ليس تحاملا على روحي الخالدي – النقد العلمي و”الصنمية الثقافية”


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

في رده على مقالتي حول كتاب “السيونيزم” لروحي الخالدي (صفحة “ملتقى فلسطين” بتاريخ 10 آذار 2021) أشار الصديق العزيز سليم تماري الى عدة نقاط مهمة، وتاليا نقاشي معه حولها. ابتداءً، يقول الصديق تماري “انطلقت (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) من مهمتها الأخلاقية لإبراز النتاج البحثي والثقافي الفلسطيني، ونشره على أوسع نطاق عندما اخذت القرار في نشر هذا النص، بالاشتراك مع المكتبة الخالدية، ووضعه امام القارئ الفلسطيني والعربي لدراسته وتحليله والحكم عليه.” واستنادا الى هذا المنطلق فإن قراءتي ونقدي للنص هو تطبيق حرفي لما ذكره تماري وهو ما قمت بعمله بالضبط اي “دراسته وتحليله والحكم عليه”. ليس لدي بطبيعة الحال أي تحامل مسبق على روحي الخالدي وليس بيني وبين “شبحه” أي ثأر او حرب، بل على العكس اشرت في مقالتي انني مُنحاز لروحي الخالدي المؤرخ الرصين كما في كتبه السابقة ولست مُعجبا بروحي الخالدي الكاتب المتسرع في نصه عن الصهيونية. وابتداءً أيضا، وبالنسبة لي شخصيا، علّي الإشارة إلى انني ضد “الصنمية الفكرية والثقافية والسياسية” التي ترفع بعض الرموز الثقافية والسياسية الى ما فوق النقد، وتنتفض وتثور عندما يكتشف احدنا، في حالتنا مع مؤسسة الدراسات وروحي الخالدي، ان نصا ما كتبه احد هؤلاء الرموز مليء بالاختلالات العلمية والتاريخية، وان اطلاق وصف “اول دراسة علمية” عليه هو امر غير علمي ويجب التراجع عنه. النقد هو الآلية الوحيدة التي نرتقي به بحثيا وعلميا وسياسيا واجتماعيا ودينيا.

ذكرت في مقالتي انه اذا كان لا بد من نشر نص روحي الخالدي كما رأت المؤسسة والمكتبة الخالدية، فقد كان من الضروري اضافة عنوان فرعي هو “مخطوطة غير مكتملة” (وليس “اول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية”). ولم تكف مقدمة وليد الخالدي وشرحه المسهب عن النص ووضعه له في السياق التاريخي الخاص به، في التخفيف من وطأة تبجيل النص ومنحه مكانة عالية.

في الواقع لا تشير مقدمة وليد الخالدي للكثير من اختلالات النص بل تنحاز له مدحا وإعلاءً، وتنسب الى روحي الخالدي مقولات ومواقف وآراء تحليليه ليست له بل منقولة عن نصار والموسوعة اليهودية. مثلاً، يقول وليد الخالدي في مقدمة الكتاب: “… إزاء ما تقدم كيف يفسر روحي ظهور الصهيونية الحديثة؟ يعزو روحي هذا الظهور الى عاملين رئيسيين: تنامي اللاسامية، و”انتباه الشعور القومي” بصورة عامة في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والملاحظ ان هذا التفسير ورد في ترجمة نصار، وهو تفسير ذو درجة من الصواب والسداد كما يبدو التقبل والاستحسان لدى روحي لمطابقته لقناعاته ومطالعاته.” والحقيقة ان هذين السببين ليسا من عند روحي الخالدي ولا من عند نجيب نصار أيضا، بل هما ما ترجمه نصار عن الموسوعة اليهودية، وما نقلهما الخالدي عن نص نصار المُترجم. نرى هنا سلسلة من الترجمة والاقتباس والتحوير وعدم الانتباه الذي انتهى بمؤرخ عريق بقامة استاذنا وليد الخالدي ليندرج في تلك السلسلة ويثني على روحي الخالدي ويعتبر التفسير الذي قدمه لنشوء الصهيونية على درجة من الصواب والاستحسان. كيف يقيم الصديق تماري او أي قارئ متمعن هذه المعالجة الكتابية، سواء الاصلية ام المحررة؟  وأين هو تحاملي عندما انتقد نصاً تخترقه مثل هذه الأمثلة من اوله الى آخره، وأليس ما أقوم به هو “دراسة وتحليل النص والحكم عليه بما يطرحه”؟

يقول الصديق تماري انه ليس من الموضوعي مطالبة روحي الخالدي بتقديم رواية غير توراتية تعتمد على تواريخ حقيقية تم الكشف عنها في عقود لاحقة، وهذا صحيح طبعا وليس هذا ما طالبت الخالدي به. لكن يبقى التساؤل قائما: حتى لو لم تتوفر الأدلة الآثارية والعلمية التي نقضت الرواية والجغرافية التوراتية في حقبة روحي الخالدي، هل معنى ذلك تبرير عجزه عن تقديم رواية إسلامية عربية فلسطينية بديلة؟ هل معنى ذلك ان أطروحة الصهيونية التوراتية كانت مُحقة في تلك السنوات بمطالبتها بفلسطين، وكان علينا ان ننتظر لمنتصف القرن العشرين وظهور ادلة اركيولوجية لتنقضها؟ وفي سياق ذي صلة، عندما اشرت الى غياب شعب فلسطين في نص الخالدي فلم اقصد بطبيعة الحال التبلور الهوياتي القومي للشعب الفلسطيني كما تطور لاحقا، فأنا على وعي تام بأن حقبة الخالدي تداخلت فيها هويات العروبة والعثمنة والمناطقية، لكنني قصدت “اهل فلسطين” او الناس الذي عاشوا فيها عبر القرون والالفيات. هؤلاء غابوا عن النص، مقابل الحضور اليهودي الكثيف. هناك مصادر عديدة أوروبية عامة واستشراقية توفرت في حقبة الخالدي، وخاصة في مكتبات السوربون التي درس فيها، تحكي تواريخ المنطقة وفلسطين. ومنها تاريخ هيرودتس الذي كُتب في سنوات 450 الى 420 قبل الميلاد وفيه رصدَ “اب التاريخ” زيارته لسورية وفلسطين وما رآه فيها واحاديثه مع سكانها ولم يذكر في تاريخه ذاك أي إشارة الى “مملكة إسرائيل” او الرواية اليهودية. يقول هيرودتس، على ما ينقل نور مصالحه في كتابه الأخير الهام الى انه زار “جزءً من سورية يسمى فلسطين، وقد رأيته بنفسي”، ويصف بالتفصيل مدينة عسقلان التي كانت احدى اهم منارات العلم آنذاك، ويذكر وجود معبد ل “افرودايت” فيها وهذه كانت روحانية التعبير عن الحب، بخلاف “افرودايت” الاغريقية الأكثر شهرة والتي كانت بشرية التعبير عن الحب، ويستطرد مصالحه في الوصف ان فلسطين التي زارها هيرودتس كانت متعددة الأديان والاعتقادات.

انتقدت وانتقد تضمين الخالدي للرواية التوراتية من دون نقد ونقض سوى ورود كلمات وتعبيرات مثل “اوهامهم” و”مزاعمهم”. لقد منحَ النص عشرات الصفحات للرواية اليهودية، ولم نرَ تدخلاً معقولا من قبل الخالدي سوى تطعيم تلك الصفحات بكلمات عابرة مثل “يعتقدون”، “يقولون في كتبهم”، وسوى ذلك، مما لا يقدم أي قراءة تحليلية للصهيونية. لكن هناك ما هو اهم، وهو القول بأن روحي الخالدي كان يتبنى رواية إسلامية (لذلك كان يكثر من السلام على الأنبياء دواد وسليمان، حتى لو كان الاقتباس من التوراة او التلمود)، وفي ذلك ايحاء وكأن الروايتين متطابقتين. الرواية التوراتية التي تقدمها الموسوعة اليهودية تحت مدخل “الصهيونية” مبنية من أولها الى آخرها على فكرة تخليق تطابق بين اليهودية والصهيونية من خلال أطروحة “العودة الى ارض الميعاد”. بكلام آخر، هناك إعادة انتاج للمرويات اليهودية وانتقائية وتركيز وتقديم وتهميش للنصوص والكتب والمقولات الدينية بحيث تنسجم مع الدعوة الصهيونية. وهذا ما ورط روحي الخالدي في مقولات خطيرة مثل القول “فإنها جمعيا (أي الكتب الدينية من التوراة والتلمود والآداب العبرانية) تحرض اليهود على الرجوع الى فلسطين”، وهذا ليس صحيحا، لأن هذه العودة مرتبطة بظهور مشياح يهودي في آخر الزمان بحسب تلك الكتب. وكذلك استسهال التعبير بأن فلسطين هي ارض اجداد هيرتزل كما يرد في النص التالي (صفحة 75): “فالدكتور هرتسل لم يتكلم في رسالته عن الصهيونية ولا ذكر فيها اسم فلسطين بل أراد تأسيس دولة يهودية ولم يعين لها مكانا. والحقيقة ان الدكتور هيرتسل عندما نشر رسالته وجه انظاره نحو بلاد اقل تاريخا وأكثر خصبا من ارض اجداده الاقدمين. فليت شعري ما السبب الذي حمل هيرتسل على ان يحول نظره نحو فلسطين؟”. لاحظ تعبير “ارض اجداده الاقدمين”! ما علاقة هرتزل الأوروبي النمساوي بفلسطين، وهل جاء اجداده منها؟ لا يحتاج روحي الخالدي الى الاكتشافات الاركيولوجية الحديثة حتى يعرف ان غالبية يهود أوروبا قدموا من يهود مملكة الخزر التي تحولت الى اليهودية في القرن التاسع الميلادي وكانت فاصلا بين المسلمين والبيزنطيين. قارئ نص مخطوطة الخالدي يخرج بخلاصة اكيدة هي ان بني إسرائيل الذين وجدوا في زمن ما في تاريخ فلسطين الى جوار من سبقوهم ومن تبعوهم من أهلها، هم اجداد “إسرائيل” الصهيونية الراهنة، وهذا وحده يكفي لانتقاد المخطوطة. كل ما سبق لا علاقة لها بالرواية العربية (الفينيقية والكنعانية) السابقة في تواريخها وجود اليهود في فلسطين، ولا الرواية الإسلامية التي لحقتها.

ختاماً، علّي ان أقول بأنني مدين لهذه المخطوطة وللكتاب “السيونيزم” بأمر لم اخطط له مسبقاً ولم يكن في وارد اهتماماتي البحثية، وهو الفضول الذي ثار عندي لدراسة جوانب حياة روحي الخالدي بعمق اكثر، والبحث في اهتماماته وكيف كان يفكر ويكتب وكيف ترتبت أولوياته. ولماذا مثلاً لم يُنتج كتابا عن الصهيونية يعتمد فيه على مصادر صهيونية أولية خاصة وانه قضى في فرنسا خمسة عشر عاما من حياته (بين باريس وبوردو)، هي الأهم من ناحية النضج الفكري والعلمي وسعة المعرفة؟ فرنسا كانت أحد اهم الساحات التي برزت فيها الصهيونية، واللغة الفرنسية كانت اللغة التي يستخدمها هرتزل في رسائله ومخاطباته ولقاءاته مع السياسيين (وبها تحدث مع السلطان عبد الحميد في لقاءاته عبر مترجمين). وكتاب هرتزل “الدولة اليهودية” الذي صدر عام 1896 بالألمانية تُرجم الى الفرنسية على الفور. هل اطلع روحي الخالدي على الكتاب بترجمته الفرنسية؟ ولماذا لم يكتب عنه؟ لماذا يترجمه في حينه؟ ولماذا لم يقتبس منه في “مخطوطته” واعتمد على ما ورد من إشارات واقتباسات منه جاءت في نص نصار منقولا عن الموسوعة اليهودية؟ ورغم إشارة وليد الخالدي الى ان روحي رجع الى كتاب هرتزل فإن التفحص المُدقق في نص المخطوطة يشير الى عكس ذلك بدليل بعض الأخطاء التي نراها في نص روحي، مثل الإشارة الى ان كتاب هرتزل صدر عام 1895 فيما صدر في السنة التالية، او القول بأن هرتزل لم يذكر فلسطين في كتابه ذلك، والصحيح انه ذكرها بوضوح.

هل هناك تحامل على روحي الخالدي عندما نلتقط هذه الأخطاء بحثيا وعلميا؟ وهل نكون مُتحاملين إذا تساءلنا لماذا لم يتابع روحي الخالدي، وهو المتمكن لغويا وبحثيا وصحفيا وسياسيا، النشاط والكتابات الصهيونية في الصحف الفرنسية والمنتديات ولم نرَ إثر ذلك في مخطوطته؟ لماذا لم نرَ وجودا “اصليا” ل “ماكس نورداو” اليهودي الفرنسي الذي كان الذراع اليمين لهرتزل والمقيم في باريس واحد اهم الرواد الصهيونيين الأوائل، من خلال كتاباته ومقالاته عوض نقل بعض الإشارات العابرة من نص نجيب نصار؟ مجال هذا كله قراءة أخرى قادمة.

ليته لم يُنشر! كتاب “السيونيزم أي المسألة الصهيونية” لروحي الخالدي

 

ليته لم يُنشر! كتاب “السيونيزم أي المسألة الصهيونية” لروحي الخالدي

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *