطلق لهذا المسار، بل، وعملت على تدميره، وتعاونت مع قوى إقليمية وعربية لم يرق لها هذا الاتفاق، فسعت لإضعاف مكانة المنظمة في إطار هذا المسار. ودون تجني يمكن القول أنه كان لهذا السلوك الأثر الواضح لتمكين الاتجاهات الإسرائيلية المتشددة في معارضتها لأي تسوية سياسية من الانقضاض عليها، وتدمير ما أنجز فلسطينياً من خلالها.
تنافر دور السلطة والمعارضة
الأداء المتنافر وغير المنسق من قبل كل من السلطة والمعارضة إزاء مضمون عملية البناء أعادت للأذهان التحذير الذي سبق وأطلقه الرئيس أبو مازن في اجتماع المجلس المركزي أكتوبر 1993، من أن أوسلو يشكل منعطفاً، وأنه على مدى نجاح أو فشل أدائنا الداخلي، يتوقف فيما إذا كان سيفضي لإمكانية إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة، أو أنه سيرسخ هذا الاحتلال. وهنا، فإن من حقنا أن نسأل الرئيس أبو مازن والقيادة السياسية؛ هل الأداء الرسمي الفلسطيني الراهن يطمئن الناس بأننا نسير به نحو الخلاص من الاحتلال ؟! أم أننا انزلقنا في طريق آخر لا يمكن في حال الاستمرار به، وعدم العودة عنه، أن يؤدي بنا سوى، ليس فقط، ترسيخ الاحتلال بل، وربما في ظل الانقسام وتداعياته، إلى ما هو أخطر من ذلك، كما أنه من حقنا الطبيعي أن نسأل كيف لنا أن نخرج من هذا الطريق الذي يأخذنا جميعاً بما في ذلك القيادة ذاتها نحو الهاوية الحتمية.
الانقسام ضربة قاصمة للتمثيل الموحد
لا يختلف اثنان على أن الانقسام واستمراره شكل ضربة قاصمة للمشروع الوطني التحرري وللحركة الوطنية المعاصرة بأجنحتها المختلفة، كما شكل ضربة موجعة لوحدة النضال والتمثيل الوطني الموحد الذي عبرت عنه منظمة التحرير في مرحلة النهوض الوطني الشامل، كما أوجد حالة من الإحباط الشعبي وتغييب الأمل التي توظفها حكومات الاحتلال المتعاقبة، ليس فقط للإفلات من العقاب، أو من مساءلة أدوات القانون الدولي، بل وتشكل عصب استراتيجيتها لمحاولة كي وعي الفلسطينيين إزاء حقوقهم الوطنية كما عرفتها الشرعية الدولية، تمهيداً، كما تسعى إسرائيل، لإخضاعهم لمخططاتها في فرض الحل الإسرائيلي، الذي يعود مجدداً لإنكار الحقوق الوطنية لشعبنا، ويعيد مرة أخرى هيكلة مؤسسات الاحتلال، ويضع على أجندة عمل حكوماته المتعاقبة، بغض النظر عن اتجاهاتها، قضايا الضم والتهويد لخطة ترامب “صفقة القرن”، والتي قد تحمل في ظل غياب المراجعة المطلوبة خطر التصفية والترحيل.
فشل تجميد الاستيطان و مأزق المشروع الصهيوني
إن فشل مسار التسوية يضع أيضاً إسرائيل في مأزق ربما أكثر تعقيداً من الأزمة التي تعاني منها الحالة الفلسطينية، فالقضاء على ما يسمي بتسوية حل الدولتين، والذي يدخل إسرائيل بكامل ثقلها ومأزقها في براثن نظام الأبارتايد العنصري، وما سيجلبه من صراع دموي طويل الأمد، لكنه لن ينجح في ترحيل الفلسطينيين عن هذه البلاد مهما كان الثمن، إلا أنه يطرح مجدداً مقولة الدولة الواحدة لكل مواطنيها على أنقاض دولة الأبارتايد التي تتشكل في كل مفاصل مؤسسات دولة الاحتلال، الأمر الذي لم يغب عن كوابيس زينچر ذاته حيث يؤكد في المقابلة المشار إليها أعلاه “الإخفاق في تجميد النشاط الاستيطاني خلال فترة الحكم الذاتي”، فيقول “من الصعب الآن تخيل كيف سيكون أي رئيس وزراء إسرائيلي، حتى الأكثر رغبة، قادراً سياسياً على طرد 400.000 مستوطن يهودي من الضفة الغربية، وإذا انتظر المرء 25 سنة أخرى، فمن المرجح أن يكون هناك مليون مستوطن للإخلاء. باختصار، أنا غالبا ما يكون لدي شعور من نوع أنني لو كنت أقل نجاحاً في أوسلو وسمحت للجانب الفلسطيني بتسجيل نصر في قضية تجميد الاستيطان، لكان بإمكاني أن أنقذ إسرائيل من الحل الافتراضي للدولة الواحدة، أنا بالتأكيد لدي شعور من الموت الوشيك في هذا الصدد”.
ما العمل ؟
إن خارطة الطريق الوطنية باتت معلومة للقاصي والداني. فاستخلاصات مآلات أوسلو وما حملته من فشل ومخاطر يدفع ثمنها الناس، كل الناس، سواء من حياتهم ومن لحمهم الحي، أو من أمنهم ومستقبلهم وأبناءهم في هذه البلد. وإذا كان أوسلو قد تسبب في تمزيق الوحدة الوطنية ليس فقط بين موالاة ومعارضة، بل وبين داخل وشتات، بين قدس، وأراضي 48، ولاحقاً بين غزة وضفة، فإن هذا الحصاد المر، يستدعي المراجعة التي يجب ألا تقتصر على ضرورة وحدة القوى السياسية على أهمية ذلك، بل ويتطلب بلورة مشروعاً وطنياً جامعاً للكل الفلسطيني. يكون لكل تجمع من تجمعات الفلسطينين دوره في متابعة إنجاز هذا المشروع، دون إسقاط أو استثناء أياً من هذه التجمعات في إطار إعادة بناء الهوية الوطنية الموحدة، والتي سعت إسرائيل من خلال إدارتها لمضمون أوسلو تمزيقها، وإعادة بناء مؤسسات الوطنية الجامعة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وتأكيد أولوياتها في الكفاح الوطني لإنهاء الاحتلال ومواجهة الطابع العنصري لمشروعه الاستراتيجي واعتماد استراتيجية كفاحية ركيزتها الصمود الميداني الذي تقود عملية تنفيذه حكومة وحدة وطنية لتعزيز الصمود السياسي الذي تقوده منظمة التحرير الائتلافية الموحدة. ذلك كله في ظل إعادة الاعتبار للمؤسسة والمواطنة والحق الدستوري للمواطن لانتخاب وتجديد ومساءلة قيادته على كافة المستويات.
إن هذا يتطلب وقف استمرار اللهاث خلف مفاوضات، لا يمكن في ظل الحالة الراهنة أن تفضي سوى إلى مزيد من التغطية على المشروع الاستيطاني الاستعماري، إن هذا لا يعني إلغاء مبدأ المفاوضات، أو الانسحاب من التزاماتنا مع المجتمع الدولي، الذي عليه أن يقوم بمسؤولياته لإجبار إسرائيل على الاعتراف بحقوقنا الوطنية أولاً حتى تكون العودة للمفاوضات ذات مغزى للبحث في كيفية تنفيذها، وليس الاستمرار العقيم في التفاوض على فيما اذا كان لنا حقوق أم لا! وهذا يتطلب منا عدم إضاعة المزيد من الوقت في الخلاف حول ما يسمى بحل الدولة الواحدة أو حل الدولتين، فما نحن بحاجة له، وعليه نتوحد هو النضال لإنهاء الاحتلال وانتزاع وممارسة حقنا في تقرير المصير، وما يتطلبه ذلك أيضاً من الاتفاق على نبذ الهيمنة والإقصاء والتفرد، واعتماد استراتيجية صمود عنوانها المواطن ومكانته في العملية الوطنية والديمقراطية، ومعالجة كل آثار ومخلفات الانقسام، وفي مقدمتها تفشي ظواهر الفساد والولاءات الجهوية وهدر المال العام، واستعادة أدوات المساءلة البرلمانية والشعبية وغيرها من أدوات المساءلة والمحاسبة.