

لا يرتبط نجاح أي مشروع استعماري عبر احتلاله الأرض فقط، بل وأيضا من خلال احتلاله الرواية والتاريخ واللغة السائدة. كان هذا ولا زال دأب المشروعات الكولونيالية عبر التاريخ: الجيش يحتل الأرض، والدعاية الخطابية تحتل فضاءات الرواية والاعلام والتعليم وإعادة صياغة التاريخ، بهدف إنتاج مفردات ووعي مزيف ولغة كسيحة تسوغ الإستعمار والإحتلال. وبسبب إمكانيات المُستعمر الهائلة، فإن آلته الكتابية والخطابية والإعلامية تُنتج أدبيات وكتبا ومواد إعلامية تعمل على فرض احتلالها على الشعوب الواقعة تحت الإستعمار، وتدفعها لاستبطان خطاب الاستعمار ذاته من دون وعي.
آلة الاستعمار العسكرية والإحتلالية تبطش بالأرض والناس، فيما تبطش آلته الخطابية بوعيهم وفهمهم. في إنجاح مهمة الاحتلال المُزدوج هذه، يساعد الاستعمار، عن قصد او سذاجة، افراد وجهات تنتمي الى الشعب الواقع تحت الاحتلال، إذ تتبنى مفرداته، وتنزع السمة الاحتلالية والإستعمارية عنه.
فلسطينيا نحتاج إلى انتفاضة وعي تعيد تحرير الخطاب المُستخدم في كفاحنا ومقاومتنا ضد المشروع الصهيوني الإحتلالي وتمثلاته الاستيطانية والعنصرية. نريد ان نتوقف عند كل مفردة وتعبير نستخدمه ونفحص اصلانيته ووطنيته، ونعمل على تنقيته من “الاحتلال الخطابي”. ونريد ان ننتج قاموس خطابنا الخاص والتحرري والذي ينفك تماماً ومطلقا عن قاموس خطاب المحتل والمستعمر الصهيوني. هذه السطور العجلى تتوقف عند تعبير “الجانب الإسرائيلي” الذي أصبح شائعاً الى درجة مُذهلة وصادمة في الخطاب الفلسطيني ليس الرسمي فحسب، بل والإعلامي العريض واحيانا يتسلل الى خطابات المقاومين من دون وعي وإدراك.
وُلد هذا المصطلح المُضلل رسميا مع اتفاقيات أوسلو وظل يتقدم ويترسخ تدريجيا ليحل محل الوصف الطبيعي والاصلي اي “العدو الإسرائيلي” او “المحتل الإسرائيلي”، وهو ما يلتقط جوهريا وصف وجوهر علاقتنا مع المشروع الصهيوني ماضيا وحاضرا. تعبير “الجانب الإسرائيلي” مُعقم تماماً من السمات الحقيقية والاصلية التي ينطوي عليها بداهة أي وصف لإسرائيل: بكونها مشروع احتلالي، عسكري، استعماري، استيطاني، باطش، وعنصري، وتوسعي. مفردة “الجانب” تطوح بكل هذا الجوهر وتقدم وصفاً حيادياً يتصف بسماجة وصفاقة مثيرة للأعصاب عندما يُستخدم في سياق الصراع والكفاح الفلسطيني اليومي ضد إسرائيل ومشروعها الاحتلالي والعنصري.
“الجانب الإسرائيلي” تعبير يخدم إسرائيل مباشرة، ويشرعن من دون وعي المشروع الصهيوني بشكل مُضاعف عندما يستخدمه الفلسطينيون، إذ يقدم شهادة مُتكررة فور استخدامه تُشير إلى انتهاء الصراع بمعناه الجوهري، والاستعاضة عنه بوجود “جانبين” متكافئين، قد يخطأ أحدهما هنا او هناك، لكن ذلك الخطأ يقع ضمن ما تتيحه السياسة ومناكفاتها. لذلك، نرتكب كفلسطينيين جريمة يومية ومتكررة في كل مرة نستخدم فيها هذه المفردة، ويجب ازاحتها من لغتنا السياسية المُستخدمة إزاحة مطلقة وكلية.
أكثر من يستخدم تعبير “الجانب الإسرائيلي” هو الرئيس الفلسطيني والسلطة الفلسطينية ومسؤوليها، ولن نستطيع ان نقنع الرئيس ولا سلطته بشرب حليب السباع واستخدام التعبير الحقيقي وهو “العدو الإسرائيلي”. لكن بالإمكان ويجب استخدام تعبير “المحتل الإسرائيلي”، لأن هذا التعبير يتسق مع الوضع القانوني الذي يصف الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى في سياق أوسلو الذي تعتمد عليه السلطة. في خطابه في الأمم المتحدة قال الرئيس الفلسطيني ان علاقة فلسطين والفلسطينيين مع إسرائيل هي علاقة شعب يقع تحت الاحتلال بقوة عسكرية مُحتلة، وحتى يثبت هذا القول فعلاً فإننا نُطالبه بإصدار تعميم رئاسي موجه الى كل وزارات السلطة، واعلامها بما في ذلك تلفزيون فلسطين، والناطقين بإسمها يشطب تعبير “الجانب الإسرائيلي” ويستخدم عوضا عنه وصف “المحتل الإسرائيلي”.