الفسحة التي أتاحها الحوار الوطني بلا سقوف، أخرجت للعلن ولأول مرة أصواتاً عالية وإن تكن محدودة تتحدث عن تطبيع ضروري مع اسرائيل لإصلاح علاقات السودان مع الأمم المتنفذة في أمريكا وأوربا . ولقد سمِعت الساحة السودانية من قبل أصواتاً خجولة تدعو لذات الأمر ولكن مظلة الحوار الوطني أتاحت هذه المرة غطاءً كافياً لبروز مثل هذه الأصوات، بل والزعم أن هذا الاتجاه هو الغالب في أروقة لجنة العلاقات الخارجية في مؤتمر الحوار الوطني وهو زعم لا تصدقه الوقائع والمضابط.

أين تكمن الحكمة؟

تعاظم الضجيج حول مسألة التطبيع مع اسرائيل ووجدت له أصداءً في الصحافة العالمية عندما نقلت احدى الصحف نقلاً يفتقر إلى الدقة قولاً لوزير الخارجية في ندوة عقدت بين خبراء في مركز دراسات المستقبل حول تطور العلاقة مع الولايات المتحدة وفي تلكم الندوة أجاب وزير الخارجية د. إبراهيم غندور عن تساؤل أحد المتداخلين عن علاقة تحسين العلاقة مع أمريكا بمسألة التطبيع مع إسرائيل وكانت إجابة الوزير بأن الموضوع يمكن ان يدرس. وموضع الدرس هو لزومية العلاقة بين تحسين العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومسألة التطبيع مع اسرائيل. ولكن الصحيفة غير المأذونة بالنقل عن الوزير جعلت موضوع الدراسة هو مسألة العلاقة مع اسرائيل وليس قضية ارتباط تحسين العلاقة مع امريكا مع قضية التطبيع مع اسرائيل. هذا النقل الخاطئ الذي تناقلته من بعد وسائل اعلام داخلية وخارجية فتح الأبواب للتكهن بإمكانية تغير طبيعة العلاقة بين السودان واسرائيل وتحولها إلى نوع من المهادنة أو المقاربة حسب تطورات الأمور. ثم ما لبث الأمر أن أصبح مثيراً لجدل كثيف داخل وخارج السودان. وظن دعاة ما يسمى بالتطبيع أنهم قد حققوا تقدماً له ما بعده وخرج بعضهم في لبوس الحكماء الذين يقدمون مصلحة السودان على ايدولوجيا العداء الموروث، بيد أن هؤلاء لم يسألوا أنفسهم ما هي حالة الطبيعة في العلاقات السودانية الاسرائيلية التي يريدون للسودان أن يعود إليها مع الدولة العبرية حتى تعود الأمور إلى مجاريها؟ لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال لأن طبيعة الأمور في التاريخ والجغرافيا السياسية لا تؤتي دعواهم أن الحكمة هي التقارب مع اسرائيل وليس الحذر والممانعة والمقاومة.

برجماتيون بغير مبادئ

وهذه الثلة المحدودة من الاكاديميين من دعاة امتلاك الفهم السديد لإصلاح سياسة السودان الخارجية والذين يرون أن البراجماتية هي السبيل الأوفق لتحصيل مصالح البلاد لن يجدوننا على خلاف كبير مع منهج السياسة الواقعية Real politic ولا فلسفة البرجمانية الهادية إلى ذلكم المنهج. بيد أن أصحاب البرجماتية والمنهج الواقعي الأصلاء لا يرون اعمال هذا المنهج في عُرى كامل عن المبادئ. فلا تزال هنالك أوراق توت كثيرة تداري سوأة السعي اللاهث لتحصيل المصالح الوطنية بعضها متعلق بمبادئ الانصاف التي لا تختلف حولها الثقافات الانسانية وبعضها متعلق بحقوق الإنسان وكراهية التمييز العرقي والعنصري. ولذلك فدعاة التطبيع المزعوم عليهم أن يجتهدوا في تدعيم دعواهم هذه بأمور زائدة على مجرد المصلحة الوطنية. وإن كنا لا نسلم لهم بتحقيق المصلحة الوطنية الحقة بالتطبيع مع اسرائيل ولسوف نسوق الحجج لدعوانا هذه سوقاً فيما يلي من مقالات ومداخلات حول مسألة التصالح مع اسرائيل.

ولكي نبدأ بالمتفق عليه فنحن لا نرى أن الحوار الصريح حول العلاقة مع هذه الدولة أو تلكم الأخرى ولو كانت اسرائيل مما يجب ان يصنف في الممنوعات. فالسكوت ليس بنافع وإنما الأمر النافع المجدي هو بناء السياسات التي تعم بها البلوى أو تُجتلب بها المصلحة والمنفعة على بصيرة بعد الحوار الصريح والجدل الذي لا يبدأ ولا يتواصل إلا بالحسنى بين الفرقاء. حوار ليس فيه تبخيس لرأي أحدٍ من الناس ولا تخوين لمذهبه في النظر إلى الأمور. المسألة الثانية التي نتفق عليها هي أن اسرائيل أمر واقع وهي دولة قائمة. وليس أنكار الوقائع الملموسة يجوز أن يُوصف بالحكمة. ولكن التسليم بوجود الشيء لا يُلزم بالتعامل معه على وجه مخصوص. والوجه في هذه الحالة حسب مراد دعاة التطبيع الاعتراف القانوني بوجود غير قانوني. وشتان بين اعتراف بالواقع وبين كون الواقع واقع مشروع بل والذهاب أبعد من ذلك لإنشاء علاقة تعاون دبلوماسي وربما أبعد من ذلك مع ذلك الكيان الذي يمتلك كل المقومات التي تتصف بها الدول في عالمنا المعاصر بيد أنه يفتقر الى الشرعية القانونية والأخلاقية. والمسألة الثالثة التي يتوجب على جميع فرقاء الرأي الاقرار بها أن تأسيس علاقة أيما علاقة يقتضي حسن النوايا من جميع الأطراف ولن يكون كافياً أن يتحلى أحد طرفي العلاقة بحسن النية وينكفئ الطرف الآخر على فساد الطوية. أما أن تُغمض الاجفان عن الوقائع والحقائق لأن إصلاح ذات البين مع زيد لا يمكن انجازه إلا باسترضاء “عمرو” الذي لا يرضيه إلا ان نكون غير ما نحن عليه فهو وأيم الله مفارقة العقل الرشيد والرأي السديد فراق غير وامق ولا عائد. والمسألة الرابعة التي لا يجب ان لا يُختلف عليها هي أن تأسيس أية علاقة ثنائية دولية يغفل عن رؤية هذه العلاقة في إطار الجغرافيا السياسية الأشمل ووقائع التاريخ وحقائق الواقع لا يمكن نسبته إلى الحكمة والرشد مهما أدعى ذلك المدعون وتنحله المتنحلون.

إسرائيل وما هي اسرائيل؟

لا يمكن ان نتحدث عن علاقة تاريخية بين السودان واسرائيل لأن الأخيرة كيان محدث ناشئ، ولكن يمكننا الحديث عن علاقة بين السودان وشعب بني إسرائيل وبعض دويلاته التي نشأت على فترات متباعدة واندثرت مرة بعد أخرى. ولأن الكيان السياسي لليهود الذي يوصف بالانتساب لديانة ما لم يستمر كما لم تستمر كيانات سياسية نسبت نفسها للمسيحية وللإسلام، كان لابد للحركة الصهيونية من إعادة تأسيسه على مجموعة من التناقضات المستلة من تاريخ بني اسرائيل وأول هذه التناقضات هو قيام حركة لا دينية علمانية بالدعوة لإنشاء كيان دولة على أساس ديني. فالصهيونية التي أسسها غلاة العلمانيون غير الدينيين هي التي دعت ولا تزال تدعو إلى دولة يهودية خالصة لليهود دون غيرهم. وهي دعوة لا تنال من الاستنكار ما يضاهي استنكار دعوة بعض غلاة الإسلاميين إلى دولة اسلامية للمسلمين وحدهم لا يكون لسواهم حقوق مساوية فيها لما للمسلمين. وهذه الدعوة ليهودية الدولة تجد المناصرة من الدول المتنفذة تحت عنوانين مختلفة، أبرزها حل الدولتين الفلسطينية واليهودية. ويجب ملاحظة الفرق بين قبول ان تكون دولة اسرائيل يهودية ورفض ان تُؤسس الدولة الفلسطينية على أساس ديني ولو كان لا يضاهي رؤية اليهود لدولتهم. فحركة حماس وحركة الجهاد لا تدعوان إلى دولة اسلامية مثل دولة تنظيم الدولة الاسلامية تستبعد اليهود والنصارى وتنتقص من حقوقهم على أسس دينية وعنصرية كما تفعل اسرائيل وإنما تدعوان إلى دولة مدنية بمرجعية إسلامية يكون كل أهل الديانات جميعاً فيها سواسية في الحقوق والواجبات.

والتناقض الثاني في تأسيس الدولة العبرية أنها يراد لها ان تكون دولة على غرار الدول الديمقراطية الغربية. ولكنها ديمقراطية على أساس ديني أي أنها ديمقراطية لليهود وحدهم وليس لأحدٍ سواهم ولو كان أجداد أجداده قد ولدوا في هذه الأرض المقدسة. والتناقض الثالث للرؤية الصهيونية هي أنها تريد اسرائيل دولة قطرية ولكنها دولة بغير حدود لتوسعها الأفقي على الأرض وتوسعها الرأسي من حيث السيطرة التامة على محيطها الحيوي والنفوذ الفاعل حتى خارج محيطها الحيوي. فهي دولة مخصوصة لا يُعرف شعبها، لأن كل يهودي في مشارق الأرض ومغاربها هو من شعب تلكم الدولة لا يحول بينه وبين تحقق المواطنة فيها إلا أن يجيء إليها مهاجراً أو حتى زائراً. وأما أرضها فتمتد حسب الاساطير من منابع الفرات في تركيا إلى منابع النيل في أوغندا ومستند ذلك إلى الاساطير التي يراد نقلها من الإضبارات القديمة إلى واقع الحياة المعاش. وأما الأميون الذي يحيون في هذا الامتداد العريض من أقصى الفرات إلى أقصى منابع النيل فمصيرهم إلى الشتات (الدياسبورا) كفارة عن شتات بني اسرائيل. وما يحدث اليوم لشعب فلسطين هو الحلقة الأولى فيما ينتظر الشعوب القاطنة في أرض الميعاد، وأما السودان ففي قلب تلكم الأساطير المتكررة في توراتهم وتلمودهم .

وللحديث بقية بإذن الله،

أمين حسن عمر/  أستاذ جامعي ووزير سابق من السودان

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *