ليست مرثية لإميل حبيبي..الإنسان في جوهره
عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا بإقصاء الراحل إميل حبيبي، في نهايات الثمانينات، تعاظم لديّ الشعور بإمكانيّة أن تكون الأحزاب التي تدّعي ضلوعها بالتحرير (تحرير الإنسان والوعي) في منتهى القسوة والظُلم. وكنتُ طالعت قبل ذلك الكثير من الأدبيات المتّصلة بقسوة الأطر الإيديولوجية الثوريّة واليساريّة وولع بعضها بالمحاكمات الميدانية التطهيريّة والتطهّرية (أبدع الحكم الستالينيّ في ذلك أيّما إبداع). فهي، في منطقها الداخليّ، بحاجة إلى أعداء خارجيين وداخليين، كي تحفظ صورتها النقيّة تجاه نفسها وتجاه غيرها لا سيّما تجاه أطر تُشبهها!
كل ما فعله إميل يومها أنه، بحسّه ومنطقه كمثقف يقرأ حركة التاريخ واستحقاقاتها، دعا إلى تبنّي حركة البيروسترويكا في الاتحاد السوفييتي وإلى تجديد طاقات الحزب هنا ومراجعة نقدية لسيرته ومسيرته وأدائه في مستوى التنظيم والفكر. وقد سمعته مرات يُنادي بعقد مؤتمر استثنائيّ لإجراء هذه المراجعة وتحمّل القيادة مسؤولياتها وتقديم استقالتها. من هنا كانت الطريق قصيرة إلى إقصائه بالكامل عن صفوف الحزب وعن رئاسة تحرير جريدة “الاتحاد” التي كنتُ عضو هيئة تحريرها. وكانت محاولات سحب “الاتحاد” منه بدأت قبل ذلك حينما اعتمد إميل “خطّا فلسطينيًا” واضحًا، فكان البعض يشي به برسائل إلى الأطر العليا للحزب متّهمًا إياه بالانزياح عن “مبادئ الشيوعية اللينينيّة”!
لعلّ أشدّ ما آلم إميل يومها أن كثيرين ممن علّمهم الحزبَ والسياسةَ ورعاهم حتى كبروا وفازوا بالمناصب انخرطوا في حملة تشويه اسمه وإرثه. أمّا حصوله على جائزة إسرائيل للأدب في العام 1992 (سأهتمّ بهذا الفصل في وقت لاحق) فقد كان ثغرة أخرى نفذ منها الهجّاؤون والمتطهّرون والمزايدون من كل جهات الإقليم لا سيّما من حيفا وسائر الجليل! في المحصّلة، وجد إميل نفسه ضحيّة حزبه و”بعض شعبه”. إلّا إن هذا الحزب عاد ليجيّر صورة إميل وينشرها مع مجموعة صور لقيادات راحلة هي مصدر فخر واعتزاز وشهادة موثوقية وطنيّة الحزب ومصداقيتها. وأنا على اعتقاد بوجوب ردّ الاعتبار له وعدم الاكتفاء بتجيير صورته.
سأذكر لإميل ثلاث مآثر من قبيل ردّ الاعتبار وحفظ الرصيد لصاحبه. وما سأورده هنا لا ينفي وجود نقود وملاحظات يُمكن أن يأتي بها غيري في قراءة سيرة إميل وإرثه.
المأثرة الأولى ـ أنه، وأكثر من غيره بكثير، أسس خطابًا سياسيًّا ثقافيًّا هويتيًّا شكّل في مضامينه ولغته ومفرداته عدّة لبناء هويّة الباقين في وطنهم بعد النكبة. وأنشأ نصوصًا سياسيّة وأدبيّة كاملة وواسعة الحدود أسهمت بشكل فاعل ومؤثّر في عمليّة البناء من جديد. والحزب مدين له أكثر من غيرها بأنه ـ الحزب ـ استطاع أن يجترح لغته ووطنيّته المترجمة إلى نصوص. أما من يقرأ الكتاب الذي وضعه إميل عشيّة مؤتمر الجماهير العربية المحظور (1980) سيُدرك ما أقول. كان معه رفاق ووطنيون عرفتهم وزاملتهم لكّنه كان أغزرهم وأكثرهم عُمقا وتأثيرًا وذكاءً. أو لنقلها بصيغة أخرى: لم يكتب “الحزب” نصًّا جديرًا واحدا بعد رحيله.
المأثرة الثانية ـ هي إحداثه نقلتيْن في مسيرة صحيفة “الاتحاد”. النقلة الأولى، من صحيفة نصف أسبوعيّة تصدر كل يوم ثلاثاء ويوم جمعة إلى صحيفة يوميّة. النقلة الثانية ـ هي تحويل الاتحاد من صحيفة حزب، ناطقة بلسانه، إلى صحيفة شعب بأكمله. ولهذا الغرض كان عليه أن يهيّئ البُنية المناسبة. فخطّط وأشرف على تنفيذ حملة مالية واسعة أفضت إلى شراء مطبعة هي الأحدث من نوعها في إسرائيل/فلسطين، إضافة إلى بناء مكاتب وخطوط توزيع الجريدة في كل المناطق. وكان خطّط وأشرف على مشروع الاشتراكات في الجريدة التي وصلت في ذروتها نحو 10 آلاف اشتراك. وهو مشروع ما كان ليولد ويمشي على قدميه بدون إميل وحكمته. وللمقارنة ـ اضطرّ الحزب إلى بيع المطبعة الأحدث في وقتها ككومة خردة عَ الكيلو بعد أن كان خزّنها في قبو حتى أكلها الصدأ، أما عن “الاتحاد”، فيُخبركم مَن بقي هناك مِن القرّاء.
المأثرة الثالثة ـ تتّصل بإرثه الأدبيّ وتجربته الكتابيّة الممتدّة على عقود. كان ذلك قصّة قصيرة أو رواية أو مسرحيّة أو مقالة، فقد كان كل نتاجه إبداعيًّا ومميّزًا في لغته وجماليّته. والأمر لا يقتصر على رائعته “المتشائل” (بالاختصار) كما يُحاول كثيرون اختزال تجربة إميل الإبداعية، بل هو بشأن فعل الكتابة المتعدّد الأشكال وصولًا إلى شكله الأرقى في الرواية. وأنا، أعترف، أحببته من مقالاته التي نضحت أدبًا ولغة ملوّنة وفرادة وفكرًا.
لإميل مآثر أخرى، ومنها فسح المجال والطرق أمام المبدعين واستعداده للبوح والاعتراف والبكاء والاعتذار والتصحيح والضحك والسخرية. إميل، وإن رحل أو ظلمه ذوو القُربى، ينبغي أن يُنصفه الذين يبحثون عن الجوهر البشريّ، ليس في الإيديولوجيا النكِدة أو تلك “المقصوصة الملصوقة”، بل في الإنسان كما هو!